القدوة ضرورة ونجاة
الدكتورة باسمة زين الدين1
القدوة ضرورة ونجاة
أمام ما يحيط بنا من تردّ، وأمام هذه الهجمة الشرسة على أمتنا، وفي ظل هذه الحراك الشعبي والثورات المناهضة للأنظمة الهرمة والمهترئة في عالمنا العربي، أضف إلى الانقسامات الفكرية التي تعصف بالعقول، والتي ربما تكون نتيجة لسياسة ” الباب المفتوح ” وعلى مصراعيه أمام الأفكار المعلّبة الجاهزة الغربية عن قيمنا وتقاليدنا وأعرافنا، كما الترويج لها عبر الضخ الإعلامي من خلال الحشد الهائل والزخم الكبير للفضائيات والانترنت في تقديم وجبات سريعة، إن للصغار أو للكبار في محاولة لإعادة برمجة الأدمغة وسوقها إلى حيث تشاء نكون أو لا نكون، حيرة أم عجز.
كيف السبيل؟ بل أين المفر؟
زمن يعيش فيه شبابنا وشاباتنا من أبناء الجيل في مأزق كبير وحيرة أكبر، أو ربما هو شعور بالعجز أو الضعف. هذه الحيرة في تحديد الأولويات
1- باحثة وأدبية.
أو حتى المهمات، أو الحيرة في تحديد مطالب الحاضر وكيفيّة التعامل معه، ناهيك عن النظرة إلى المستقبل، وهل بالإمكان الوصول إليه في ظل هذا الواقع المتردي المعاش؟
حجر نلقيه في حضن الكبار من أبناء أمتنا الذين نُعيب عليهم هذا التساقط الذليل، هذا العري الملتصق بالمخادعة للواقع في محاولة بائسة منهم لتغطية هذا العري بالنقوش، بالوشم، بالانزواء أو بالخوف من مواجهة الشمس. ولكن أي حجر،لا بل أية حجارة نرميها في دم متخثر، وهذا هو السؤال الذي يواجه الشباب والشابات، كيف يمكن أن ننقذ ما تبقى من إنساننا ومجتمعنا؟ وهل بإمكانًً القشةًً أن تنقذ الغريق؟
تجربة نخوض غمارها في الحياة، ونحاول الخلاص كي لا نمعن في الغرق، وكي لا يبقى الموت يحمل سكينه ويتهدد الأحياء، نفتش عن مفردات الحياة وعناصر البقاء، ربما يتطلب الأمر معجزة من السماء أو مخلصاً يعيد تركيب الأشياء، أو أنموذجاً ولو في الهواء، حلماً نعيشه ولو في العراء،من هنا نبحث عن حل،عن الخلاص، عن نور في نهاية الدهليز نريد أن نصل إليه ولو بعد عناء!.
غريزة فطرية وطبيعة بشريّة، ملحة في كيان الإنسان التي تدفعه نحو التقليد والمحاكاة، وخاصة الأطفال، فهم أكثر تأثراً لأنهم يعتقدون أنّ كلّ ما يفعله الكبار صحيحاً، فقد ورد في موسوعة العناية بالطفل:ًً يبدأ الطفل في سن الثالثة يدرك بوضوح أكثر أنه من الذكور، وأنه سيصبح يوماً ما رجلاً
كأبيه، وهذا ما يحمله على الشعور بإعجاب خاص بأبيه وبغيره”2.
من هنا فالإنسان لا يستطيع أن يبدأ من الصفر، بل لا بد من الإفادة ممن سبقوه في الحياة، وكانت لهم تجارب وخبرات يتوسم فيها من عرفها طموحه، ويلبي حاجاته ومن ثمة ينطلق.
إذن هي الحاجة التي تدفع بالإنسان العاقل لأن يتخذ أنموذجاً ومثالاً كاملاً وراقياً وواقعياً في آن معاً يُعجب به إما في حياته كلها أو في جزء منها، كأن تجد في الحياة من يمكن أن يُقتدى به في إنجاز معين، أو تطور ما، أو خبرة محددة، أو صفة من الصفات المحببة، كأن يقال مثلاً: فلان قدوة في البذل والتضحية، ولكنه لا يتصف بالعلم مثلاً، ويقال إن فلاناً قدوة في طلب العلم دون الشجاعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يقال إن هذه السيدة قدوة في الأدب واللباقة ولكنها ليست على قدر من العلم.أما الموفق فهو من ضرب من كلّ خير بسهم فيكون له باع في كلّ فضيلة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
إذن الحياة بالنسبة للإنسان تعتبر تجربة جديدة، لأنه يأتي إليها لسفرة واحدة فقط، غير قابلة للتكرار، ويواجهها دون سابق خبرة أو معرفة، لذا فإن الفشل في تجربة الحياة لا يمكن تداركه أو تعويضه، وكما يقول القرآن الكريم: ﴿ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينًًُ﴾3 ولكن كيف يُنجح الإنسان تجربته الواحدة والوحيدة في هذه الحياة، وهو يواجهها كمتاهة
2- أليسون ماكنوشي، موسوعة العناية بالطفلًً، الدليل العلمي للآباء والأمهات، دار الفاروق، ط2007، ص 58.
