ملِكُ الموت والحياة
ساعتين مضت
الشهداء صناع الحياة
9 زيارة
القائدُ والمعلِّم
بَدَأَتْ رِعَاية الشّيخ عِماد تمتدُّ إلى أبناء قرْيته، فاتَّبع الطُّرُق الواضحة، والتجاربَ الفالحةَ الّتي اقتبسَها عن أساطين الفكر، وجهَابذة التّصوُّف، أَضْراب صدْر المتألّهين الشّيرازي، والإمام روحِ الله الخمينيّ.
رتّب أوْلويّاته، وطبَّقَ نظرِيَّاته، ولمْ يكنْ ليَخفَى عليه، أنَّ نهوضَ الأمّة يبدأُ بتنوير عقول أبنْائها، وصِحَّةَ الجماعات مَنوطةٌ بسلامة الأفراد، وتلْقيحَ الأفكار مُوازٍ لِتنْقيح الآداب، فكُلُّ أُفولٍ معنويّ أو نُزوعٍ حضاريّ، تقرِّره أهواءُ النَّفْس وميولُها «إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ». واصْطدمتْ منهجيَّةُ الشّيخ اليافِع في رحلته التبليغيّة الرَّصينة، بمصاعبِ النّزاع ومشاقِّ الصِّراع، صِراع الأضْداد على حَلْبَةِ بيئته وجِوارها: الجهْلُ والعِلْمُ، التخلُّف والتقدُّم، العوَزُ والرَّخاء، الشكّ والإيمان، والنّزاعُ الأبديّ القائم بين العادات والتقالِيد البائدة الّتي يتوارثُها اليومُ الحائر عن الأمسِ الخائر وبين المبادئ الخُلُقِيّة والأفْكار السَّامية الّتي تختزنُها الكُتُب المنزَّلة من الله، تلك المناراتُ الهادية إلى
الصّواب، المتجدّدة بالسَّلام، المسدَّدةُ بالكمال.
انْبَجَسَ وعيُه، وانْجَلتْ رُؤاهُ، يواكِبُ سُنَّة التّنافُس، وناموسَ التَّدافُع، بيْن الثّقافات الطّارئة، الّتي تمزُج السُّمَّ في الدَّسَم، والّتي تحملُها الرّياحُ الحضاريّة من فضاء إلى فضاء، وبيْن الهُويَّة الشَّرقيّة المرْسومة بعبْقريَّة الأنبْياء، الموسومة بحدْسِهم وحِسِّهم وأَسْفارهم.
وتفتَّقتْ ذهنيَّة الإيمان الفيَّاضة في مساعي الشّيخ اليافع، عنْ وصايا حكيمة، ومواعظ جمَّة، غرسَها في قلوب خالية ونفوس خاوية، فارْتادَ المسْجدَ، يؤُمُّ فيه الصّلوات، وارتفعَ صوتُه في الشّعائر الدينيّة، والذّكريات الوطنيّة بشيرًا نذيرًا، داعيًا إلى سبيل ربّه بالحكمْة والموْعظة الحسَنة، مُدغْدغًا أرْواح القرويِّين، بيقظَة خمينيّة ناهضة، ونهْضة إسْلاميّة مستيقِظة، تكْبَحُ جِماحَ الضّياع، وتمْنعُ تسَرُّب الضَّلال، منتصرًا لثوْرةٍ حسيْنيّة مشْتعِلة بيْن المشْرق والمغْرب، تناوئُ المستكْبرين، وتُؤازرُ المستضْعَفين وتقِفُ للظَّالمين وأذْنابهم وأظْلافهم بالمِرْصَاد.
عُيِّن الشّيخ التقيّ قائدًا كشْفيًّا لِفوْج الإمام الرّضا c فوَقَفَ وَقْتَهُ ووطَّدَ نفْسَهُ، على الاتِّباع المعْروف، والابتْداع
الموصوف، في مضامين هذه الحركة التّربويّة الرّائدة، فحدَّد أدْوار الأشْبال، ودرَّبهم على احْتمال الأعْباء، الّتي تنتظرُ كواهلَهم في غَدٍ مُشَرِّف، أتْحفَهم بروائع حِكْمته وبَدائع معارِفِهِ، من دون تملُّقٍ انْتهازي، أو تعثُّر أَدبيّ، أو إساءة طائشة، همُّه الأوَّل سلامة عقُولهم، ورَباطة جأْشهم، ولَكمْ كانوا مشْدُوهين بالبرامج المشوِّقة الّتي تُغذِّي مَلَكَاتِهم، وتسْتهْوي مواهِبَهم، وتربِطهمْ بِعُرًى وَثِيقةٍ من الأدَب الخلاَّق، وتُشْبعُ نَهَمهم من الصَّداقة المجرَّدة، وتُحفِّزُهُم على اجْتراح المعْجزات لإنْقاذِ موطنهم، وَمثَوى جُدودهِم، منْ بَراثِن الصّهيونية الغادرة.
