الرئيسية / الاسلام والحياة / شرح نهج البلاغة – ابن أبي الحديد – ج ١

شرح نهج البلاغة – ابن أبي الحديد – ج ١

شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (586 – 656) الجزء الأول تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم
(١)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله (1) الواحد العدل الحمد لله الذي تفرد بالكمال فكل كامل سواه منقوص، واستوعب عموم المحامد والممادح فكل ذي عموم عداه مخصوص الذي وزع منفسات نعمه بين من يشاء من خلقه واقتضت حكمته ان نافس الحاذق في حذقه فأحتسب به عليه من رزقه وزوى (2) الدنيا عن الفضلاء فلم يأخذها الشريف بشرفه ولا السابق بسبقه.
وقدم المفضول على الأفضل لمصلحة اقتضاها التكليف واختص الأفضل من جلائل الماثر ونفائس المفاخر بما يعظم عن التشبيه ويجل عن التكييف. وصلى الله على رسوله محمد، الذي (3) المكنى عنه شعاع من شمسه، وغصن من غرسه، وقوه من قوى نفسه، ومنسوب إليه نسبه الغد إلى يومه، واليوم إلى أمسه، فما هما الا سابق ولاحق، وقائد وسائق، وساكت وناطق، ومجل ومصل، سبقا لمحه البارق، وأنارا سدفه الغاسق، صلى الله عليهما ما استخلب (4) خبير، وتناوح حراء وثبير (5).
وبعد، فان مراسم المولى الوزير الأعظم، الصاحب (6)، الصدر الكبير المعظم العالم العادل المظفر المنصور المجاهد، المرابط (7) مؤيد الدين عضد الاسلام، سيد وزراء الشرق والغرب، أبى محمد
(١ – ١) تكملة من ب.
(٢) زوى الدنيا: نحاها وصرفها.
(٣) في ا: ” والذي “.
(٤) استخلب، بالبناء للمجهول: قطع. والخبير: النبات، وورد في حديث طهفة: ” ونستخلب الخبير ” قال ابن الأثير: الخبير: النبات والعشب، شبه بخبير الإبل، وهو وبرها. النهاية 1: 280 (5) يقال: هما جبلان يتناوحان، إذا كانا متقابلين، وثبير: جبل شامخ بمكة يقابل حراء، وهو أرفع من ثبير. ياقوت 3: 240 (6) ب: ” صاحب “.
(7) ا: والمرابط.
(٣)

ابن أحمد بن محمد العلقمي (1)، نصير أمير المؤمنين – أسبغ الله عليه من ملابس النعم أضفاها، وأحله من مراقب السعادة مراتب السيادة أشرفها وأعلاها – لما شرفت عبد دولته، وربيب نعمته بالاهتمام بشرح ” نهج البلاغة ” – على صاحبه أفضل الصلوات، ولذكره أطيب التحيات – بادر إلى ذلك مبادرة من بعثه من قبل عزم، ثم حمله (2) أمر جزم، وشرع فيه بادي الرأي شروع مختصر، وعلى ذكر الغريب والمعنى مقتصر، ثم تعقب الفكر فرأى أن هذه النغبة (3) لا تشفى أو اما، ولا تزيد الحائم الا حياما، فتنكب ذلك المسلك، ورفض ذلك المنهج، وبسط القول في شرحه بسطا اشتمل على الغريب والمعاني وعلم البيان، وما عساه يشتبه ويشكل من الاعراب والتصريف، وأورد في كل موضع ما يطابقه من النظائر والأشباه، نثرا ونظما، وذكر ما يتضمنه من السير والوقائع والاحداث فصلا فصلا، وأشار إلى ما ينطوي عليه من دقائق علم التوحيد والعدل إشارة خفيفه، ولوح إلى ما يستدعى الشرح ذكره من الأنساب والأمثال والنكت تلويحات لطيفه، ورصعه من المواعظ الزهدية، والزواجر الدينية، والحكم النفسية، والآداب الخلقية، المناسبة لفقره، والمشاكلة لدرره، والمنتظمة مع معانيه في سمط، والمتسقة مع جواهره في لط (4)، بما يهزأ بشنوف النضار، ويخجل قطع الروض غب القطار، وأوضح ما يومئ إليه من المسائل الفقهية، وبرهن على أن كثيرا من فصوله داخل في باب المعجزات المحمدية، لاشتمالها على
(1) هو مؤيد الدين أبو طالب محمد بن أحمد بن العلقمي البغدادي، وزير المستعصم بالله، الخليفة العباسي. اشتغل في صباه بالأدب، ففاق فيه، وكتب خطا مليحا، وترسل ترسلا فصيحا، وكان لبيبا كريما، رئيسا متمسكا بقوانين الرياسة، خبيرا بأدوات السياسة، محبا للأدب، مقربا لأهل العلم، اقتنى كتبا كثيرة نفيسة، وصنف الناس له، منهم الصغاني، صنف له العباب، وهذا المصنف الذي ألف برسمه، وكان ممدحا، مدحه الشعراء، وانتجعه الفضلاء، وأخباره الطيبة كثيرة وجليلة. توفي سنة 656.
الفخري 265، 266 (2) ب ” حركة “.
(4) النغبة في الأصل: الجرعة من الماء. وفي ا: ” البغية “، والأجود ما أثبته من ب.
(4) للط: العقد.
(٤)

