ملِكُ الموت والحياة
3 أيام مضت
الشهداء صناع الحياة
53 زيارة
المقدمة
الحمد لله رب العلمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد(صلى الله عليه وآله) وعلى آله الأطهار الميامين(عليهم السلام)، وبعد…
يقول الله تعالى: ﴿قُلۡ هَلۡ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلَّآ إِحۡدَى ٱلۡحُسۡنَيَيۡنِۖ وَنَحۡنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمۡ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَاب مِّنۡ عِندِهِۦٓ أَوۡ بِأَيۡدِينَاۖ فَتَرَبَّصُوٓاْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ﴾[1].
أيّها العزيز… هل ترى فرقاً بين الشهادة، والنصر؟ في الحقيقة إنّما هو انتصار واحد يسعى وراءه المجاهد، وباقي الأمور من الشهادة والهزيمة وحتى النصر، إنّما هي أمور ظاهرية. الانتصار الأوحد للمكلّف هو بأن يقوم بتكليفه على أكمل وجه، أن يهزم الشيطان الذي يوسوس له بالفرار والهروب والغدر والخيانة. فمتى ما تحقّق ذلك وانتصر المكلّف على شيطانه، فإنْ منَّ الله بالنصر فرح المجاهد به، وإنْ منّ عليه بالشهادة والقتل في
سبيله زادت فرحته أضعافاً، وإن كانت المعركة في الحقيقة قد كسبها الأعداء.
هذا الفكر وهذه الروح هو ما كنا نستلهمه من روح الشهيد الشيخ عماد حيدر أحمد، ونقرأه على صفحات وجهه البريء، قبل أن نسمعه من لسانه. فهنيئاً له الشهادة على هدى القرآن والعترة.
الحمدلله رب العالمين
الرّوح اللّانهائيّ
لَم تكُنْ «رأْس أُسْطا» المسْتلقيةُ بين المنحدَرات والهضاب، اسْتلقاء راعٍ مُتْعَب بين أغنامه الوادعة، المـُطِلَّة ببساطة منازلها، وقناعة قاطنيها، على مدينة جُبيل الساحليّة، أقلَّ حظًّا من رفيقاتها القرى الجبليّة المنتشرة كالعرائس الخضراء على صدر لبنان وأطرافه. فمع استحواذها على مناخ معتدل وامتيازها بعذوبة مياهها وفتنة أوديتها، بدَتْ على ذلك المرتفَع الخلاّب، وأمام تلك الشّواطئ السّاحرة، كجنّيّة حسْناء، أرسلَتها ربَّةُ السُّحُبِ والفصول، لتسْتَنْبت الأشْجار المثْمرة والمواسِم الوافرة، وتتفرَّجَ بخُيلاء على مسارح البَحْر الّذي لا ينام، وتتبرّجَ بزينتها وعُطورها أمام أُفقه السَّاجد بغيْر انْقطاع أمام وجْه الأبديّة.
بين تلالِها الحالمة وكُرومها السَّخيَّة، وعلى مَرْأى من نَسائِمها العذراء وعواصِفها الزَّاعِقة، وُلِد الطِّفل البَهيّ الطّلْعة عِماد حيدر أحمد، وعلى جَنباتِها النَّاضِرة تقلَّبَتْ نَظراتُه، وأزْهرتْ عواطفُه، وبيْن أزقَّتها الضّيِّقة، ودروبها المتعرِّجة، تنقَّلتْ قدَماه، وتسارعتْ خَواطره تبحثُ عن المقاصد المجْهولة
والمعالم المأْهولة، فبَانَ بين اسْتحالة إدْراك الأُولى، وصُعوبة استيعابِ الثّانية، كطائر صامتٍ ألقتْه الرّيحُ الغضوب في صحراء موحِشة، ثمَّ لفَحهُ الهجيرُ فأوْجَعَ جناحيْه ومانَعَه عن الطَّيَران، بَيْدَ أنَّه لم يهدأْ في محطّات طفولته، ولم يسْتكنْ في غمْرة صِباه، كما لم يستسْلم لقيود الحداثة الّتي تعبثُ بآمال الصِّغار، وتنْأى بأمانيهم، بلِ انْقاد لهواجسَ خفيَّة غريبة، وميولٍ لذيذة توالدتْ في أعماقه، وامتزجتْ مع أنفاسه، وتسرْبلتْ سَرائِرَه، فَرسم ببصيرَتِه السَّاطِعةِ على صفحَةِ غدِه صورةً فاقِعةً فارِعة تُحاكِيهِ وتحكيه للعامِلين والعابرين والمعتبرين.