مرَّ فصلُ الخريف على قرية «رأْس أُسطا» شاحبَ الوجْه كعادته، عاريَ الأطراف إلّا من بعض الأسْمال الرَّثّة الّتي لا تكادُ تسْترُ عوْرته، وهُرعَ الفلّاحون إلى محارثهم ودوابِّهم، يستوْدعون بِذارَهم صدْر الأرْض المكلوم، ويُطعمون مَواشيَهم ما أبقتْه العناصرُ لها من هشيمٍ يابس وأوراق صفْراء.
في أواسِطِ هذا الفصْل الكئيب، وفي اليوم الحاديَ عشَر من تشْرين الثّاني، كانت ذكْرى الشّهيد أحمد قصير العاملي، فاتح عصْر الاسْتشهاديّين، تنهضُ من مَدافِن العصور الخالية، مسْتعْرضةً مآتي صاحِبها الأَبيّ، متجوّلة على منازل الأحْرار،
ومعاهد الأنْصار، فتلقَّفَ الشّيخ عِماد هذه الذّكْرى كمن عثَر على ضالَّته، وراودَه الحنينُ إلى ذلك البطَل المسلم الشّجاع الّذي عَبَر المسافات الشّاسعة، الفاصلة بين الفَناء والبقاء، بلحْظةٍ فدائيّة واحدة.
وعندما بلغت الشَّمسُ ضُحاها جمع الكشّافة مهنّئًا، وحيّا باسمهم النجيع الّذي ضاع عبيره والبطولة الّتي عزَّ نظيرها.
ثمَّ دَعا الفوْجَ الّذي يتعهَّده إلى صعود تلَّة منزَوِيَةٍ علَى أطْراف القرية، هناك جلسُوا حوْل مائدة مختلفةِ الألوان، وقد شاطرهم تناول الطّعام، وساهَمهم التأمُّلَ في الغيوم المهاجِرة، والاسْتمتاع بموحيات الطّبيعة، ثم وقَفَ في وسَطهِم كالقُطْب من الرَّحَى، وعَرضَ بلسانٍ فصيح، ومنطقٍ رجيح، للفِتْيان المتحمِّسين، مُعْجزة هذا اليوم المبارك، مفسّرًا تبعاتِه، واصفًا ما حمله من بشائر ومسرَّات ورسائل، إلى الوطن والأمّة، وسمّاه عيد الثّائر والمقاوم، الثّائِر الّذي لا يُساوم، والمقاوم الّذي لا يُهادِنُ.
وبيَّنَ بفراسة المؤمن، أنَّ الوطن التائه في الفتنِ المتأجّجة، والحبائل المتعرِّجة، الُمغْتصبةَ أرْضُه المدنَّسَ عِرْضُهُ، يُعَوِّلُ
على حداثتهم الصّاعدة على سلالِم الأدب والاستقامة، مُتمايلةً في كَنَف المستقْبل المـُزبد، أشجارًا سامقة مُثْمرة، تظلِّل العابرين، وتُطْعم الجائعين، روَى لهم القِصصَ المأْساويَة المبكية المذْهلة، الطّافحة بضَحايا الاضْطهاد، وجرائم الاسْتبداد، الشّاهدة على التّعسُّف الصُّهيوني المعْهود، واصِفًا بجَزالةِ بيَانِه قداسة الدّماء المبْذولة، وسيولَها الجارفة في أودية الجنوب ومَعابِره، طالبًا منهم العهْدَ على مُعانقَةِ المجْد مُوصِيًا: برفع الرّايات الصّفراء ولو بعْد حين.
