نقاط على الحروف
“الاتفاقية الاستراتيجية” مع بغداد.. خلف ظهر واشنطن
خليل نصر الله
العام ٢٠٢٠ وإثر اغتيال الولايات المتحدة الأمريكية قائد قوة القدس الجنرال قاسم سليماني ورئيس هيئة الحشد الشعبي أبي مهدي المهندس، سارع البرلمان العراقي إلى إصدار قرار يطلب من القوات الأجنبية مغادرة البلاد.
بعدها، جهدت واشنطن عبر مختلف الأدوات لتعطيل مفاعيل القرار، وحصل توتر كبير على الساحة السياسية العراقية أفضى إلى إنتاج حكومة جديدة برئاسة مصطفى الكاظمي.
لاحقًا، وبعد أربع جلسات -أكثرها عبر الفيديو- أعلنت بغداد وواشنطن التوصل إلى توقيع “اتفاقية استراتيجية” فأعلن الأمريكيون سحب قواتهم “القتالية” من العراق في نهاية العام ٢٠٢١.
الوقائع كانت تشير إلى عكس ذلك، إذ إن واشنطن حافظت على وجودها العسكري، وفي القواعد ذاتها قالت إنها أخلت وجودها مع حلفائها منها وسلّمتها للجانب العراقي، وتحديدًا في العاصمة بغداد وشمالها وغرب الأنبار، فيما لم يتطرق أحد للوجود الأميركي العسكري الكبير في شمال العراق، أي في إقليم كردستان.
تصرفت المقاومة العراقية وقوى سياسية مناوئة لواشنطن، بمسؤولية، مع تأكيدها أن واشنطن لم تغادر البلاد وأن أي انسحاب لم يحصل.
كان واضحًا أن واشنطن عملت على إعادة تموضع لقواتها، سواء في العراق أم شمال شرق سوريا، وكثير من التصريحات الأمريكية كانت تؤشر إلى تقليص القوات من أجل بقاء طويل الأمد، وفي الواقع هذا ما طُبق فعليًا، علمًا أن نقل قوات وتخفيفها أو زيادتها ليس شرطًا أساسيًا للاستدلال من خلاله على الحركة الأمريكية الأساسية، فهو خاصع للحاجة والضرورة، حيث عملت واشنطن لاحقًا على زيادة القوات؛ بل وتزويد قواعدها بأسلحة جديدة خصوصًا مع بداية العام ٢٠٢٣.
مع بدء حكومة الكيان الإسرائيلي حربها على قطاع غزة بدعم أميركي مطلق، بعد عملية طوفان الأقصى، تحركت جبهات الإسناد في لبنان، اليمن، العراق ضمن خطوات محددة. وأخذت المقاومة العراقية على عاتقها استهداف القواعد الأمريكية في سوريا والعراق، وأهدافًا في فلسطين المحتلة بوتيرة أقل، الهدف كان تشكيل حالٍ من الضغط لوقف العدوان والتأثير على القرار الأمريكي القاضي بتغطيته.
فشل الأمريكيون في وقف الهجمات، ورغم التهديد بداية، والضغط على بغداد، حافظت المقاومة على عملياتها.
عملت واشنطن على التدرج في الرد العسكري، بداية داخل سوريا، ثم انتقلت الى العراق، مع استهدافات محددة، كل ذلك لم يمنع المقاومة من مواصلة ما بدأته، بل زادت من منسوب عملياتها ونوعيتها.
خلال الأيام الأخيرة، تعرضت القواعد الأمريكية لهجمات مكثفة، وهو ما يؤكد أن المقاومة في العراق ليست مردوعة، بل إنها ترفع من وتيرة هجماتها بعد أي اعتداء أمريكي.
لكن الملفت، هو ذهاب الأمريكيين نحو خطوة خرقت بوقاحة “الاتفاقية الاستراتيجية” التي وقعتها مع العراق، عبر تنفيذ عملية اغتيال واضحة بعد استهداف مقر رسمي للحشد الشعبي الخاضع رسميًا لسلطة رئيس الوزراء كون الحشد جزءًا من القوات المسلحة.
استهداف المقر وهو مقر دعم لوجستي، أدى إلى استشهاد عدد من عناصر الحشد بينهم القيادي في قيادة عمليات حزام بغداد في الحشد مشتاق طالب السعدي، وهو تابع لحركة النجباء.
سارعت الحكومة العراقية عبر بيان صدر عن مكتب رئيس الوزراء إلى وصف الاستهداف بالتصعيد الخطير، وأنه: “بعيد عن نص تفويض التحالف الدولي في العراق”، وهي إشارة واضحة إلى أن واشنطن لا تحترم الاتفاقات الموقعة، بل تتستر خلفها من أجل تنفيذ ما تراه مناسبا لمصالحها في المنطقة.
إن واشنطن قد ضربت الاتفاقية عرض الحائط، وهي تتصرف كقوة احتلال ما تزال موجودة، ولا يمكن التذرع بالهجمات التي تتعرض لها في سوريا وشمال وغرب العراق، للإقدام على خطوة من هذا النوع، وهي انتقامية ليس أكثر.
من الواضح أن واشنطن تواصل بذلك ضغطها على بغداد لوقف أعمال المقاومة العراقية، ولكن ذلك لن يغير من وقائع الأمور شيئًا، خصوصًا أن مفتاح الحل هو عند واشنطن التي تغطي الحرب العدوانية على غزة.
ممّا لا شك فيه أن المواجهة في المنطقة أخذت بعدًا أكثر شمولية، بعد سلسلة عمليات الاغتيال في دمشق وبيروت والآن في بغداد، لكن ذلك سيعني مزيدًا من التصعيد عند قوى المقاومة.
والواقع يقول إن الأمريكيين يمارسون خرقًا معتادًا للقوانين، وأن تشخيص المقاومات في المنطقة ومن بينها المقاومة العراقية في محله، عندما تؤكد أن واشنطن تمارس احتلالًا ولا تحترم عقودًا ولا اتفاقات، لذلك وجب الرد والتصعيد لأنها اللغة الوحيدة التي يفهمها أي محتل.