وتمسَّك الفتى الطّموح بشمائل فاضلة، وخِصال كريمة، تمخَّضتْ عن أرْيَحيَّةٍ شائقة وسيرة رائقة.
حِكَمٌ وأمثال وآيات، تنْسابُ من مواعظه كومْضات النّور المنْبثقةِ من ثنايا غيوم الفجر، ابتسامات واثقة تنتظمُ على مُحيّاه كدَوائر مائيَّة أحْدثَها ارْتطام حَصاة بصَفْحة بئْرٍ ساكنة، شعاعٌ لطيف ينعْكس من عينيْه فيزيد سِحْنته رُواءً ونَضَارة، انْزواءٌ مُحبَّبٌ يتلبَّس طِباعَه، يُشْعِركَ وأنت تتفحَّص أحْواله، وتُدقِّق في بواعثه، أنّك أمام فكْر شاعريّ، يحومُ بيْن الإنْشاء
والأشْياء، وتخالُه حينما تُصْغي إلى أحاديثه الآسرة، كَنارًا غِرِّيدًا، مُرفْرفًا على ضِفّة يُنبوع نَمير، انْبَثَق من قَعْرِ المكان، غامرًا ما حولَه بالأُنْس والصَّفاء، فرحًا بالموجودات، مترنّمًا متألِّقًا، هامسًا أسْراره النّامية في آذان الأيّام والليالي.
على زُرْقة البحْر الأخَّاذة انْفرجتْ أساريرُ عِماد النَّقيّة، ومع طيور البراري السّابحة صدحتْ روحُه التَّوّاقة إلى ما وراء المرئيّات، وبين تلك المنْعَطفات الملْتوية ثابر كالنّحلة النَّاشطة، باحثًا تارة عن الرِّزق الكامن في دقائق التُّربة الخِصْبة، وطوْرًا عن الوحْدة الوليدة من رَحِم الطّبيعة البِكْر، حيث يُتيح السّكون الغامرُ للمتأمّل الفطين، والمتفكِّر الرّزين، ابْتداع الإيحاءات الباطنيّة، والإِيماءات العقْليّة، الّتي تَتوالدُ حِكمة جليّة، وعِرْفانًا خاشِعًا، من قَرائحِ المتصوِّفين وَمعابدِ المتولِّهين في هيْكل الرّوح المطْلَق.
لم يخْتر المزارعون مِهْنة الحراثة عن سابق عهْد أو وازعِ إرادة، بلْ وجَدوا أنفُسَهم وذَويهم مقْذوفين من العَدَم، على هذه الحقول المتناثرة، وبين تلك الصّخور المتلاحمة، فانتسبوا إلى مناكبها، وانشغلوا بخدمتها، مُقاومين الفقْر الضَّاربَ أطْنابَه، والحِرمانَ السَّاحِبَ أذْنابَه، بعزيمة لا تَليِن يَرْفدُها رَحاَبَةُ الرَّجاء،
وتَكْتَنِفُهَا ضَرَاوَةُ العَمل، مُتسلِّحين برُفوشهم وفُؤُوسِهم، جائدين بِعَرَقهم الدّافِق، وقُواهم الدّافئة، يتّقون مَهالكَ العناصِر والأنْواء، بِمواقِدهم ومراقِدهم، ويستقْبلون مفاتن الفصول وغِلالَها بمحبَّة لا تَخْمُد وسَواعد لا تهْمُد.