الْتأمتْ جماعةُ الكشَّاف حوْل معلِّمها الفاضِل، ومُربِّيها الصَّدوق، التآم أوراقِ الوردة النَّدية حوْل بذورها، ثمّ وقَفَ الشّيخ أمامهم مرفوعَ الهامة وُقوف سِنديانةٍ قويَّة أمام الأزاهِر وأجال بصَره على سِحْنَاتِهم، كأنَّه يَبْحثُ عن أشْياء ثمينة، مُودَعَةٍ وراءَها، وأطْلق وجهَه بابتسامة رِضًى واستْكفاء قائلًا:
«أنتم براعمُ عابقة تزيّن حدائق الوطَن، الّذي يَفْخر بعناية آبائكم ودِراية أحْلامكم، فهو يرى بَهْجته وعُمرانه في تناديكُم الحثيثِ وتلاقيكُم الأليف، بلْ إنَّه يَخْتالُ بآثاره المحمودة، ومعالِمه المحفوظة بتآخيكم، المصونة بسواعِدكم».
«ها أنذا أرْقُبُ في ألْحاظكم سِعَةَ رِحابِهِ، وعُمْقَ مودَّتهِ، وسِرَّ اسْتمراره، وقد عَبرْنا يا إخوتي البراري الوعِرة، والمفاوزَ المهلِكة. أمَّا تلك المهامهُ الشَّاقَّة فسوف تجتازونَها على عقباتنا المضْنية، بعْد أنْ تتخطَّفنَاَ سِهَام الأقْدَار، فالجنوب الّذي يتلقّى بصدره البلاء والأرزاءَ، خليقٌ باسْتنزافنا واسْتبسالكم. وإذا سألتموني عن أجمل مُنايَ فَأُجيب: هي أن تبْقَوْا صوتَنا المدوِّي وهُيامنا الفائق!».
«ففي كؤوسِكُم المترَعَةِ سَكَبْتُ عُصارَةَ يَراعي ومهارةَ انْدِفاعي، وعلى دُروبِكم الموبوءة بالجاحِدينَ والمارِقين، أسهَرُ عليكم حارِسًا وأدافِعُ عنكم فارِسًا، لأنَّكم حملةُ رايتي وكَتَبَةُ روايتي. والحقَّ أقولُ لكم: «لأجلِكُم أحيا وبِكم أبقى»، فلا غَرْوَ إذا اختَرْتُكُم رِفاقَ جهادي وأُمناءَ حقيقتي، لأنَّني «أُريدُ أنْ أؤسِّسَ جيلًا يحْملُ البُنْدُقِيَّة بعْد اسْتشْهادي».
ثمَّ يَمَّمَ وَجْهَهُ شَطْرَ الجَنُوُب، شاخِصَ البَصَر، وعَيْنَاه تَبُوحانِ بِوَجْدِهِ الشَّدِيد، وغِبْطَتِه الدَّفِينَة، كأنَّه شاهد الشّهيد أحْمد قصير، يُحلِّق في مَعاليه، مخَضُوبَ الجَنَاحَيْن، فوق بلْدتِه «ديْر قانون النّهر»، ثمّ حَنى رأسَه، وأثْنى قامته أمام تلك الأخْيلةِ الطَّارئة، اسْتدار بعْدها نحو الفوْج مُخاطبًا:
«إنَّ هذا اليْوم المتْخَمَ بالعَجائب والغرائب، هو أجْملُ أيّامي وأيامكم.
إنَّه المرآةُ الّتي يرى لبنانُ فيها مقامَهُ كما ينبغي أن يكونَ.
لأنَّه الحدثُ الأغرُّ في العصْر الأنْور.
احْتفظَ بصورة بَطَلهِ، وصفَاقَة أشْلائه.
له تسْجدُ جميعُ الأيَّام.
ومنه تستمدُّ الحياةُ جَدَارتها وقدْرتها.
وهو أيضًا، خالٌ يزيِّنُ وجْنةَ الزَّمن.
تحوَّلتْ دقائقُه إلى سِنينَ غاضبة.
وساعاتُه إلى دهُور عاصفة.
توالدتْ في فلَكهِ الشُّهُبُ والنَّيازِكُ.
وتوارتْ خلْف ضبابه الرُّكْبان.
حَمَلَ أثيرُه أصْواتَ الرَّصاص الرَّافض.
