« السلام عليكم أهل بيت محمد مسكين من مساكين المسلمين اطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء فأصبحوا صائمين فلما أمسكوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه وجاءهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك فلما أصبحوا أخذ علي عليهالسلام بيد الحسن والحسين عليهمالسلام ، ودخلوا على الرسول صلىاللهعليهوآله فلما أبصرهم ، وهو يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال :
ما أشد ما أرى بكم ، وقام فأنطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها ، وقد التصق بطنها بظهرها ، وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبرائيل بالسورة ، وقال خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك فأقرئها السورة » (١).
وبين يدي هذه الآيات الكريمة والواقعة التي كانت السبب في نزولها نقف لنستفيد من نقاطها التالية دروساً قيّمة نكيف على ضوئها حياتنا لنسير على الخط الذي رسمه لنا هؤلاء القادة الابطال وبينوا الخطوط العريضة لنوعية العلاقة التي لابد من حصولها بين الإنسان وخالقة وبين الإنسان ومجتمعه.
( ويطعمون الطعام على حبّه ) :
هذا العلاقة الشفافة التي لا يشوبها رياء ، ولا يشوه منظرها من شيء من المقاصد والغايات الدنيوية كأنتطار جزاء من أحد ، ولا خوف من آخرين.
بل كل ما في البين هوحب الله والفناء في ذاته المقدسة ، وهو
__________________
(١) الميزان في تفسير القرآن عند تفسيره لهذه الآية.
الغاية لهم في كل عمل يقدمون عيله في هذه الحياة.
واطعام الطعام على حبه صورة من صور هذه العلاقة الأكيدة بين الله ، وعباده المؤمنين.
( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) :
عباد الله المؤمنين بهذه النفسية العالية يواجهون الطبقات الضعيفة المحرومة.
انهم لا ينتطرون منهم جزاءً ولا يريدون منهم التملق والشكر على ما منحوه لهم ذلك لأن الفقير ليس طرفاً للحساب معهم بل حسابهم مع الله ، والفقير إنما هو المسرح الذي يعرضون عليه صور حبهم لله سبحانه سواء كانت تك الصورة لمسكين ، أو ليتيم ، أو لأسير ، أوغير ذلك من القضايا والمشاكل التي تحيط بالمجتمع ككل وبالأفراد على نحو الخصوصية الفردية.
مع الحادثة التي كانت السبب في نزول الآيات :
وعندما تتأمل الحادثة التي كانت السبب في نزول هذه الآيات بما اشتملت عليه من نقاط حساسة نقول بالإمكان أن نستفيد منها الدروس التالية :
١ ـ فقالوا با ابا الحسن لو نذرت على ولدك نذراً :
يقول العائدون لأمير المؤمنين عليهالسلام لو نذرت على ولدك نذراً ، ويمتثل الأب العطوف ، والأم الحانية تتبعهما جاريتهما فينذرون لله ان عافى الحسن ، والحسين صاموا لله ثلاثة أيام.
ومن هذا الامتثال تتجلى روعة التقديس لله ، والحب له إذ
كان بأمكان الإمام أمير المؤمنين أن يتوجه إلى النبي محمد صلىاللهعليهوآله فيطلب منه أن يرفع يده إلى السماء ليدعوا لشفاء ولديه ، ولا بد من الاستجابة لأن الله لا يرد دعوة نبيه ، ولا يخيبه فيها ، وتنتهي المشكلة بسلام.
ولكن الإمام لم يسلك هذا الطريق لأنه كان يتحين الفرص لأن يتوجه إلى الله عبر صلاته ، أو صيام ، أو جهاد ، أو عمل فيه خير ، وما شاكل.
إن الدعاء يسد عليه هذا الطريق ، ويضيع عليه هذا الفرصة لذلك امتثل ابن أبي طالب ، ونذر صوم الأيام الثلاثة ، وتبعه موكب الإيمان يتمثل بنذر سيدة النساء ، وفضة جاريتها التي نشأت في هذا البيت الذي لا تسمع بين أروقته الا تلاوة القرآن الكريم ، أو الدعاء ، والتضرع إلى الله عز وجل.
٢ ـ وما معهم شيء فاستقرض علي عليهالسلام ثالثة أصوع من شعير :
علي عليهالسلام ، وهو صهر الرسول ، وابن عمه والمقرب عنده ، والذاب عن الإسلام.
وفاطمة بنت الزعيم الروحي ، والعسكري للمسلمين.
والحسنان ريحانتا رسول الله صلىاللهعليهوآله وولداه وحبه لهما أشهر من أن يتحدث عنه.
ومع كل هذا الخصوصيات نرى هذا البيت يخلوا من طعام يفطرون عليه مع ما عليه هذه العائلة من قلة العدد بحيث يضطر الإمام عليهالسلام أن يستقرض ثلاثة أصوع من شعير ليكون قوتاً
لهم في إفطارهم لصوم نذره لشفاء ريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله .
