الرئيسية / بحوث اسلامية / الروض الفسيح في بيان الفوارق بين المهديّ و المسيح

الروض الفسيح في بيان الفوارق بين المهديّ و المسيح

الباب الثاني

في حكاية جملةٍ من فتاوى العلماء في من أنكر المهديّ المنتظر عليه الصلاة والسلام
ونقتصر في هذا الباب على ما وقفنا عليه على العُجالة، فعسى الله أن يردع بذلك من صَبا إلى القول بإنكاره من أهل الجهالة والضلالة، ويكون بلاغاً ناهياً للزائغين، إنّه الهادي إلى سبيله.
فنقول:
اعلم ـ رحمك الله ـ أنّه لا ريب في أنّ أحاديث خروج المهديّ عليه الصلاة والسلام متواترة، بإجماع من يعتدّ به من أهل العلم وأئمّة الحديث، فإنكار هذا الاَمر المتواتر جرأة عظيمة في مقابل النصوص المستفيضة المشهورة البالغة إلى حـدّ التـواتر، كـما قـال القنوجي فـي الاِذاعة(1).
وقد سُئل شيخ الاِسلام شهاب الدين أحمد بن حجر المكّيّ الشافعيّ عمّن أنكر المهدي الموعود به؛ فأجاب: أنّ ذلك إنْ كان لاِنكار السُنّة رأساً فهو كفر يُقضى على قائله بسبب كفره وردّته فيقتل.
وإن لم يكن لاِنكار السُنّة وإنّما هو محض عناد لاَئمّة الاِسلام فهو
____________

ه(1) راجع: الاِذاعة لما كان وما يكون ـ المطبوع ضمن موسوعة الاِمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 2|104 ـ: 146.

[23]

يقتضي التعزير البليغ والاِهانة بما يراه الحاكم لائقاً بعظيم هذه الجريمة، وقبح هذه الطريقة، وفساد هذه العقيدة، من حبس وضرب وصَفْعٍ وغيرها من الزواجر عن هذه القبائح، ويرجعه إلى الحقّ راغماً على أنفه، ويردّه إلى اعتقاد ما ورد به الشرع ردعاً عن كفره. انتهى.
وقد ذكر المتّقي الهنديّ في أواخر كتابه البرهان(1) هذه الفتوى بعين ألفاظها، وأوردها المفتي ابن حجر مختصرةً في الفتاوى الحديثية(2) له.
وكذلك أفتى الشيخ العلاّمة يحيى بن محمّـد الحنبليّ بكفر من أنكر المهديّ عليه السلام فقال: وأمّا من كذّب بالمهديّ الموعود به فقد أخبر عليه الصلاة والسلام بكفره(3).
وقد وقفت على فتوىً لشيخ الاِسـلام محمّـد بهاء الدين العاملي رحمه الله تعالى في هذه المسألة، قال ـ في جواب من سأله عن خروج المهديّ بقول مطلق، هل هو من ضروريّات الدين فمنكره مرتدّ، أم ليس من ضروريّاته، لِما يُحكى من خلاف بعض المخالفين فيه، وأنّ الذي يخرج إنّما هو عيسى عليه السلام ، وهل يكون خلافهم مانعاً من ضروريّته؟ ـ:
الاَظـهر أنّه مـن ضـروريّات الـدين، لاَنّه مـمّا انـعقد علـيه إجـماع المسلمين، ولـم يخـالف فيـه إلاّ شـرذمة شـاذّة لا يـعبأ بهم، لا يعتمد عليهم ولا بخـلافهم، ولا يقدح خروج أمثال هـؤلاء من ربـقة الاِجماع في حجّيّته، فلا مجال للتوقّف في كفرهم إن لم تكن لهم شبهة محتملة. إنتهى.

____________

ه(1) البرهان: 178 ـ 179.
ه(2) الفتاوى الحديثية: 37.
ه(3) البرهان: 182.

