الإنفاق في سبيل الله \عز الدين بحر العلوم
5 أيام مضت
زاد الاخرة
18 زيارة
والحديث في الآيتين عن المتقين والمحسنين ، ومن جملة صفاتهم الإنفاق وأداء ما عليهم من
الواجب الإجتماعي المتمثل في الإنفاق التبرعي ، أو الإلزامي ، وقد قال عنهم في نهاية المطاف
بنفس ما مدح به المتقين في الآية السابقة .
. (١) ( أولئك على هداً من ربهم وأولئك هم المفلحون )
وفي وصف جديد في آية كريمة أخرى يصفهم االله بأنهم من المخبتين .
( وبشر المخبتين * الذين إذا ذكر االله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي
. (٢) الصلاة ومما رزقناهم ينفقون )
« والمخبتون » هم المتواضعون الله المطمئنون إليه .
وعندما شرعت الآية بتعدادهم قالت عنهم :
« الذين إذا ذكر االله وجلت قلوبهم » .
انها النفوس المطمئنة التي إذا ذكر االله ، ـ وذكر االله هنا التخويف من عقابه وقدرته وسطوته
ـ وجلت قلوبهم أي دخلها الخوف ولكنه خوف مشوب برجاء عطفه ورحمته .
ولا يأس معه من روح االله لأنه :
. (٣) ( لا يايئس من روح االله إلا القوم الكافرون
____________
(١) سورة لقمان | آية : ٥ .
(٢) سورة الحج | آية : ٣٤ ، ٣٥ .
(٣) سورة يوسف | آية : ٨٧ .
« والصابرين على ما أصابهم » :
من البلايا والمصائب ولكنهم صابرون ليجتازوا عقبة الامتحان فتصفى بذلك نفوسهم وتعرف
بهذا التحمل قدراتهم وطاقاتهم الروحية في اجتياز هذه العقبات الامتحانية ، وهم في الوقت نفسه ،
تقول عنهم الفقرة الآتية من الآية :
« والمقيمي الصلاة » :
لا يغفلون عن أداء هذا الواجب العبادي المهم رغم ما أصابهم من بلاء ، وما ابتلوا به من
محن لأن صبرهم على ذلك أيضاً من العبادة لأنه تحمل لوجه االله وتقرب بذلك إليه تماماً كما
يؤدون واجباتهم العبادية الأخرى .
« ومما رزقناهم ينفقون » :
ينفقون رغم ما تزل بهم من البلاء ورغم ثباتهم في وجه الأعاصير ينفقون مما رزقهم االله .
ويهيب االله بالمنفقين في آية أخرى فيقول عنهم :
( إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون *
. (١) تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون )
هؤلاء هم المؤمنون حقاً ومن هم ؟
وتبدأ الآية الكريمة بذكر أوصافهم أنهم :
____________
(١) سورة السجدة | آية : ١٥ ـ ١٦ .
===============
( ٦٢ )
« الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم » .
هؤلاء هم الذين إذا تليت عليهم آيات االله خروا سجداً ، ولا يخفى ما في التعبير بقوله : «
خروا » من لطف وأدب واحترام وخضوع الله شكراً على هدايته لهم بمعرفته وبما أنعم عليهم من
نعمة يسبّحونه ويحمدونه على ذلك ، وفي الوقت نفسه يقومون بكل ذلك .
« وهم لا يستكبرون » :
عن عبادته ولا يرون لأنفسهم علواً بإزائه ، ولايتحرجون من السجود له بتعفير جباههم .
وبتعفير جباههم سجوداً على الأرض سمة تدل على منتهى الخضوع والذلة لو كانت من انسان
لأنسان ، ولكنها حيث تكون الله تعطي منتها الرفعة والسمو لأنه سجود الله وخضوع لسلطانه ،
ومن أكبر من االله عز وجل ، ومن اعظم منه جلت قدرته .
« تتجافى جنوبهم عن المضاجع » :
والتعبير بالتجافي فيه تصوير دقيق لحالة أولئك المؤمنين ، وهم يتركون المخادع مع شدة
تعلقهم بالنوم ، وما فيه من لذة وراحة ليقفوا خاشعين بين يدي االله يسبحونه ويقدسونه .
وقد جاء عن النبي ( صلى االله عليه وآله ) : أنه ذكر قيام الليل ففاضت عيناه حتى تحادرت
دموعه فقال : « تتجافى جنوبهم عن المضاجع » .
