الرئيسية / من / طرائف الحكم / محاسبة النفس – الشيخ إبراهيم الكفعمي

محاسبة النفس – الشيخ إبراهيم الكفعمي

حقنا أو رجا الثواب بنا ورضي بقوته نصف مد في كل يوم وما يستر عورته وما أكن به رأسه، وهم مع ذلك والله خائفون وجلون، ودوا أنه حظهم من الدنيا، وكذلك وصفهم الله عز وجل حيث يقول: ﴿والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة﴾ (1) ما الذي أتوا؟ أتوا والله بالطاعة مع المحبة والولاية، وهم في ذلك خائفون أن لا يقبل منهم، وليس والله خوفهم خوف شك فيما هم فيه من إصابة الدين، ولكنهم خافوا أن يكونوا مقصرين في محبتنا وطاعتنا… (2).
فتبين لنا من هذه الأحاديث أهمية المحاسبة لمن يريد الوصول إلى كمال الانسانية والعرفان الحقيقي والروح الصافية، وعدم إمكان الاستغناء عنها.
لكن يختلج في الذهن سؤال لطيف، وهو: كيف نحاسب أنفسنا؟
روي عن أبي عبد الله عليه السلام في وصيته لابن جندب – رضوان الله تعالى عليه -:
… يا ابن جندب حق على كل مسلم يعرفنا أن يعرض عمله في كل يوم وليلة على نفسه، فيكون محاسب نفسه، فإن رأى حسنة استزاد منها، وإن رأى سيئة استغفر منها، لئلا يخزى يوم القيامة (3).
وروي عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
أكيس الكيسين من حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت.
فقال رجل: يا أمير المؤمنين كيف يحاسب نفسه؟ قال:
إذا أصبح ثم أمسى رجع إلى نفسه وقال:
يا نفسي إن هذا يوم مضى عليك لا يعود إليك أبدا، والله يسألك عنه: بما أفنيته؟ فها الذي عملت فيه؟ أذكرت الله أم حمدته؟ أقضيت حوائج مؤمن فيه؟
أنفست عنه كربة؟ أحفظته بظهر الغيب في أهله وولده؟ أحفظته بعد الموت في
(١) المؤمنون ٢٣: ٦٠.
(٢) الكافي ٨: ١٢٨ حديث ٩٨.
(٣) تحف العقول: ٣٠١.
(١٣)