[24]

قلت:
إكفار المنكِر عند الفريقين يدور على أحد أمرين:
أوّلهما: ما أشار إليه شيخ الاِسلام ابن حجر في الفتاوى الحديثيّة وهو ما أخرجه أبو بكر الاِسكاف في فوائد الاَخبار عن محمّـد بن المنكدر، عن جابر بن عبـد الله الاَنصاري رضي الله عنه ، عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من كذّب بالدجّال فقد كفر، ومن كذّب بالمهديّ فقد كفر(1).
قال ابن حجر في القول المختصر ـ كما في البرهان ـ: أي حقيقةً، كما هو المتبادر من اللفظ، لكن إن كان تكذيبه من السُنّة، أو لاستهتاره بها، أو للرغبة عنها، فقد قال أئمّتنا وغيرهم: لو قيل لاِنسانٍ قصَّ أظفارك فإنّه من السُنّة، فقال: لا أفعله وإن كان سُنّة رغبةً عنها فقد كفر، فكذا يقال بمثله(2).
قلت:
حديث جابر أخرجه أبو القاسم السهيلي في شرح السيرة له.
وأبو بكر ابن أبي خيثمة في جمعه للاَحاديث الواردة في المهديّ.
والحافظ السيوطيّ الشافعيّ في العَرف الوردي(3).

____________

ه(1) الفتاوى الحديثيّة ـ المطبوع ضمن موسوعة الاِمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 1|432 ـ: 37، الاِشاعة في إشراط الساعة ـ المطبوع ضمن موسوعة الاِمـام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 1|505 ـ: 112.
ه(2) البرهان: 170 ـ 171.
ه(3) العرف الوردي في أخبار المهدي ـ المطبوع ضمن موسوعة الاِمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 1|392 ـ: 487.

[25]

وشيخ الاِسلام إبراهيم بن محمّد الجوينيّ الشافعيّ في فرائد السمطين(1).
والحافظ القندوزيّ الحنفيّ في ينابيع المودّة(2).
واعتمده بعض أهل العلم كابن حجر الشافعيّ، ويحيى بن محمّـد الحنبليّ وأفتيا بمدلوله، كما مرّ آنفاً.
وكذا الشيخ العلاّمة محمّد بن أحمد السفارينيّ الحنبليّ في لوائح الاَنوار البهيّة(3) فإنّه قال: قد روى الاِمام الحافظ ابن الاِسكافي بسندٍ مرضيّ إلى جابر بن عبـد الله رضي الله عنه إلى آخره، وأورده البرزنجيّ الشافعيّ في الاِشاعة(4).
فظهر بذلك ما في دعوى بعضهم من الحكم بوضع الحديث ورمي ابن الاِسكافي به، والله المستعان.
وثانيهما: إجماع أهل الاِسلام قاطبة، واتّفاقهم على مرّ الاَعصار والاَعوام على خروج المهديّ المنتظر عليه الصلاة والسلام، حتّى عُدّ ذلك من ضروريّات الدين ـ كما صرّح به شيخ الاِسلام البهائي ؛ ـ وهو اتّفاق قطعيّ مـنهم، لا يشـوبه شـكّ ولا يـعتريه ريـب، اللّهمّ إلاّ مـن شـذّ، ممّن لا يُعتدّ بخلافه، ولايلتفت إليه، ولا تكون مخالفته قادحة في حجّيّة

____________

ه(1) فرائد السمطين 2|334 ح 585.
ه(2) ينابيع المودّة 3|295 ح 1 وص 383 ح 1، وفيه «أنكر» بدل «كذّب»، الحاوي للفتاوي، المطبوع ضمن موسوعة الاِمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 1|392.
ه(3) انظر: لوائح الاَنوار البهيّة وسواطع الاَسرار الالهية المطبوع ضمن موسوعة الاِمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 2|21.
ه(4) الاِشاعة في إشراط الساعة ـ المطبوع ضمن موسوعة الاِمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 1|505 ـ: 112.