« يدعون ربهم خوفاً وطمعاً » :
يتركون المخادع ويشرعون في مناجاتهم وصلواتهم وهم في
===============
( ٦٣ )
حالة مزيجة بين الخوف والطمع .
الخوف : من عذاب االله وعقابه .
والطمع : برحمته وعفوه .
وهؤلاء المؤمنون لا يقتصرون على واجباتهم العبادية إزاء الخالق سبحانه ، بل هم ـ في
الوقت نفسه ـ يلتفتون إلى واجباتهم الإجتماعية إضافة إلى الواجب الروحية .
ففي الوقت الذي تراهم يحنون إلى الليل وإلى هدوئه الشامل الذي يخيم على المخادع نراهم
يؤدون ما عليهم أزاء هؤلاء المعوزين لينفقوا بما فرضه عليهم الواجب الإجتماعي وقد أخبرت
عنهم الآية في قوله سبحانه :
« وممارزقناهم ينفقون » :
الصلاة عبادة روحية والإنفاق عبادة إجتماعية وكلا هذين عبادة ، وهل يتركهم االله وهم
يتقربون إليه ويتشوقون للقائه وللوقوف بين يديه ؟ .
وتتولى الآية نفسها الجواب على ذلك فيقول سبحانه :
. (١) ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرًة أعين جزاء بما كانوا يعملون »
وصحيح أنهم لا يعلمون ما أخفي لهم فالإنسان في تكفيره محدود مهما ذهب به الأمل بعيدا ،
ولكن رحمة االله واسعة ، وليبق
____________
(١) سورة السجدة | آية : ١٧ .
===============
( ٦٤ )
الجزاء لهم مذخوراً لا يعلم به أحد إلى يوم يلقونه ، ولتقر به أعينهم يوم الجزاء .
( قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها
وأزواج مطهرة ورضوان من االله واالله بصير بالعباد * الذين يقولون ربنا إننا آمنا فأغفر لنا
ذنوبنا وقنا عذاب النار * الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار )
(١) .
وقد تعرضنا لهذه الآية في جانب من جوانبها ، وهو ما تعرضت له من بيان الجزاء للمنفقين
وبقي علينا أن نرى ما تعرضت له من الجانب الآخر ، وهو الاشادة بالمنفقين والأخذ بيدهم إلى
الدرجة الرفيعة التي ينالها عباد االله المتقون تقول الآية الكريمة :
« قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم ـ إلى قوله ـ الذين يقولون ربنا إننا آمنا
فأغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار * الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين
بالأسحار » .
هؤلاء المؤمنون الذين يتمتعون بجنات ربهم وهم الذين يخشونه ويتوجهون إليه بقلوب مفعمة
بالإيمان وبألسنة رطبة بذكر االله يرددون ويلهجون متضرعين يقولون : « ربنا اننا آمنا فاغفر لنا
ذنوبنا وقنا عذاب النار » .
وهؤلاء هم وقد وصفتهم الآية :
بـ « الصابرين » :
____________
(١) سورة آل عمران | آية : ١٥ ـ ١٦ ـ ١٧ .
===============
( ٦٥ )
على البلاء يمتحنهم االله في هذه الدنيا لتهذيب نفومسهم وصقلها ليكونوا قدوة لغيرهم ومثالاً
للإيمان الراسخ والعقيدة الثابتة .
« والصادقين » :
لأنهم عرفوا أن الكذب منقصة للنفس وخيانة في حق الآخرين فتركوه .
« والقانتين » :
وهم المطيعون لربهم تعلقوا به واخلصوا له العبودية فكانوا قانتين .
« والمنفقين » :
مما آتاهم االله ورزقهم أداءاً لحقه وشكراً على ما أنعم عليهم ورعاية الحق هؤلاء المحرومين .
« والمستغفرين بالأسحار » :
وهو الوقت الذي يخلو به الحبيب لحبيبه يقومون بين يدي االله إذا جنهم الليل متجهين بقلوب
مملوءة بالإيمان يستغفرونه ، ويسبحونه .
يقول : في وصفهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
« أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلاً يُحزِنُونَ بِهِ أنفسهم ويستثيرون
بِهِ دواء دائهم فأذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً وظنوا أنها
نصب أعينهم ، وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامعهم مع قلوبهم وظنوا أن زفير جهنم
وشهيقها في أصول آذانهم فهم حانون على
===============
( ٦٦ )
. (١) أوساطهم مفترشون لجباههم وأكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم يطلبون إلى االله فكاك رقابهم »
هؤلاء المؤمنون ، وهم المنفقون لأموالهم في سبيل االله وطبيعي أن يكون جزاؤهم من االله
جنات تجري من تجتها الأنهار خالدين فيها وأزواجاً مطهرة ويظلل كل ذلك رضوان من االله
وهوغايتهم من االله وهو غايتهم في الدنيا والآخرة .