فوق مواكب الأمواج الثّائرة، والأمم السَّائرة.
به تبدَّلتْ مقاييسُ الهزيمة، ومكاييل النَّصْر.
لأنَّ الفجْر الّذي تلاهُ قهَرَ الظَّلام الأبَديَّ.
فإذا بالنّور يزحَفُ، كالجحافل فوق الجبال.
والثّعابين تَنْتَحِرُ خائِفة في أوكارها.
أمّا الذِّئاب المفترسة، فقدْ هُرِعَتْ جائعة جازِعة.
فالرَّاعي المتيقِّظ يتَلفَّتُ كالبَرْق يَمنةً ويَسْرة.
يراقِبُ المراعي والفِجاجَ بألْفِ عيْن.
وحولَه صِحابُه البُسَلاء، ينْشرون الرُّعب في النُّفوس الحاقدة.
ودموعه تذوب صلاةَ شكرٍ على المفارِقِ والمعابرِ.
بيْد أنَّ عَصاه الغليظةَ، تشُقُّ الصّخور، وتهْدمُ القصور.
أمّا صوْتُه الرَّاعبُ، فقد اخترق مجاهلَ الغاباتِ.
وأرْهبَ زئيرُهُ العنيف نمُورَها وأسُودَها».
ورَفَع أحَدُ الكشَّافة يده، مسْتأْذنًا ثُمَّ قالَ متسائِلًا:
«إنَّ الأمم العظيمة، تُكرِّمُ أبطالَها في حياتهم قبل مماتهم، فأَرى أنْ نَبْنيَ تِمثالًا لذلك الشَّهيد العميد، وسَطَ المدينة ليُصبح مَزارًا، يحدِّث الأجْيال عن بطولات الشّبيبة المؤمنة، في ساحاتِ
الشّرف والوطنيّة، فإذا فاتنا تكْريمُ اللّيْث العامليّ، عندما كان ناطقًا بيْن أحْضان الحياة، فلِمَ لا نُعلِنُ مَجدَه وهو صامتٌ وراء حجاب الموت؟». فضحك الشّيخ عِماد ضحكَ المنتصرين، ثمَّ قال بصْوتٍ تجمْع نَبَرَاتُه اليقينَ الطّافحَ، والحماسة الرَّاعِدةَ:
«إنَّ راعي الأمَّة الهُمام رابضٌ على الثّغور.
لقد تداركَ جوعَ القطيع وعَطشَه.
إنَّ حاملي كنوزِه، ووارثي خزائنه، على موْعِدٍ مع فجْر آخَر.
ها هم حُرَّاسُ الوطن وحُجَّابه، يقْتاتونَ بأَثْماره اليانعة.
ويرْوُون غليلَهم من ينابيعه المنسابة بيْن السُّفوح والتِّلال.
وروحه المولَعةُ بالإنْفاق المطْلق، تكادُ تبلُغُ نهايةَ رحْلَتها.
فالقدْسُ الفَخورَةُ بِشَجاعَتِه، تتمنّعُ على جلاَّديها وسجَّانيها وتُجدِّفُ على أسْمائهم.
وهَضَبة الجوْلان تَشتمُّ رائحةَ الياسَمين الدِّمَشْقيّ.
ونهرُ الوزَّاني المتمرِّد يرقصُ جَذِلًا بَيْنَ ضِفَّتيْه.
والعِمامةُ السَّوداء تخفْر السّواحل وتُخيف أبناء القِردة والخنازير.
إنّ الراعي الشَّاب يغتبطُ معنا بزِفافه السَّماوي.
وعرائِسُ الحُور العِين تُمْطرهُ بقبُلاتِها على الأرائك.
لقد تحوَّلتْ ابْتسامتُه الأبيّة إلى شَجرة سِنديان.
تُظلِّلُ مقاوِمًا وجَدْولًا وزهْرة خضراء.
أمَّا شبَّابتُه الحزينة، فقد اسْتودعَها أيّارُ أنْفاسَه الدّافقة، وبَثَّ منْها أناشيدَه الخالدة».