[26]

الاِجماع، ولا قائمة لنا بالمعذرة عن العمل به، مضافاً إلى تواتر أحاديث المهديّ عليه الصلاة والسلام تواتراً قطعيّاً.
وظاهر أنّ من أنكر المتواتر من أُمور الشرع والغيب بعد ما ـ ثبت عنده ثبوتاً يقينيّاً ـ فإنّه كافر، لردّه ما قطع بصـدوره وتحقّق ثبوته عـنه صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا شبهة في كفر من ارتكب ذلك بإجماع المسلمين، لاَنّ الرادّ عليه صلى الله عليه وآله وسلم كالرادّ على الله تعالى، والرادّ على الله كافر باتّفاق أهل الملّة، وإجماع أهل القبلة.
ودعوى التواتر صحيحة ثابتة كما صرّح بذلك جمهور أهل العلم من الفريقين، ولا نعلم رادّاً لها إلاّ بعض مَن امتطى مطيّة الجهل، واتّخذ إلهه هواه، وكابر الحقّ، فكان حقيقاً بالاِعراض عنه.
ونحن نقتصر في هذا المختصر على نقل كلام جماعة من محقّقي العلماء في تحقّق التواتر لتتبيّن لك جليّة الحال.
قال الشيخ أبو الحسين الآبري في كتاب مناقب الشافعيّ: قد تواترت الاَخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذكر المهديّ، وأنّه من أهل بيته، وأنّه يملك سبع سنين، وأنّه يملاَ الاَرض عدلاً، وأنّ عيسى يخرج فيساعده على قتل الدجّال، وأنّه يؤمّ هذه الاَُمّة ويصلّي عيسى بن مريم خلفه(1). انتهى.
وفي بعض فتاوى شيخ الاِسلام ابن حجر المكّي، أنّ الاَحاديث في ذلك مستفيضة متواترة.

____________

ه(1) انظر: العطر الوردي ـ المطبوع ضمن موسوعة الاِمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 2|118 ـ: 45.

[27]

وقال في الصواعق: الاَحاديث التي جاء فيها ذكر ظهور المهديّ كثيرة متواترة.
وقال الشيخ العلاّمة محمّـد بن أحمد السفاريني الحنبليّ في اللوائح(1): الصواب الذي عليه أهل الحقّ أن المهديّ غير عيسى ، وأنّه يخرج قبل نزول عيسى عليه السلام .
قال: وقد كثرت بخروجه الروايات حتّى بلغت حدّ التواتر المعنويّ، فلا معنى لاِنكارها(2).
ومثله في شرح الشرقاوي على ورد البكري كما في مشارق الاَنوار للحمزاوي(3).
وقال قاضي القضاة أبو عبـد الله محمّـد بن علي الشوكانيّ في كتابه التوضيح في تواتر ما جاء في المهديّ المنتظر والدجّال والمسيح: الاَحاديث الواردة في المهديّ التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثاً فيها الصحيح والحسن والضعيف والمنجبر.
قال: وهي متواترة بلا شكّ ولا شبهة، بل يصدق وصف التواتر على ما هو دونها على جميع الاصطلاحات المحرّرة في الاَُصول.
قال: وأمّا الآثار عن الصحابة المصرّحة بالمهديّ فهي كثيرة أيضاً، لها

____________

ه(1) انظر: لوائح الاَنوار البهيّة وسواطع الاَسرار الاِلهيّة، المطبوع ضمن موسوعة الاِمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 2|20.
ه(2) انظر: لوائح الاَنوار البهيّة وسواطع الاَسرار الاِلهيّة، المطبوع ضمن موسوعة الاِمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 2|20.
ه(3) انظر: مشارق الاَنوار ـ المطبوع ضمن موسوعة الاِمام المهدي عيله السلام عند أهل السُنّة 2|62 ـ: 115.