____________
(١) من خطبة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : في نهج البلاغة قالها في وصف المتقين .
===============
( ٦٧ )
الصورة الثالثة من التشويق :
الانفاق ينمي المال
القرآن الكريم يتكلم مع الناس من خلال واقعهم العملي في حياتهم اليومية ، ولذلك فهو حينما
يشوقهم إلى شيء إنما يعرض عليهم صوراً مألوفة لهم يتوخى من وراء ذلك أن يحفز مشاعرهم
للوصول نحو هدفه المنشود .
وفي خصوص ما نحن فيه فإن القرآن عندما يشوقهم إلى الإنفاق يصور لهم فوائد من طريق
الربح والفائدة الخارجية .
ذلك لأن النفس مجبولة على حب المال وتشويق في كل وقت إلى النفع والزيادة .
ولأن هذا المعنى يعيشونه في كل يوم فهم يألفون له عندما يمثل لهم به من خلال عرض
قضية ، أو تشويق لشيء ، وبما أن الحياة العملية تعتمد بشكل رئيسي في واقعها الخارجي على
أمرين مهمين في طريق الكسب والانتاج ، وهما التجارة والزراعة .
وحيث أن لكل من هذين مفاهيمه الخاصة وصورة المنطبعة في الأذهان لذا نرى القرآن الكريم
، ومن هذا المنطلق أخذ يكلم الأفراد ويشوقهم إلى الإنفاق بعرض صورِ مألوفة لديهم لتوصيل بها
إلى الغاية المطلوبة له من الحث على البذل والسخاء .
===============
( ٦٨ )
١ ـ الإنفاق ـ تجارة لن تبور :
( إن الذين يتلون كتاب االله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلاينة يرجون تجارة
. (١) لن تبور * ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور )
هذه التجارة هي التي يقصدها عباد االله المؤمنون يدفعون المال لوجهه لأجله الوصول إلى
غايتهم المحببة وهي رضا االله والتقرب إليه .
فهم يتلون كتاب االله بتفهم لما فيه ، ويقيمون الصلاة ويواظبون على أدائها .
« وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية » :
ينفقون مما رزقهم في السر والعلن يقصدون بذلك النماء الذي يحصل من هذه التجارة التي لا
كساد فيها ، ولاتبور ، ولا يكتب له الخسران .
ولمذا تكسد ؟
أو لم تبور ؟
أو لماذا تلحقه الخسارة ؟
وطرف المعاملة هو االله ، وليس هو فرداً من البشر ، وليس هذا النوع من الكسب فيها يشبه
الكسب السوقي الذي يؤمل
____________
(١) سورة فاطر | آية : ٢٩ ـ ٣٠ .
===============
( ٦٩ )
فيه الربح كما هو متوقع فيه الخسران .
بل كسب كله ربح .
لا كسب يؤمل فيه الربح .
ونماء كله بركة لأن الضامن في هذه التجارة والطرف فيها هو االله سبحانه وهو الذي يوفيهم
أجورهم ويزيدهم من فضله أنه غفور شكور .
ويأتي الجزاء هنا متدرجاً على ثلاثة مراحل :
« يوفيهم أجورهم » :
فلا يجدون في ذلك أي نقص ولا خسارة ، بل يوفيهم بما تعطيهم هذه الكلمة من معنى دقيق
يدل على عدم وجود أي نقص في الحساب .
« ويزيدهم من فضله » :
وهنا تتجلى الروعة في العطف والرحمة ليتبين الفرق بين المعاملتين المعاملة بين الأفراد
أنفسهم والمعاملة بين الفرد وربه .
ان االله يرضى لنفسه أن يعامل عباده معاملتهم لأنفسهم ، بل لا بد من حصول المايز بين
المعاملتين .
معاملة يكون الإنسان طرفاً فيها لإنسان آخر .
ومعاملة يكون االله طرفاً فيها لعبد من عباده .
ففي الأولى نرى للحساب الدقيق مجالاً فيها ، وقد تجر المعاملة إلى نزاع وشجار بين الطرفين
، أو الأطراف حول مقدار قليل من المال .
===============
2025-07-14