ووقَفَ كشَّافٌ آخر قائلًا:
«أنتَ سمْتُنا الناطق يا شيْخ عِماد، وصمتُنا الرَّائق، فاذا ما غيَّبَتْكَ صروفُ الحِدْثانِ عنَّا، فمنْ غيرُك يفسِّر أحْلامنا، ويلُمُّ شعْثنا ويُثيرُ غمائمنا الرَّاقِدة؟»، فأجابه والثّقة تملأ نَبَرات صوْته، فتزيدُه حلاوةً وجاذبَّيةً:
«أنا حيّ في كلّ عِرْق يفورُ بالدِّماء الزّكيَّة، وحاضر في كلّ باع مُقاوم وإنْ غيّبني الموت وراء الغَسق الأزْرق.
بل إنَّ صدورَكم الّتي تبْتلع الرَّصاص، وتقْتلِع العارَ، لهِي المفسِّر الحقيقيُّ لأحْلامكم وهواجِسكم.
إنّ مُقاومتنا للشّرِّ المطْلَق، ذرْوةُ أمجادنا العظيمة.
فوْقَ شواطئها تطهَّرْنا من دَنسِ العُبوديَّة.
وعلى سُفوحها صَعدنا لنُلاقي النُّور البهيّ.
ومن لا يتطهَّر بالكرم والإيثار، يبقى مُنْتِنًا إلى آخر الدّهور.
ومنْ يصرفْ عينيْه عن القِمم، يَندثرْ بيْن ظلُمات المغاوِر، وبداءة الأغْوار.
أنتم أيَّها الرِّفاق تعيشون ألْفَ عام إذا شئتم.
وتموتون كلَّ هنيْهة، إذا أردتم أو استطالتْ بكُم إعاقةُ الشَّطْط، ولَوْثةُ الطَّمع، وسقْطةُ الارْتهان.
كونوا توْقًا متوقِّدًا إلى الغد، وسَاقيَةً مترنِّمَةً أمامَ اللاَّنِهاية، وسِراجًا منيرًا لا تُطْفِئُه الأنْواء.
أنتم غرَسات حقل آخر تعهَّده القَدَرُ بعنايته.
فلا تمرحوا في الفَراغ، ولا تسْرحوا في فضاءٍ آخر، غير الفضاء الموعود بحفيفِ أجْنحتِكم.
اطْرحوا شباكَكم في بحر الظّلُمات، هناك سوف تنقذون آلاف الأسْماك من الانقضاض والانْقراض.
أنتم حافظو المصائر، وصائنو الحقوق.
لأنّكم تبْذرون وتحرُثون، لتملأوا أهْراء الأرْض حَبًّا طَهورًا، وحُبًّا شَكُورًا.
وكلّما بكَتِ الفصولُ في عيونكم، وابْتسمتْ في ثغوركم، يعُمُّ خِصْبُها وتضُوع طُيوبها.
ولا تناموا إلّا بعيْن واحدة، أمَّا العيْن الأخْرى فهي ترقبُ الفَضاءَ المـُدْلَهِمَّ، وتنتظرُ الصّباحَ السَّافر، ورموشها مرتعشةٌ أبدًا مع الرِّيح الشّمالية.
اِبسِطُوا أيْديَكم، واحملوا أمتعتكم، فالسَّفر إلى البلاد النّائية قد حانَ.
وآن الأوانُ أنْ تسْبقوا النّكْبةَ الكُبْرى والهزائم العظمى على صهوات جيادكم».
وسكتَ الشّيخ عِماد، ماسحًا عرَقَ جبينه براحته، وأرْسل بصرَه إلى الأفق الموَشَّح بالغيوم الدَّكْناء، كمنْ يفتِّش بيْن ذرَّاته عن معانٍ مفقودةٍ، ثمّ ألْقى بِنظره على الفِتْية سائلًا:
«هل اتَّسعَت اليوم حنايا سرائرِكم، وثنايا مطامحكم؟
أما عثرْتم فيها على أشواق وأبواق لم تَعْهدوها من قبْلُ؟».
فوقفَ أحَد الفِتْيان هاتفًا: «أجَلْ يا سيّدي، لقد طرَقتْ آذانَنا عُذوبتُك فطرِبْنَا بما لم نسمعْه في ماضي عهْدنا وفتحتْ عيوننَا محبَّتُك فرأينْا أدْنى الأشْياء إلى قلوبنا، وأقْرَبها إلى الله».
