الرئيسية / من / قصص وعبر / الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها) – محمد علي المعلم 5

الفاطمة المعصومة (سلام الله عليها) – محمد علي المعلم 5

فتيان العرب، فإذا رأيت ذلك فأشرف من البعد على المسمى عمر بن يزيد النخاس عامة نهارك، إلى أن تبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا، لابسة حريرين صفيقين، تمتنع من العرض ولمس المعترض، والانقياد لمن يحاول لمسها، وتسمع صرخة رومية من وراء ستر رقيق، فاعلم أنها تقول: وا هتك ستراه.
فيقول بعض المبتاعين: علي ثلاثمائة دينار فقد زادني العفاف فيها رغبة، فتقول بالعربية: لو برزت في زي سليمان بن داود، وعلى شبه ملكه ما بدت لي فيك رغبة، فاشفق على مالك، فيقول النخاس: فما الحيلة؟! ولا بد من بيعك، فتقول الجارية: وما العجلة؟ ولا بد من اختيار مبتاع يسكن قلبي إليه وإلى وفائه وأمانته، فعند ذلك قم إلى عمر بن يزيد النخاس، وقل له: إن معك كتابا ملصقا لبعض الأشراف كتبه بلغة رومية وخط رومي، ووصف فيه كرمه، ووقاره، ونبله، وسخاءه، فناولها لتتأمل منه أخلاق صاحبه، فإن مالت إليه ورضيته فأنا وكيله في ابتياعها منك.
قال بشر بن سليمان: فامتثلت جميع ما حده لي مولاي أبو الحسن (عليه السلام) في أمر الجارية، فلما نظرت في الكتاب بكت بكاء شديدا وقالت لعمر بن يزيد: بعني من صاحب هذا الكتاب وحلفت بالمحرجة والمغلظة إنه متى امتنع من بيعها منه قتلت نفسها، فما زلت أشاحه في ثمنها حتى استقر الأمر فيه على مقدار ما كان أصحبنيه

(٢٩)

مولاي (عليه السلام) من الدنانير فاستوفاه، وتسلمت الجارية ضاحكة مستبشرة، وانصرفت بها إلى الحجيرة التي كنت آوي إليها ببغداد، فما أخذها القرار حتى أخرجت كتاب مولانا (عليه السلام) من جيبها وهي تلثمه وتطبقه على جفنها وتضعه على خدها وتمسحه على بدنها.
فقلت تعجبا منها: تلثمين كتابا لا تعرفين صاحبه؟! فقالت: أيها العاجز الضعيف المعرفة بمحل أولاد الأنبياء، أعرني سمعك وفرغ لي قلبك، أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، وأمي من ولد الحواريين، تنسب إلى وصي المسيح شمعون أنبئك العجب…. (1).
إلى غير ذلك من القضايا التي دلت على أن الأمر لم يكن بصورة عفوية، أو من القضايا الاتفاقية، بل كانت على وفق تخطيط إلهي محكم، وإن كانت لا تخرج عن ظاهرة الخضوع للأسباب المتعارفة، والتي كانت يبدو فيها أن الأمر طبيعي جدا.
أقول: لا يبعد أن يكون هذا أحد الأسباب التي دعت إلى أن تكون أمهات بعض الأئمة (عليهم السلام) من الجواري.
وحيث أن أم الإمام الرضا (عليه السلام) كانت إحدى الجواري، وإنما وقع اختيار الإمام الكاظم (عليه السلام) عليها لأنها كانت ذات شرف ومكانة وطهر وعفاف، ولما كانت السيدة فاطمة شقيقة الإمام الرضا (عليه السلام) حيث يتحدان في الأب والأم يتبين أن أمها لم تكن امرأة عادية من سائر


(١) كتاب الغيبة ص ٢٠٨ – 210.

النساء، بل كانت جليلة القدر عظيمة الشأن ذات منزلة رفيعة كما سيأتي بيان ذلك في محله من هذه الصفحات.
الثاني: إن من أعظم الركائز التي قام عليها الدين هو إلغاء الفوارق الطبقية بين أبنائه والمنتسبين إليه، وقد أكد القرآن الكريم في آياته، والرسول العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) في سيرته على ذلك، وكانت النظرة إلى جميع الناس على أساس من التساوي ونبذ الفوارق العرقية والنسبية، وأن المعيار في التفاضل بين الناس هو مقدار ما يتحلى به الإنسان من الإيمان والتقوى ومكتسباته الشخصية: * (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) * (1) ” ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى ” (2) وليس للعنصر العربي فضل على سواه، وليس لسواه فضل عليه، وليس ثمة ما يميز أحدهما على الآخر إلا مقدار قربه من الله تعالى، أو بعده عنه، ولذا رفع الإسلام من شأن سلمان الفارسي الأصل حتى غدا ينسب إلى أهل بيت العصمة فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (سلمان منا أهل البيت) (3)، ووضع الإسلام أبا لهب العربي الأصل والقرشي النسب، وهو عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى غدا من أشد الناس عداوة لله ولرسوله، ونزل فيه قرآن يتلى:
* (تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب * سيصلى نارا ذات لهب) * (4).
وقد اتخذ هذا المنهج القويم صورا وأشكالا مختلفة، لتثبيت هذه


(١) سورة الحجرات الآية ١٣.
(٢) مجمع البيان ج ٩ ص ١٣٨.
(٣) بحار الأنوار ج ٢٢ ص ٣٢٦.
(4) سورة المسد الآية 1 – 4.

القاعدة، حتى تكون هي المنطلق والأساس في تقييم الأشخاص، وسعى سعيا حثيثا بالقول تارة، وبالفعل أخرى، لبيان أن الإنسان لا يقعد به نسبه، ولا يعيقه عنصره، أو صنفه، عن تسنم أرفع الدرجات، إذا كانت على وفق ما يريد الله ورسوله: * (أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) * (1).
ولم يكن الأمر يقتصر على القضايا الرئيسية ذات الأهمية القصوى، بل كانت تشمل الشؤون الجانبية الأخرى، فما كان النبي (صلى الله عليه وآله) يفاضل بين أحد من المسلمين في العطاء – مثلا -، وكان يرى أن المال مال الله والناس عباد الله، وهكذا كان أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي أتخذ هذه السيرة النبوية منهاجا له، يقتفي خطى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تطبيقها على المسلمين معتبرا نفسه واحدا منهم، وأنهم جميعا أخوة في الدين، حتى أصبح هذا المبدأ أحد الأسس التي مهدت السبيل أمام كثير من الناس للالتحاق بهذا الدين والسير في ركابه.
ولو أن هذا المبدأ أخذ مجراه كما أراد الله تعالى ورسوله، وسعى أمير المؤمنين (عليه السلام) لتطبيقه، لما احتجنا إلى حروب الفتوحات التي يعتبرها البعض إحدى إنجازات الإسلام الكبرى.
وما يدرينا فلعل ما يحيق بالمسلمين من خصومهم من الكيد والعدوان إنما هو عمل انتقامي واقتصاص مما جرى في سالف الزمان


(1) سورة آل عمران الآية 195.

(٣٢)

شاهد أيضاً

صحيفة النور الإمام الخميني

الموضوع: وكالة في الامور الحسبية والشرعية وكالة المخاطب: قيصرية، ميرزا لطيف‏ التاريخ: 18 ارديبهشت 1343 ...