بعد انتهاء اجتماعات باريس بورقة ابتدائية على سبيل إطار التفاوض، تريثت حركة حماس في إعطاء ردّها، وكان تريثًا مدروسًا يحمل عدة رسائل، ليس أولها الارتياح الميداني عسكريًا وامتلاك كلّ الوقت، وليس آخرها التعبير عن وحدة موقف حركات المقاومة ووحدة حركة حماس عبر إعلان التشاور الداخلي والتشاور مع فصائل المقاومة، كذلك كان توقيت الردّ مناسبًا وشديد الدقة، حيث أُعلن عنه مع بدء زيارة وزير الخارجية الأميركي طوني بلينكن إلى الدوحة، قبيل توجهه إلى فلسطين المحتلّة للقاء مسؤولي الكيان.
هذا في الشكل، أمّا في المضمون، فإنّ الردّ كان واثقًا وذكيًا، حيث كان نتنياهو يعتمد على رفض حماس، وبالتالي تبرئة ساحته أمام الداخل الإسرائيلي، فهو استبق الردّ بتسويق فكرة استعداده لإبرام صفقة تبادل، حتّى لو أدّى ذلك لإسقاط الحكومة، لكن جاءت رياح الردّ بما لا تشتهيه سفن نتنياهو، ما يعيد إلقاء الكرة إلى ملعبه.
وقد كان الردّ متقنًا؛ حيث لم تستطع حتّى الولايات المتحدة، صاحبة قرار الحرب الأصيلة، إلّا أن تصفه بالإيجابي مع أنّه مبالغٌ فيه، ومبالغٌ فيه لا تعنى سوى أنّ حماس أنجزت ميدانيًا ويستحيل سحقها، لكن هذا لا يمنحها حق إعلان انتصارٍ بهذا الجلاء والوضوح، أمّا إيجابية الردّ بحسب توصيفات بايدن وإدارته، فهي تلحظ منح الكيان في ردّ حماس بعض الوقت لالتقاط أنفاسه وترتيب أوراقه قبيل الانسحاب التام إلى خارج القطاع.
ومنذ وصول بلينكن إلى فلسطين المحتلّة ولقائه نتنياهو، بدا في مصافحة نتنياهو ولغة جسد الرجلين ما تخفيه الغرف المغلقة، حيث كان رئيس وزراء العدو متعجرفًا وكأنّه بن غفير الذي يفتقر إلى أدنى مقومات الدبلوماسية واللياقة العقلية، وكأنّه يقول لبلينكن طالما هذه حربكم فعليكم تحمّل صلافتي واتباع رغباتي.
وكان ملفتًا أنّ بلينكن طلب الاجتماع برئيس أركان جيش العدو، لكن نتنياهو رفض الطلب، ومنع رئيس أركانه من الاجتماع ببلينكن، وهذا يعني أنّ نتنياهو بالغ جدًا حدّ الكذب في واقع جيشه الميداني، ما دفع بلينكن لطلب لقاء رئيس الأركان ليعرف ما يعرفه مسبقًا أنّ نتنياهو يكذب.
بلينكن يدرك أنّ الوقت لم يعد يعمل في صالح الكيان، ولا في صالح الولايات المتحدة، فهم كالمصارع الذي يقاتل وفي رأسه مسدس، مسدسّ تشكّله جبهات الإسناد لغزّة، في لبنان والعراق وسورية واليمن وإيران، وأنّ أيّ حركةٍ غير محسوبةٍ قد تؤدي لإطلاق رصاصة الرحمة على رأسه؛ خصوصًا مع الاندفاع الأميركي نحو التصعيد العسكري والأمني، ما يجعل انفلات زمام الأمور أقرب، لذلك فإنّه كلما مرّ وقتٌ أكثر زادت نسبة الخطأ أكثر، وعليه يصبح الوقت خطرًا جدًا ويتدحرج ككرة الثلج.
وهذا ما يجعل من الأسبوع القادم أو الأسبوعين القادمين ذروة الخطر، وتزداد خطورتهما كلما اقتربت قوات العدوّ البرية من ملامسة جغرافيا رفح، والسؤال هل تبقى رفح ورقةً للتلويح التفاوضي أم تدخل فعليًا إلى أتون المجزرة البرية؟ خصوصًا أنّ القصف الجوي تصاعد في رفح بعد إعلان تسلم أطراف الوساطة لردّ حماس.
حتّى اللحظة قد يكون الأميركي مدركًا لخطورة وفداحة انزلاق العدوان إلى غزّة على مصالحه الكبرى وعلى وجود الكيان، لكنّه في الوقت ذاته ما زال يعتقد أنّ لديه القدرة على منع توسّع دائرة الحرب، خصوصًا مع تصعيده الاستفزازي، ما يجعله يفضل الأهداف الاستراتيجية للإمبراطورية على التكتيكات الانتخابية للأشخاص.
وأخيرًا يبقى سؤال: هل يتحوّل العدوان على غزّة إلى حرب إخراج أميركا من المنطقة وزوال الكيان؟ وهل تكون رفح هي الإجابة؟