جامع السعادات – محمد مهدي النراقي – ج ١
4 ساعات مضت
زاد الاخرة
10 زيارة
جيفة، أو كبيت مظلم وضع السراج على ظاهره فاستنار ظاهره وباطنه مظلم، أو كرجل زرع زرعا فنبت ونبت معه حشيش يفسده فأمر بتنقية الزرع عن الحشيش بقلعه عن أصله فأخذ يجز رأسه ويقطعه فلا يزال يقوى أصله وينبت فإن الأخلاق المذمومة في القلب هي مغارس المعاصي فمن لم يطهر قلبه منها لم تتم له الطاعات الظاهرة، أو كمريض به جرب وقد أمر بالطلاء ليزيل ما على ظهره ويشرب الدواء ليقلع مادته من باطنه فقنع بالطلاء وترك الدواء متناولا ما يزيد في المادة فلا يزال يطلي الظاهر والجرب يتفجر من المادة التي في الباطن.
ثم إذا تخلت عن مساوئ الأخلاق وتحلت بمعاليها على الترتيب العملي استعدت لقبول الفيض من رب الأرباب، ولم يبق لشدة القرب بينهما حجاب، فترتسم فيها صور الموجودات على ما هي عليها، على سبيل الكلمة، أي بحدودها ولوازمها الذاتية لامتناع إحاطتها بالجزئيات من حيث الجزئية، لعدم تناهيها، وإن علمت في ضمن الكليات لعدم خروجها عنها، وحينئذ يصير (4) موجودا تاما أبدى الوجود سرمدي البقاء، فائزا بالرتبة العليا، والسعادة القصوى، قابلا للخلافة الإلهية، والرئاسة المعنوية فيصل إلى اللذات الحقيقية، والابتهاجات العقلية التي ما رأتها عيون الأعيان، ولم تتصورها عوالي الأذهان.
فصل الأخلاق الذميمة تحجب عن المعارف الأخلاق المذمومة هي الحجب المانعة عن المعارف الإلهية، والنفحات القدسية إذ هي بمنزلة الغطاء للنفوس فما لم يرتفع عنها لم تتضح لها جلية الحال اتضاحا، كيف والقلوب كالأواني فإذا كانت مملوءة بالماء لا يدخلها الهواء، فالقلوب المشغولة بغير الله لا تدخلها معرفة الله وحبه وأنسه، وإلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: ” لولا أن الشياطين يحرمون
(4) تذكير الضمير باعتبار إرادة الإنسان لأنه صاحب النفس بل هو هي.
ج: 1
(٣٧)
إلى قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات والأرض ” فبقدر ما تتطهر القلوب عن هذه الخبائث تتحاذى شطر الحق الأول (5) وتلألأ فيها حقائقه كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وآله: ” إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها، فإن التعرض لها إنما هو بتطهير القوب عن الكدورات الحاصلة عن الأخلاق الردية (6) فكل إقبال على طاعة وإعراض عن سيئة يوجب جلاء ونورا للقلب يستعد به لإفاضة علم يقيني، ولذا قال سبحانه:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا. (7).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ” من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم ” فالقلب إذا صفى عن الكدورات الطبيعية بالكلية يظهر له من المزايا الإلهية والإفاضات الرحمانية ما لا يمكن لأعاظم العلماء كما قال سيد الرسل: ” إن لي مع الله حالات لا يحتملها ملك مقرب ولا نبي مرسل “.
وكل سالك إلى الله إنما يعرف من الألطاف الإلهية والنفحات الغيبية ما ظهر له على قدر استعداده، وأما ما فوقه فلا يحيط بحقيقته علما لكن قد يصدق به إيمانا بالغيب كما إنا نؤمن بالنبوة وخواصها ونصدق بوجودها ولا نعرف حقيقتهما كما لا يعرف الجنين حال الطفل والطفل حال المميز والمسير من العوام حال العلماء والعلماء حال الأنبياء والأولياء.
فالرحمة الإلهية بحكم العناية الأزلية مبذولة على الكل غير مضنون بها على أحد، لكن حصولها موقوف على تصقيل مرآة القلب وتصفيتها عن الخبائث الطبيعية، ومع تراكم صدأها الحاصل منها لا يمكن أن يتجلى فيها شئ من الحقائق، فلا تحجب الأنوار العلمية والأسرار الربوبية عن قلب من القلوب لبخل من جهة المنعم تعالى شأنه عن ذلك، بل الاحتجاب إنما هو من جهة القلب لكدورته وخبثه واشتغاله بما يضاد ذلك.
ثم ما يظهر للقلب من العلوم لطهارته وصفاء جوهره هو العلم الحقيقي
(5) المراد من الحق الأول عون الله تبارك وتعالى فكما أن الحق صفة له كذلك الأول فهو صفة بعد صفة.
(6) المراد من النفحات هي الإفاضات المعنوية لا التمسك كما وردت بالمعنى الثاني في بعض الأخبار.
(7) العنكبوت الآية: 69.
(٣٨)
2025-09-11