في مَسَاعِي الفَلاّحين وعلى بيادرهم عَثَر عِماد على نفْسِه، وفوْق أديم مكارمهِم ومحامدهم نبتتْ شَجرةُ كيانهِ الغَضَّة، فاتَّصف بقوّة الشّكيمة ودَمَاثَةِ الخُلُق وحلاوَةِ العِشْرَة، وسَلامة الطَّبْع، وإفْشاء السّلام، وَهجْر الَّلهْو، وتجنُّبِ الَّلغْو، وصِدقِ الموْقِف، وحُسْنِ المقال، وَغُنْمِ الفَعَال، وبذْلِ الجُهْد، فإذا ما تفحَّصَه حَصيف، قَرَأ على وجْهه سُطُورًا نُورَانيّة واضحة، تنِمُّ عمَّا يختزن في سَرائره، من بَداهَةِ التَّواضع، وطَلاوة التَّعارف وصَفاء النِّيَّة، ورَباطَة الجأْش، ولَطالما بَدَا لِمُعَايِنيه في مَرابع كدِّه ومَيادين عَطائه، سُنْبُلَةً ذهبيَّة من سنابل المزَارِع، وعُنْقودا متلأْلئًا من عناقيدها، وطاقةً زاهية من ريَاحينها، وما العهْدُ الممْتدُّ بين طفولته المتنامية، وشبابه الفائر إلّا حلقاتٌ متماسكةٌ لامعةٌ، من الاجْتهاد والاعْتماد والاتّحاد، اجْتهادٌ في اكْتساب العِلْم والحكْمة واللُّقْمة، واعتمادٌ على رازقه ونفْسه وكدْحه، واتّحادٌ بالمأْلوف والمعروف والمجهول.
هنا قادَ المواشي إلى المراعي القريبة، وهناك هرْول خَلْفَ أحَدِ عُلماء الدّين مُبْتغِيًا الكُشوف الرّبّانية، وهُنالِك تَلاَ القرآنَ على مسْمع الفجْر، وقرأ الأدعية في محافل قوْمه وسَهَراتهم العامَّة، وفي هذا المنزل علَّم أهْلَه وأرْحَامه الصَّلاة وأَداَء المناسِك، وعنْد ساحَة البلْدة دَعا الشِّيب والشُّبَّان إلى مُؤَازرَة المقَاومة، وفوقَ منْبر المسْجد ذكَّر الناسَ بالارتباط بالله، وتوحيد الصَّف، والتَّراحُم والتَّواصُل بيْن الجيران، والأخْذ بالشِّدّة على أعداء الوطن والحقّ والإنسان. بَرَع في أَدَائِه المدْرسي فَنَال الإطراء تِلْو الإطْراء من معلِّميه، ونَأَى بنفْسه عن الشُّبهات والخوْض مع الجهَلاء والمكابرين، أمَّا الإصلاح بين المتخاصمين فقد غدا ديْدنَه المحبَّب، ومُتْعتَه الرّائجة.
وبِذكاء وقّاد، ورويَّة حَسنة وَفَّق بيْن واجباته الدينيّة ومهامِّه الثّقافيّة، وبيْن شؤون العائلة وشجون المجتمع، فأصْبح على الرُّغمِ من يَفَاعتِه مثلًا راقيًا يُحْتذى للشَّبيبه الطّامحة، والأجْيال المشرئبَّة الأَعْنَاق إلى غَدٍ ناهض.
نَعَمْ، كان الشابّ عِماد يفكِّر بقلْبه ويشْعر بعقْله، ويحلُم في يقظته الدّائمة ببلوغ آفاقٍ لم تطأْها أجْنِحَة طائر، واكتشاف معالِمَ لمْ تُلامسْها بَعْدُ أشِعَّةُ الشَّمْسِ.
لم يخيِّب الحِرْمان القابضُ على أنْفاس القرويّين آماله الواسعة، فلَكَمْ شَعَر بالاكتِفاء بالقليل من مَتاع الدُّنيا، والرِّضا بالكَفاف من طيّبات الأرض، فالغِنى في شرْعه هو ثَراءُ العقْل، وأمَّا الجوع الحقيقيّ فإنَّه الخَواء الرُّوحيُّ المميت، الّذي لا يسُدُّه إلاَّ خبْزُ المعْرفة المجلَّلةِ بالنُّور، والعِرفانُ المستمرُّ الدَّوران في قُبَّة الذَّات العُلْيا حَيْثُ تَتَّحدُ إرادةُ الله بِسَعَادة الإنسان.
أمَّا المصائبُ الّتي تعثَّر بها، والمصاعِب الّتي استخفَّتْ به، فقد قَهَر طَلاَئعَها، وأَبادَ تَوابعَها، بمُثَابَرَة نافذة، وبسْمة فائضة، تتقلَّب وتتلوَّنُ مَزْهُوَّة على طَلْعَتِهِ المزْهِرَة، صفراء كالذَّهَب بيضاء كاللُّجيْن سنيَّةً كوَجْنَةِ طِفلٍ رَضيع.
[1] سورة التوبة، الآية 52.
2025-01-01