ولقد كتب يوما لزياد، واليه على الكوفة والبصرة يقول له: (إنه لا ينبغي أن نسوس الناس بسياسة واحدة، فيكون مقامنا مقام رجل واحد.. ولكن تكون أنت للشدة والغلظة، وأكون أنا للرأفة والرحمة، فيستريح الناس بيننا)..!! ولو أن معاوية – غفر الله له – كان أكثر اهتماما بسلطان الإسلام منه بسلطان بني أمية، لوفر على الإسلام وعلى المسلمين كثيرا من المخاطر والمهالك التي أفضى إليها حرصه على ذلك السلطان.. لقد جشمه ذاك الحرص من الشطط ما كان يعود عليه نفسه بالغرم الأكيد. وإنا لنذكر – مثلا – تشجيعه النزعة القبلية بإيثاره في العطاء وفي المكانة بعض القبائل على بعضها الآخر، فهو يغدق على (اليمانية) ويميزهم في العطاء، ويجعل لهم كيانا عسكريا قائما بذاته.. ثم لا يلبث أمرهم أن يعلو ويتفاقم، حتى راحوا يمنون عليه بما هو فيه من سلطان، ويقولون: لولا نحن ما كان معاوية.. فيضطرب الأمر في يده ويعالج الموقف بخطأ جديد حين يتجه إلى قبائل (القيسية) فيغدق عليهم الأموال والامتيازات.. ثم لا يجديه ذلك شيئا، فيرهق نفسه في التوفيق بين القوتين الكبيرتين من جديد.. كذلك نرى أن الحلم الذي لم يعرف في التاريخ بمثل ما عرف به… نرى هذا الحلم وهو أبرز خلائقه ومميزاته لا يغني عنه شيئا في درء صفة القسوة والقتل عن عصره وحكمه.. فمصرع (حجر بن عدي) وأصحابه بأمر معاوية وعلى مقربة من قصره بالشام بغير جريرة ولا ذنب، حدث يجلل سلطان معاوية بالسوء..
(٦٦)
لقد كان حادثا بشعا، حتى لقد ندم هو نفسه على اقترافه، وبقي إلى آخر عمره غصته تفزعه وتضنيه.. ثم وصيته إلى ولده يزيد أن (إذا خرج عليك عبد الله بن الزبير فظفرت به فقطعه إربا.. إربا)!! ثم قسوة ولاته، واستلاؤهم على المسلمين بصورة تثير غيظ الحليم.!! وإنا هنا – في مصر – مثلا – لنحفظ ونذكر خطبة أخيه عتبة بن أبي سفيان الذي ولاه أمرها بعد موت ” عمرو بن العاص) إذ استهل حكمه وولايته بأن جمع أهل مصر الطيبين الودعاء، وقام فيهم خطيبا بهذه القوارع: (يا حاملي ألأم أنف ربك بين أعين..!! إني إنما قلمت أظافري عنكم، ليلين محسنا لكم، فأما إذ أبيتم إلا الطعن على السلطان، فوالله لأقطعن بطون السياط على ظهوركم… فإن حسمت أدواءكم، وإلا فالسيف من ورائكم.. يا أهل مصر.. قد كنتم تعذرون ببعض المنع منكم لبعض الجور عليكم.. وقد وليكم من إذا قال فعل.. فإن أبيتم درأكم بيده، فإن أبيتم درأكم بسيفه.. إن البيعة شائعة.. لنا عليكم السمع، ولكم علينا العدل)..!! إن للسلطة ضراوة لا تقاوم، إذا هي بسطت إغراءها ونفوذها على الحاكم يرى فيها غنما لا تضحية.. وزهوا، لا واجبا.. ونحن لا نريد الطعن في معاوية، فإن منهجنا أن نحترم كل
(٦٧)
الاحترام، من صحب رسول الله وصلى وراءه.. وجلس بين يديه.. وقاتل تحت لوائه.. مفوضين أمره فيما يكون له من خطأ إلى الله.. بيد أننا خلال قيامنا بواجبنا في تحري الحقيقة في هذه القضية التي ندرسها، لا نملك إلا إبداء الأسف الشديد، والجزع الأشد لهذا النهج الذي سار عليه مؤسس دولة الأمويين. لا سيما حين اتخذ أفدح قراراته، وأكثرها ضراوة وبؤسا.. ذلكم هو أخذ البيعة لولده – يزيد – وفرضه على الدولة المسلمة وعلى الأمة المسلمة الأم الذي يعنينا الآن بحثه، والذي كان السبب المباشر والأوحد في مأساة (كربلاء).. وفيما تلا (كربلاء) من أهوال شهدتها مكة وشهدتها المدينة على نحو أليم ووبيل.. هذه الأحداث التي كانت هي الأخرى سببا مباشرا في ضياع الملك من بيت معاوية وذريته إلى الأبد بعد أربع سنوات من وفاته، ثم انتقال هذا الملك إلى بطن من بطون بني أمية، أولئك هم بنو مروان.. لقد اهتزت أعطاف (معاوية) بالإمارة والملك، أربعين عاما كاملة.. عشرين عاما، أميرا.. وعشرين عاما، ملكا.. أفما كان يكفيه ذلك، ثم يترك الأمر من بعده لاختيار المسلمين، ليكون في ذلك على الأقل وفاء بالعهد الذي أبرمه مع (الحسن) والذي كان أهم شروطه للتنازل له عن الخلافة..؟؟ إن ذلك لم يحدث.. ولقد قرر معاوية.. بتدبير منه، أو بإيجاء من بعض مشيريه، أو بهما معا، أن يستبقي السلطان في بيته وأسرته، واختار لذلك أبعد الناس عن الصلاحية للأمر ولده (يزيد).. فحين أحسن خمود صحته، ودنو نهايته، شرع على عجل يفرض – يزيد – على الناس ويهيئ له مكانه.. وبدأ بالمدينة حيث كان بها نفر جليل من بقية الصحابة..