3- سورة الحج: آية:11.
واسعة، مزروعة بالألغام، مليئة بالشهوات والمغريات، تتشعب فيها الطرق، وتتعدد الخيارات؟
إنه بأمس الحاجة إلى خريطة واضحة المعالم، تدله على طريق النجاة، وتنبهه على مناطق الخطر، هذه الخريطة تتمثل بذلك المخلص من المتاهة، أو ذاك النور المضيء وسط الظلام، أو ما نسميه بعبارة أخرى المرشد والدليل الذي نتتبع خطواته بدقة وحذر داخل حقل ألغام ومتفجرات.
إنها القدوة سبيلنا للوصول حيث الأمن والطمأنينة، فهي التي تشعرنا بالثقة وتحثنا نحو الخير وتدفعنا لتجنب العقبات ومحاولة الخروج من مهالك ومتاهات تعترض طريقنا وتخرب حياتنا. هذه القدوة التي نختارها بملء إرادتنا لا بانصياع أعمى، وقد يختلف بعضنا عن الآخر في اختياره القدوة وذلك حسب ميوله، فمنا من يجعل اللاعب الرياضي الفلاني قدوته لأن اهتمامه بالرياضة ومنا من يختار الفنان الكذا قدوته لأن اهتمامه بالفن كبير، ومنا ومنا القليل القليل من يعش دون قدوة.
نحن بشر والبشر بحاجة كي ترتقي وتتقدم، ليس إلى قيم مجرّدة، أو صور صامتة، أو حكايات خياليّة، أو نصوص شعريّة، أو حتى أغاني ثوريّة، بل نحن بأمس الحاجة إلى نماذج حيّة من البشر، يصح التماهي بها والاستنارة بهديها.
نحن البشر، بحاجة إلى بشر مثلنا، يجسدون القيم ويثبتون أنها قيم ملموسة ومعيوشة، وفي متناول الجميع، أما إذا لم يعشها بشر مثلنا، من لحم ودم، فإنها تبقى مفاهيم مبهمة غامضة، وتبدو نظريات غير واقعيّة، وهذا
لا يعني إلغاء أو مصادرة لرأينا وإرادتنا، أو ممارسة لضغط ما علينا، بل يجب أن يصاحب هذا التتبع والاهتداء قناعة وتصميم ووعي وإرادة وعزم.
وإذا كان تعريف القدوة أتباع شخصية تُحدث انبهاراً وتترك آثاراً لتجذبك نحوها بفعل أفعالها وجمال أقوالها وحسن سيرها وسلوكها.
هذا ما دفعني إلى اتخاذ تجربة المقاومة مثالاً أجده الأقرب إلى الواقع، محاولة تقديم ثلاثة نماذج بشرية من تلك الروح الجهادية التي صدقت القول بالفعل لينطبق عليها قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: “الموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين”4.
مثال حي من واقعنا اللبناني، حيث نقرأ المعاناة والظلم والقتل والموت حياة جديدة تفتح أمامنا بوابة كبيرة لها ألف باب وباب، وكلّ باب يدخلنا على ما هو أرحب وأغنى. إنها تمثل التجربة الحيّة الميدانية، بما تحمل من التزام بالقضيّة وتمسك بالقيم والمبادئ وتحقيق الأهداف النبيلة الساميّة، تجربة تحكي قصة قلة قليلة من الذين صدقوا العهد لأنهم آمنوا بربهم ونذروا النفس للفعل المغيّر المقاوم وما بدلوا تبديلاً.
نمر على معقل من معاقلهم لنربط جسور الحوار والتواصل، حوار ينفض غبار الموت والهزيمة، ويكتفي بمعانقة النصر بلغة الصمت والعزيمة.
4- نهج البلاغة- الخطبة 51، ص 25.
الحديث عنهم تجده يسعى إليك ولا تسعى إليه،لذلك فهو يتدفق كالشلال قصيدة،والقصيدة لا نختار لها موعداً ولا نختار لها مكاناً،هي تحل متى تشاء وأنى تشاء،هي تحل في أي وقت وفي أي مكان،ولذلك ليس لدينا إلا أن نؤرخ حروفها بحبر العناق،وإلا فتنفلت وتذوب حيث الفراغ.
