04 ما كان يبدو عل محمد في ساعات الوحي على هذا النحو الخاطىء من الناحية العلمية أفحش الخطأ . فنوبة الصرع لا تذر عند من تصيبه أي ذكر لما مر به أثناءها ، بل هو ينسى هذه الفترة من حياته بعد إفاقته من نوبته نسيانا تاما ، ولا يذكر شيئا مما صنع أو حل به خلالها ، لأن حركة الشعور والتفكير تتعطل فيه تمام العطل . هذه أعراض الصرع كما يثبتها العلم ، ولم يكن ذلك ما يصيب النبي صلى الله عليه واله وسلم العربي أثناء الوحي ، بل كانت تتنبه حواسه المدركة في تلك الأثناء تنبها لا عهد للناس به ، يذكر بدقة ـ غاية الدقة ـ ما يتلقاه ، وما يتلوه بعد ذلك على أصحابه ، ثم نزول الوحي لم يكن يقترن حتما بالغيبوبة الحسية مع تنبه الإدراك الروحي غاية التنبه ، بل كثيرا ما يحدث والنبي صلى الله عليه واله وسلم في تمام يقظته العادية » (1).
وفي ضوء ما تقدم يمكن أن نرصد في ظاهرة الوحي عملية إرسال واستقبال بوقت واحد ، إرسال بوساطة الملك المؤتمن ، واستقبال من قبل النبي صلى الله عليه واله وسلم المصطفى صلى الله عليه واله وسلم ، يتم ذلك في حالة إدراك متماسكة ، يسيطر فيها الوعي والشعور والإحساس ، كما لو كان أمرا عاديا في يقظة حقيقية ، قبل الوحي ، وأثناء الوحي ، وبعد الوحي ، مهما صاحب عملية الوحي من شدة ووطأة ومفاجئة . فالوحي حقيقة خارجية مستقلة عن كيان النبي صلى الله عليه واله وسلم النفسي ، ولكنها لا تغير ذلك الواقع النفسي ، بل تزيده جلاء وفطنة وذاكرة ، ويمثل فيها النبي صلى الله عليه واله وسلم دور المتلقي الواعي من جهة ، ودور المبلغ الأمين من جهة أخرى ، لا يقدم ولا يؤخر ، ولا يغير ولا يقترح ، ولا يفتر ولا يتكاسل .
ولقد كان ذلك بحق :
« استقبالا من النبي صلى الله عليه واله وسلم لحقيقة ذاتية مستقلة ، خارجة عن كيانه وشعوره الداخلي ، وبعيدة عن كسبه أو سلوكه الفكري أو العملي » (2).
وليس من الضروري أن تتوافق هذه الظاهرة مع رغبات النبي صلى الله عليه واله وسلم الآنية ، أو تطلعاته النفسية الملحة ، فقد ينقطع عنه الوحي ، وقد يتقاطر
(1) ظ : بكري أمين ، التعبير الفني في القرآن : 19 .
(2) المصدر السابق ، نفس الصفحة .
عليه ، ولكنه لا يعدو الوقت المناسب في تقدير الله عز وجل ، وما تحويل القبلة إلى الكعبة ، وإبطاء الوحي في حادثة الإفك ، وفترة الوحي حينا ، والتلبث في قصة أهل الكهف ، إلا شواهد تطبيقية على ما نقول ، وأدلة مثبتة : أن الوحي خاج عن إرادته ، ومستقل عن ذاته .
ولا شك أن النبي صلى الله عليه واله وسلم آمن منذ اللحظة الأولى ـ بقناعة شخصية متوازنة ـ بأن ما يوحى إليه ليس من جنس الأحلام وأضغاثها ، ولا من سنخ الرياضيات ومسالكها ، ولا من باب الأحاسيس القائمة على أساس من الذكاء والفطنة ، ولا من قبيل التخيلات المستنبطة من الحدس والفراسة ، وإنما كان بإيمان نفسي محض بأنه نبي يوحى إليه من قبل الله تعالى ، وما الروايات والإسرائيليات القائلة بشكه في الظاهرة إلا ضرب من الأخيلة التي لا يدعمها دليل .
« والحق أن وحي النبوة والرسالة يلازم اليقين من النبي صلى الله عليه واله وسلم والرسول بكونه من الله تعالى على ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام » (1).
ويوحي الله عز وجل لملك الوحي ، ما يوحيه الملك إلى النبي صلى الله عليه واله وسلم عن الله ، ويتسلم النبي صلى الله عليه واله وسلم الوحي ، فالوحي واحد هنا مع تقاسم المسؤولية ، وهو عام بالنسبة لكل الأنبياء ، وخاص بالنسبة لوحي القرآن ايضا ، فالملك يؤدي عن الله لمحمد ، ومحمد يتلقى ذلك الوحي من الملك ، ويؤدي ما يوحي به إليه إلى الناس ، وكان ذلك طريق الوحي القرآني فحسب ، وقد صرح به القرآن الكريم بقوله تعالى :
( وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * ) (2).
والروح الأمين هو جبرائيل عليه السلام بإجماع الأمة والروايات ؛ قال طبرسي ( ت : 548 هـ ) : « يعني جبرائيل عليه السلام ، وهو أمين الله لا يغيره ، ولا يبدله … لأن الله تعالى يُسمِعه جبرائيل عليه السلام فيحفظه ، وينزل به على الرسول
(1) الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن : 20 | 328 .
(2) الشعراء : 192 ـ 194 .