الاخبار الغيبية، وخروجها عن وسع الطبيعة البشرية. وبين من مقامات العارفين، التي يرمز إليها في كلامه ما لا يعقله إلا العالمون، ولا يدركه إلا الروحانيون المقربون. وكشف عن مقاصده عليه السلام في لفظه يرسلها، ومعضلة (1) يكنى عنها، وغامضة يعرض بها، وخفايا يجمجم بذكرها، وهنات تجيش في صدره فينفث بها نفثه المصدور، ومرمضات مؤلمات يشكوها فيستريح بشكواها استراحة المكروب.
فخرج هذا الكتاب كتابا كاملا في فنه، واحدا بين أبناء جنسه، ممتعا بمحاسنه، جليلة فوائده، شريفة مقاصده، عظيما شانه، عاليه منزلته ومكانه. ولا عجب ان يتقرب بسيد الكتب إلى سيد الملوك، وبجامع الفضائل إلى جامع المناقب، وبواحد العصر إلى أوحد الدهر، فالأشياء بأمثالها أليق، وإلى اشكالها أقرب، وشبه الشئ إليه منجذب، ونحوه دان ومقترب.
ولم يشرح هذا الكتاب قبلي فيما أعلمه الا واحد، وهو سعيد بن هبة الله بن الحسن الفقيه المعروف بالقطب الراوندي (2)، وكان من فقهاء الإمامية، ولم يكن من رجال هذا الكتاب، لاقتصاره مدة عمره على الاشتغال بعلم الفقه وحده، وأنى للفقيه ان يشرح هذه الفنون المتنوعة، ويخوض في هذه العلوم المتشعبة، لا جرم ان شرحه لا يخفى حاله عن الذكي، وجرى الوادي فطم على القرى (3). وقد تعرضت في هذا الشرح لمنا قضته
(١) ا: ” معضلة ” بدون الواو.
(٢) هو سعيد بن هبة الله بن الحسن الراوندي، أحد فقهاء الشيعة، وتصانيفه كثيرة متنوعة، أسمى كتابه في شرح النهج ” منهاج البراعة، في شرح نهج البلاغة “، وتوفي سنة ٥٧٣. لسان الميزان ٣: ٤٨، روضات الجنان 302 (3) جرى الوادي فطم على القرى، مثل، قال الميداني في شرحه: أي جرى الوادي فطم، أي دفن، يقال: طم السيل الركية، أي دفنها. والقرى: مجرى الماء في الروضة، والجمع أقرية وقريان، و ” على ” من صلة المعنى، أي أتى على القرى، يعنى أهلكه بأن رفنه، يضرب عند تجاوز الشئ حده “. مجمع الأمثال 1: 159
(٥)

شاهد أيضاً

مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين عليه السلام

شعره الرائق: أضاء بك الأفق المشرق * ودان لمنطقك المنطق وكنت ولا آدم كائنا * ...