مخلفيه؟ أكففت عن غيبة أخ مؤمن؟ أ أعنت مسلما؟ ما الذي صنعت فيه؟
فيذكر ما كان منه، فإن ذكر أنه جرى منه خير حمد الله وكبره على توفيقه، وإن ذكر معصية أو تقصيرا استغفر الله وعزم على ترك معاودته (1).
فلا بد للعاقل أن يقسم وقته: فوقت يناجي فيه ربه، وآخر يتفكر فيه في صنع الله، ووقت يخلو فيه بحظ نفسه من الحلال، وآخر يحاسب نفسه فيه.
فيعين وقتا خاصا يتكلم فيه مع نفسه ويخاطبها وينبهها ويحثها ويؤنبها و يوبخها كما ورد في الحديث السابق.
وهذه الطريقة من أحسن طرق محاسبة النفس، ولها الأثر البالغ السريع.
وأول من اقتفى هذه الطريقة – حسب تفحصي – هو شيخنا الأمير الزاهد ورام بن أبي فراس الأشتري، حيث ذكر في مجموعته:
فإذا أصبح العبد وفرغ من فريضة الصبح ينبغي أن يفرغ قلبه ساعة لمشارطة النفس – كما أن التاجر عند تسليم البضاعة إلى شريك يفرغ المجلس لمشارطته – فيقول للنفس:
ما لي بضاعة إلا العمر، ومهما فني رأس المال حصلت الخسارة، ووقع اليأس من التجارة، وهذا اليوم الجديد قد أمهلني الله تعالى فيه، وأنسأني أجلي وأنعم علي به، ولو توفاني لكنت أتمنى أن يرجعني إلى الدنيا يوما واحدا، حتى أعمل فيه صالحا، فاحسبي أنك توفيت، ثم رددت، فإياك ثم إياك أن تضيعي هذا اليوم، فإن كل نفس من الأنفاس جوهرة لا قيمة لها… (2).
وقال شيخنا النوري الطبرسي في كتابه دار السلام بعد ذكر حديث الصير في (3):
(١) وسائل الشيعة ١١: ٣٧٩ حديث 8 نقلا عن التفسير المنسوب للإمام العسكري عليه السلام.
(2) تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 1: 233.
(3) روي عن سدير الصير في أنه قال: دخلت أنا والمفضل بن عمر وأبو بصير وأبان بن تغلب على مولانا أبي عبد الله الصادق عليه السلام، فرأيناه جالسا على التراب، وعليه مسح خيبري مطوق بلا جيب مقصر الكمين، وهو يبكي بكاء الوالهة الثكلى ذات الكبد الحرى، قد نال الحزن من وجنتيه وشاع التغيير في عارضيه وأبلى الدموع محجريه، وهو يقول:
سيدي، غيبتك نفت رقادي، وضيقت علي مهادي، وابتزت مني راحة فؤادي.
سيدي، غيبتك أوصلت مصابي بفجائع الأبد، وفقد الواحد بعد الواحد يفني الجمع والعدد، فما أحس بدمعة ترقى من عيني. وأنين يفتر من صدري، عن دوارج الرزايا، وسوالف البلايا، إلا ما مثل بعيني من غوابر أعظمها وأفظعها، وبواقي أشدها وأنكرها، ونوائب مخلوطة بغضبك، ونوازل معجونة بسخطك.
قال سدير: فاستطارت عقولنا ولها، وتصدعت قلوبنا جزعا، من ذلك الخطب الهائل، والحادث الغائل، وظننا أنه سمت لمكروهة قازعة، أو حلت به من الدهر بائقة، فقلنا: لا أبكى الله يا ابن الورى عينيك، من أية حادثة تستنزف دمعتك وتستمطر عبرتك؟ وأية حالة حتمت عليك هذا المأتم؟
قال: فزفر الصادق عليه السلام زفرة انتفخ منها جوفه، واشتد عنها خوفه، وقال:
ويلكم نظرت في كتاب الجفر صبيحة هذا اليوم.
وهو الكتاب المشتمل على علم المنايا والبلايا والرزايا، وعلم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، الذي خص الله به محمدا والأئمة من بعده عليهم السلام.
وتأملت فيه مولد قائمنا، وغيبته، وإبطاءه، وطول عمره، وبلوى المؤمنين في ذلك الزمان، وتولد الشكوك في قلوبهم من طول غيبته، وارتداد أكثرهم عن دينهم وخلعهم ربقة الاسلام عن أعناقهم التي قال الله: (وكل انسان ألزمناه طائرة في عنقه) – يعني الولاية – فأخذتني الرقة، واستولت علي الأحزان….
كمال الدين: 352 – 354.
(١٤)

فإذا كان هذا حال الإمام عليه السلام في حزنه على ما يرد على الشيعة في غيبته، فبالحري للمؤمن المبتلى بتلك الهلكة أن يطول حزنه ولا ينام في ليلته، ويتأسف دائما في غيبة إمامه، ويتحسر لفراقه في آناء ليله وأطراف أيامه، ويناجي ربه تارة ويقول:….
ويخاطب نفسه مرة ويقول:
ويحك يا نفس، إن كنت قد حرمت عن النظرة إلى تلك الطلعة الرشيدة، والغرة الحميدة، ومنعت عن الاقتباس من أنوار علومه الإلهية، وحكمته المحمدية، بمرأى من الناس ومسمع منهم، ومحضر من الخلق ومشهد لهم، لمصالح وحكم تدور

(١٥)

شاهد أيضاً

هبة السماء ، رحلتي من المسيحية إلى الإسلام

هبة السماء رحلتي من المسيحية إلى الإسلام علي الشيخ دار الصادقين الرئيسية التي تصرف الإنسان ...