ثمّ أضاف قائلًا بإلحاح وإصْرار كبيريْن:
«ولكنْ أيّها الشّيخ اللّطيف العفيف بحقّنا عليك بل بحقّك علينا، هلاّ علَّمْتنا نشيدًا نصْدحُ به في أذان الإصْباح كلّما أيقظَنا النُّورُ ودعانا إلى ملاقاة النَّهار؟».
فاهْتزَّ الشّيخ طرَبًا وقال:
«ها قد ودّعت الشّمسُ السّهولَ والجبال.
وغطَستْ وراءَ الأفُقِ الرَّحيب.
واكتسَحَ اللّيْلُ ربوعَ بِلادي.
وخرجَ قُطَّاع الطُّرقُ الطّامعين مِن أوجِرَتِهم.
بين أشْباح العَتْمة يتسَلَّلُ اللّصوص الأشْقياء.
إلى حقول الجنوب الخالية، وقُراه المنكوبة.
يزْرعون الألْغام على دروب الطيِّبين.
ويقتلعون بقساوتهم العمياء شتَلاتِ التَّبْغ الرَّافِلة.
ها أنذا أسْمع أنينَ المعذَّبين، أيُّها الرِّفاق الأقْوياء.
وأرى في أعماقكم الّتي لا تَضيق، غيْرة لا تضيع.
هلُمَّ إلى مصارع الكرام ومُقارعةِ اللِّئام.
لقد ملَلْنا الانتظارَ في الظِّلال.
وسئمْنا الحياة بلا طِعان ونِزال.
هيّا إلى معارج النُّفوس الكريمة.
نُخاطِب الزَّمان ونرْصدُ المكان.
ونخْطب الحرِّيّة الكئيبة، بهذا النّشيد الجَسوُر الجميل:
سلام على أهْلنا في الجنوب.
على كلّ جُرْح بليغٍ وقلْبٍ حزينٍ وغُصْنٍ كسير.
سنقْطعُ الحديدَ بالوريد.
ونقهرُ الغزْوةَ البَغْضاءَ، بالقطْرة الحمراء.
ونُسْقطُ يزيدًا، والظّلمَ واليهودَ.
ونثْأرُ لطالب الحقيقةِ السَّجين.
لطفْلةٍ مُمزّقة، وقِبْلةٍ مُحَرَّقة.
وصِبْيةٍ قدْ قُطِّعُوا وأُحْرِقُوا في العَراء.
سننْزعُ الرَّصاصة الخبيثةَ الآثِمةَ.
منْ رأسِ فلاَّحٍ علَى مَرأَى بِذَاره.
ونَطْردُ الدُّخان، والرُّعْبَ والْهَوان.
ونَسحَقُ الْهَزيمةَ المحصَّنة فوْق الجبالْ.
فيا غَدي، يا مَعْقِلَ الجَنوبِ المـُعَذَّب.
سأوافيكَ مع حبيبتي البنْدقيَّة.
وساعدي يمُدُّني بَعزْمه وحُبِّهِ.
سأَعْبُر فوْقه إليكَ، وأتدفَّق عليكَ.
فارسًا مدجَّجًا وفاتحًا مُضَرَّجًا.
سأُنْقِذُ السَّلام وأنْصُر الإِسْلام.
وتغمر محبَّتي الأنام».
ظلَّ قائد الفوْج يتمدَّد مع إنْشاده، ويتأوَّدُ مع ترْداده، اسْتحسانًا واسْتئْناسًا، ورفاقُه الكشَّافةُ الملْتئمون أمام خيامهم يتمايلون كأفْنان دوْحة باسقة، تجْمعُها الرِّيحُ ثمَّ تفَرِّقُها، هاتفين بالكلمات الملتْهبة، مُتماوجين مع المعاني الجامحة، حتَّى إذا بلغَتْ مُتعةُ الإنْشاد، حدودَ الإنْشَاء والارْتقاء، خلَدوا إلى الصَّمْت كلَلًا لا مللًا، وبعْد أنْ حَبَس التَّعبُ أنْفاسَهم بُرْهة قصيرة، وقبْلَ عودتهم إلى بيوتهم مكلَّلين بالحبور، هتفتْ حناجرُهم القويَّة: «تحيا المقاومةُ الإسلاميّة إلى الأبد، وعاش قائدُنا الشّيخ عِماد أملًا لها، وحاميًا للوطن وذُخرًا نفيسًا لأُمَّتنا العظْمى».

2025-03-01