القرآن الكريم يؤكد أنَّه معجزة وأنّه لا يمكن الإتيان بمثله على الإطلاق. وقد كتبت مؤلّفات لهذا الغرض، ولكن نشير إجمالاً إلى وجوه إعجاز القرآن:
من جملة وجوه إعجازه، بلاغته. والبلاغة هي صياغة الكلام بحيث يتفق مع مقتضى الحال، ويؤدِّي أهدافَ القائل على أفضل وجه. فالبلاغةُ لا تقتصر على اختيار الكلمات الجميلة والجذَّابة، وإنَّما لا بد بالإضافة إلى ذلك من الأخذ بعين الاعتبار هدف القائل ووضع السَّامع. ولما كان الله تعالى يعرف هدفه أفضل من الجميع ويعرف وضع عباده أحسن من كلّ أحد، وهو المحيط بكلِّ التركيبات اللغوية، فإنَّه تعالى يستطيع بيان هدفه على أساس ما تقتضيه حال عباده وبأفضل وجه ممكن، أمّا الآخرون فهم محرومون من مثل هذه الخصائص. والشاهد على كونه إعجازاً، أنَّه لم يستطع أحد على طول التاريخ أنْ يأتيَ بمثله مع وجود كلِّ هذا التراث الأدبي والبلاغي، الضَّخم ووجود كلِّ الدواعي التي تحمل على المعارضة، فكلّما صاغ
7- سورة يونس، الآية: 38.
8- سورة البقرة، الآيتان: 23 ـ 24.
إنسانٌ ما كلاماً وجده المطّلعون وذوو الخبرة أخفض منزلة من القرآن.
ومن وجوه إعجاز القرآن أيضاً عدم وجود الاختلاف فيه: قال تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾9. فلو كان الكلامُ صادراً من إنسانٍ لوُجِدَ فيه الاختلاف، لأنَّ الإنسان كجميع الموجودات المادّية في حالة تغيُّرٍ دائمٍ ومستمر، فهو يخضع لتأثير العوامل المحيطة المختلفة فيتكامل وتزداد معلوماته وتتغيَّر حالاته، كلُّ هذه الأمور تؤثّر في كلامه فلا يستطيع أنْ يحافظ على لون واحد من الكلام والبلاغة طيلة عمره. فتارة ينخفض مستوى كلامه وأخرى يرتفع.
ومن وجوه إعجاز القرآن أيضاً أنّ حامله شخص لم يتلقّ درساً من العلماء، وكانت طريقته في الحديث مثل سائر النَّاس: ﴿فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ﴾10 ثمَّ فجأة يظهر هذا الكلام المنقطع النظير الذي لا يمكن مقارنته بأحاديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة، وإن كانت بحدِّ ذاتها في مستوىً رفيعٍ من حيث البلاغة والفصاحة. قال تعالى: ﴿قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾11. فالرسولُ صلى الله عليه وآله وسلم يريد أنْ يقول لأمّته إنَّني قد عشت معكم كلَّ هذا العمر ولم تلاحظوا صدور مثل هذا الكلام منّي وبعد أربعين عاماً من عمري لاحظتم صدور كلام يختلف عن كلامي السابق، فلو لم يكن من الله لوجدتم أنَّه مثل كلامي: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾12.
ومن أهمّ وجوه إعجازه أنَّه كتابٌ جامعٌ لكلِّ مراتب الهداية، وهو كتاب التربية الذي يلامس عمق الفطرة الإنسانية ويرتفع بها إلى أعلى علّيّين، في مختلف أبعاد
9- سورة النساء، الآية: 82.
10- سورة الأعراف، الآية: 158.
11- سورة يونس، الآية: 16.
12- سورة العنكبوت، الآية: 48.
الإنسان وكل ما يحتاجه في حياته. فالإنسان يستحيل عليه أنْ يكون ملمّاً بجميع المعارف العقائدية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية والعسكرية وكلّ ما يحتاجه الإنسان في حياته، وقد ثبت عملياً أنَّ الإنسان إذا أراد أنْ يتقدّم في مجال ما، لا بدَّ أنْ يُنفق كلّ عمره في اتجاه واحد، حتَّى يتخصَّص فيه ويلمّ بمعظم جوانبه، وأمّا أنْ يُحيط الإنسان بجميع التخصّصات والمجالات وينظر بشأنها أيضاً، فهو الإعجاز بعينه والدليل على أنَّه مرتبط بالله العالم بكل شيء.
ومنها أيضاً، أنَّ انفعال الأذواق المتغيّرة عبر العصور وشعور النَّاس بأنه يخاطبهم في عصرهم ومشاكلهم وخصوصيّاتهم دائماً هو دليل إعجاز بنفسه. وأيضاً اعتراف النَّاس والعلماء والمفسّرين بعجزهم عن الإحاطة التامّة به، مع أنَّ كلّ واحدٍ منهم يرى فيه ريّاً لعطشه الذي لا ينتهي.
ومن وجوه الإعجاز الأخرى إتيانه بمواضيع علمية لم تكن مقبولة في ذلك الزمان، من قِبَلِ المحافل العلمية، ثمَّ تقدّمت بعد ذلك وأثبتت صحتها.
ومن وجوه إعجاز القرآن إخباره بالغيب، وتنقسم هذه الأخبار إلى قسمين: قسم منها يتعلَّق بالحوادث الماضية التي لم يكن لأحد من النَّاس سبيل إليها: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾13.
والقسم الآخر يتعلَّقُ بالأحداث التي ستقع في المستقبل منها قوله تعالى: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾14. ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾15.
13- سورة آل عمران، الآية: 44.
14- سورة الروم، الآيتان: 2 ـ 3.
15- سورة الفتح، الآية: 27.
خلاصة الدرس
1- الإنسان ليس بمقدوره الاهتداء إلى طريق الله بواسطة الحواس والعقل لقصورهما وعجزهما، لذا كانت الحاجة إلى طريق آخر غيبيّ، وهذا الطريق هو طريق الوحي والنُّبوَّة.
2- للمعجزة علامتان أساسيّتان هما: أنّها غير قابلة للتعلّم والتعليم، وأنّه لا يمكن أنْ يتغلّب عليها أيُّ عامل آخر.
3- كونُ الإسلام رسالة أبدية عالمية، وكون دعوة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ونبوّته لجميع البشر، فهي غيرُ محدَّدةٍ بمكان خاص وزمان خاص، لأجل هذا كان القرآن الكريم معجزة الإسلام الخالدة.
4- لإعجاز القرآن أوجه عديدة منه, البلاغة المنقطعة النظير، عدم وجود أي اختلاف أو تناقض فيه، أنَّ حامله لم يتلقّ درساً في حياته على أحد، وأنه جامع لكلِّ مراتب الهداية وفيه كلّ ما يحتاجه الإنسان بحيث إنَّ كلَّ واحد يجد فيه ريَّاً لعطشه، إخباره بالغيب في موارد كثيرة سواء التي حصلت أو التي سوف تحصل، إتيانه بمواضيع علمية لم تكن معروفةً سابقاً.