هؤلاء فتية تجمعوا في وديان الجنوب وقرى البقاع،حملوا الأيام ولم تحملهم الأيام، جسومهم مثقلة بالهم والأسى والمعاناة داخل بحر متلاطم الأمواج يريدون الوصول حيث الشاطئ شاطئ غربة ووحشة في حياة رصيدها ذكريات وأي ذكريات؟
في الزمن الصعب،لا بل في الزمن الأزرق الذي تُعقد فيه الصفقات، وتُباع في سوقة الكرامات ويتم فيه التنازل بسهولة عن كلّ القيم، عن كلّ المبادئ عن كلّ الشعارات، يبقى هؤلاء في كهوفهم، في عزلتهم التي أبعدتهم قسراً عن الأحبة والأصدقاء، عن متاع الدنيا يخترقون بإيمانهم الفرق السوداء ويكتبون بجهادهم ودمائهم لغة السماء،فهم أصدق من على الأرض،لأنهم تحولوا بفعل إيمانهم من أحياء إلى عالم الشهداء….
وسأكتفي في دراستي هذه وكما أشرت سابقاً بنموذج الشهداء، دون الأحياء لأن المقام لا يحتمل، فالشهداء ذهبوا لأجلنا ولأنهم وبإرادتهم ما تحملوا الحياة ذليلة، مستباحة، معطلة، بل أكثر من ذلك واجهوا الموت بابتسامة وإقبال لاعتقادهم بأن الموت يصنع الحياة، وأية حياة هي، إنها الحياة العزيزة الحرّة.
الموت الذي تحقق بفعله انتصار القيم والمبادئ
الموت الذي جعلنا نثق بقدراتنا وإراداتنا وعزمنا وتصميمنا.
الموت الذي أكد فعلنا ودورنا وتأثيرنا في الحياة.
الموت الذي رفعنا من أسفل درك إلى أعلى الدرجات
هذا الموت ألم يعطي معنى للحياة؟
ألا يستحق الشهيد أن يكون قدوة وبلا منازع هذه القدوة التي اتخذت لدورها قدوة وأية قدوة.
” ولكم في رسول الله أسوة حسنةً ًهذا النبي الأمي الذي قرأ ونطق بما لم ينطق به أحد، وجاء بما لم يستطع أحد أن يأت به ولو اجتمعت الجن والأنس أو كان بعضهم لبعض ظهيراً، هذا النبي القائل:ًً إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ابداًًً. ونحن نقول: نعم لقد تمسكوا بهما وساروا في الأرض وتفكروا في خلق الله وعرفوا سُبل الصراط. كيف لا وهم يقدمون لنا أغلى ما عندهم في سبيل إحقاق الحق وإزهاق الباطل .
هذا الشهيد الذي قدّم حياته رخيصة على مذبح الكرامة ، وهو لم يفعل هذا الأمر لأنه مستهتر بالحياة، أو لأن الحياة لا تعنى له شيئاً بدليل أن بين صفوف الشهداء نجد من هم في الطليعة، فمنهم من يحمل الإجازات الجامعية، ومنهم من كان يعمل في أماكن مهمة ويحملون ألقاب كبيرة ومنهم من ترك بيته وعائلته وهم أحوج ما يكونون إليه.
إننا نقارب حالة إنسان ترفّع وسمى وصار في الدرجات العلى، ولم يعد باستطاعة نظرنا اللحاق به، أو النظر إليه، ولا يسعنا إلا أن نقول في ذلك لأهل الشهداء لا تحزنوا على من فقدتم، إنما الحزن لأن الكثير من الجهلة والأغنياء ما زالوا أحياء!
لقد حاول الأعداء وعملائهم استغلال الفرص وانتهازها ليعطلوا الذاكرة، في محاولة لكتابة تاريخ جديد بأصابع غريبة مأجورة تشحن النفوس حقداً وضغينة لتضيع القضية، ولكن أنى لهم ذلك وفي الأمة ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾5 .
عندما ندخل عالم الشهداء،لا بد أن نسرع ويسرع الزمان ليلحق بخطواتهم، فهم استمرار فاعل ومتفاعل صعوداً في حركة التاريخ وحتى الجغرافيا. لو أردنا الاطلاع على مسالك دربهم لتقاسمنا مثلهم العليا، وأول ما يستوقفك إخلاصهم والوفاء ” العمل بلا إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملاً ينقله ولا ينفقهًً”6 وهي صفة ملازمة أبداً لشخوصهم، وهي صفة تحمل كلّ الصفات، إن في العمل الذي أختصر مسافات ومسافات في العطاء والتضحيّة، وإن في عقولهم وتفكيرهم النّير العبقري نسخة مفردة،كفاءات وقدرات وهم وعزائم شباب التحموا في دائرة واحدة وكتبوا بأيديهم الشعار ليرسموا فيما بعد بدمائهم الزكيّة
5- سورة الأحزاب، الآية 23.
6- الفوائد، ص 67.
خريطة الوجود الإنساني المستحق فعلاً للعيش والبقاء فهم يبعثون اليقظة في الغفلة، ويفجرون الثورة في أعمق الأعماق: إنهم فعلاً أهل العطاء..