[28]

حكم الرفع، إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك(1).
وقال السويديّ البغداديّ في كتابه سبائك الذهب: الذي اتّفق عليه العلماء أنّ المهديّ هو القائم في آخر الوقت، وأنّه يملاَ الاَرض عدلاً، والاَحاديث في ظهوره كثيرة(2).
وقال الشيخ أبو عبـد الله جعفر بن محمّـد الاِدريسي الحسني الكتّاني في كتابه نظم المتناثر من الحديث المتواتر(3): قد نقل غير واحد عن الحافظ السخاوي أنّها متواترة ـ يعني أحاديث المهديّ عليه السلام ـ، والسخاوي ذكر ذلك في فتح المغيث.
قال: وفي تأليفٍ لاَبي العلاء إدريس بن محمّـد بن إدريس الحسنيّ العراقيّ في المهديّ هذا، أنّ أحاديثه متواترة أو كادت، وجزم بالاَوّل غير واحدٍ من الحفّاظ النقّاد.
وبالجملة: فإنكار المهديّ وإنكار خروجه أمر عظيم لا ينبغي التفوّه به، بل ربّما أفضى بصاحبه إلى الكفر والخـروج عن الملّة والعياذ بالله تعالى.
وقال الشيخ عبـد العزيز بن عبـد الله بن باز، شيخ علماء نجد والحجاز في هذا العصر، ومعتمدهم في علوم الشرع المطهّر: أمّا من أنكر ذلك ـ يعني نزول عيسى وخروج الدجّال والمهديّ ـ وزعم أنّ نزول المسيح بن مريم ووجود المهديّ إشارة إلى ظهور الخير، وأنّ وجود

____________

ه(1) راجع: الاِذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة ـ المطبوع ضمن موسوعة الاِمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 2|71 ـ 72 ـ: 113 ـ 114.
ه(2) سبائك الذهب: 78.
ه(3) انظر: نظـم المتناثر مـن الحـديث المتواتر ـ المطبوع ضمن موسوعة الاِمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 2|194 ـ: 144 ـ 145.

[29]

الدجّال ويأجوج ومأجوج وما أشبه ذلك إشارة إلى ظهور الشرّ، فهذه أقوال فاسدة، بل باطلة في الحقيقة، لا ينبغي أن تذكر، فأهلها قد حادوا عن الصواب، وقالوا أمراً منكراً وأمراً خطيراً لا وجه له في الشرع، ولا وجه له في الاَثر ولا في النظر.
قال: والواجب تلقّي ما قاله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول، والاِيمان التامّ به والتسليم، فمتى صحّ الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا يجوز لاَحدٍ أن يعارضه برأيه واجتهاده، بل يجب التسليم كما قال الله عزّوجلّ: (فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حَرَجَاً ممّا قضيت ويسلّموا تسليماً)(1) وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الاَمـر عن الدجّال، وعن المهـديّ، وعـن عيسـى بن مريم، ووجـب تلقّي ما قاله بالقبول والاِيمان بذلك، والحذر من تحكيم الرأي والتقليد الاَعمى الذي يضرّ صاحبه ولا ينفعه لا في الدنيا ولا في الآخرة(2).
ولا يسع المقام لاستقصاء كلام الاَئمّة والعلماء في تواتر أحاديث المهديّ المنتظر عليه الصلاة والسلام، والتحـذير مـن إنكـار شأنه، لكن في ما حكينا لك مقنع وكفاية إن شاء الله تعالى، والله الهادي إلى سواء السبيل.

* * *

____________

ه(1) سورة النساء 4: 65.
ه(2) مجلّة الجامعة الإسلامية ـ المطبوعة ضمن موسوعة الإمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنة 2 | 435 ـ ، العدد الثالث من السنة الأولى ، ذو العقدة 1388هـ.
* * *

شاهد أيضاً

كتاب معرفة الله – السيّد محمّد حسين‌ الحسيني الطهراني قدّس سرّه

الروايات‌ الواردة‌ في‌ رؤية‌ النبي‌ّ للّه‌ عزّوجلّ في‌ المعراج‌ وقد أورد ال علامه في‌ بحثٍ ...