ولم يحدثنا التاريخ ان الرسول الأعظم ، وهو القائد الأعلى للمسلمين والأب الروحي لهم ، وولي الأمر ، ومن بيده بيت المال المسلمين رعى هذا البيت من الجهة المالية بأكثر مما كان يرعى يه بقية البيوت.
ان فاطمة بنت محمد : صلىاللهعليهوآلهوسلم والذي كان يقبل يديها ويقول مفتخراً ليعلم الناس بمكانتها عنده ( فاطمة أم أبيها ) ، ويسلم عليها عند خروجه من المسجد ، وفي طريق عودته منه عنده كبقية نساء المسلمين.
وعلي : وهو الذي اتخذه أخاً عندما آخى بين المسلمين بعضهم مع البعض عنده من هذه الجهة كفرد من أفراد المسلمين من الجهة المالية.
والحسنان : ولطالما رأى المسلمون النبي صلىاللهعليهوآله يطيل في سجوده لأن ، أحدهما جلس على ظهر جده فلا يريد أن ينحى لئلا ينزعج الطفل فيفسد عليه بسمته ، وفرحته.
هذا البيت الطاهر بهذه الأسرة الكريمة نراه خالياً من ثلاثة أصوع من الشعير يقتات بها أهله.
وهكذا تتجلى الأمانة علىالأموال ، والترفع عن مد اليد إلى أموال المسلمين وإن كان ذلك من مثل رسول الله صلىاللهعليهوآله وهوالولي ، والمشرع الذي لا يقف في وجهه شيء.
٣ ـ وفاطمة تطحن الشعير ـ ومن خلال هذا العمل تظهر عملية التكافل لتبرز بأجلى صورة عاطفية :
ففاطمة بنت النبي ، وزوجة أمير المؤمنين ، وأم الحسنين ، وسيدة نساء العالمين تتحمل المسؤلية بنفسها ، فتطحن الشعير ، وتخبزه ، وهي صائمة مع وجود خادمتها فضة في البيت.
هكذا فليكن العطف والنحو نحو الخدم ، والمساعدين ان الإسلام لا يريد من الفرد ان يفرض سيطرته على الأفراد بغض النظر عن شخصية هذا الفرد فالناس اكرمهم عند الله اتقاهم ، وهم كأسنان المشط لافضل لأبيضهم على أسودهم ، ولا العكس إلا بالتقوى.
وإنما أجاز أن يخدم بعضهم بعضاً بعنوان المساعدة ، ولقاء أجور يتقاضاها من يقدم الخدمة.
أما أن يكون ذلك سبباً لتسلط أحدهم على لآخر تسلطاً يشوبه الظلم والاستعلاء ، والتكبر فهذا ما لا يريده للمسلمين.
وحري بسيدات المجتمع وأمهات البيوت أن تكون هذه الحادثة هي المقياس للمعاملة مع الخدم والمساعدين ، وكل الطبقات الضعيفة المحرومة.
إن على ربة البيت أن تفكر أن الخادمة انسانة مثلها ، وليس على الله بعزيز ان يمكنها لتكون أم بيت مثلها ، ولكن لحكمة اقتضت هذا التفريق بينهما فتكون هي أم بيت وتلك خادمة.
ان التاريخ يحدثنا عن سيرة أهل البيت عليهمالسلام مع
خدمهم وجواريهم فيعطينا صوراً رقيقة لمعاملة حسنة تنسي الخادم ، أنه يخدم في البيت.
فهذا أمير المؤمنين عليهالسلام تقول مصادر التاريخ عنه انه كان يشتري الثوبين له ولغلامه قنبر ، ويخيره أولاً بانتقاء أحسنهما.
وفي صورة أخرى من صور العطف نرى الإمام زين العابدين عليهالسلام في مشهد من المشاهد المألوفة في تلك الأيام تصب الجارية الماء على يده فيقع الأبريق على رأسه أو يده فيشجه ، وقبل أن يلتفت الإمام إلى الجارية تسارع الجارية والخوف قد أخذ مأخذه منها.
فتقول للإمام : والكاظمين الغيظ.
فيجيب الإمام : كظمت غيظي.
وتعقب الجارية قائلة : والعافين عن الناس.
فيقول الإمام : قد عفوت عنك.
وتطمع الجارية في المسامحة التي تشاهدها من الإمام فتقول :
« والله يحب المحسنين » :
فيبتسم الإمام في وجهها قائلاً : أذهبي فأنت حرة لوجه الله.
صلوات الله عليكم يا أهل بيت النبوة ويا معدن الخلق ، والسماحة ، والكرم. بهذه المعاملة الطيبة تعاملون الطبقات الفقيرة كأنهم اخوان لا خدم فلا تشعرونهم بذلة الخدمة ، بل بعزة الإنسان الذي يتطوع لمساعدة أخيه.