هذا الأثر للتقوى من المسلَّمات الإسلاميّة، فقد دلّت عليه، بالإضافة إلى الآيات القرآنيّة، جملة من الأخبار الواردة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الأطهار عليهم السلام.
أ- فمن الآيات القرآنيّة قوله عزّ وجلّ:
﴿إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً﴾5 .
ومنها قوله عزّ وجلّ:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى… وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ …﴾6 .
وقد تمسّك العرفاء بهذه الآية الثانية للاستدلال على أنّ مَن يتّقي الله يصبح موضع إفاضة علم الله.
ب- ومن الأخبار الواردة عن النبيّ والأئمّة، ما جاء عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:
“جاهدوا أنفسكم على أهوائكم تحلّ قلوبَكم الحكمةُ”7 .
________________________________________
5- سورة الأنفال، الآية: 29.
6- سورة البقرة، الآية: 282.
7- الريشهري، محمدي، ميزان الحكمة، ج 1، ص 455.
وما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال:
“ما أخلص العبد الإيمان بالله عزّ وجلّ أربعين يوماً أو قال: ما أجلّ عبد ذكر الله عزّ وجلّ أربعين يوماً إلّا زهّده الله عزّ وجلّ في الدنيا وبصّره داءها ودواءها فأثبت الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه”8 .
ومنها ما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً أنّه قال:
“لولا أنّ الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات”9 .
وهذه الأخبار تشير بصراحة إلى أنّ التقوى والتطهّر من الآثام سبب رئيسي من أسباب التبصّر.
وهناك بعض الأحاديث تشير إلى ذلك تلميحاً، إذ تشير إلى تأثير اتباع الهوى والابتعاد عن التقوى في إظلام الروح واسوداد القلب وانطفاء نور العقل.
ومن هذه الأحاديث قول أمير المؤمنين عليه السلام:
“مَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ، وَأَمْرَضَ قَلْبَهُ”10 .
________________________________________
8- الكافي، ج 2، ص 16.
9- المجلسي، بحار الأنوار، ج 67، ص 161.
10- نهج البلاغة، الخطبة رقم 108.
ومنها قوله عليه السلام:
“عُجْبُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ أَحَدُ حُسَّادِ عَقْلِهِ”11 .
ومنها قوله عليه السلام:
“أَكْثَرُ مَصَارِعِ الْعُقُولِ تَحْتَ بُرُوقِ الْمَطَامِعِ”12 .
والخلاصة أنّ تأثير التقوى في العقل والبصيرة أمر مسلّم به في الدين الإسلاميّ والثقافة الإسلاميّة، ولكن يبقى علينا أن نفسّر ذلك بالمنطق العلميّ والفلسفيّ، لنرى ما الّذي يربط بين التقوى والبصيرة؟ وكيف يمكن أن يكون للتقوى، وهي فضيلة أخلاقيّة تتعلّق بسلوك الإنسان، أثر في جهاز عقل الإنسان وفكره وقدرته على الفصل والقضاء، وتهيئته لينال من الحكمة ما لا يناله بدون التقوى؟
التقوى والحكمة العمليّة
إنّ الحكمة الّتي هي وليدة التقوى، وتلك البصيرة المميّزة الّتي يختصّ بها المتّقون إنّما هي الحكمة والبصيرة العمليّتان.
________________________________________
11- نهج البلاغة، الحكمة رقم 202.
12- نهج البلاغة، الحكمة رقم 209.
ولتفسير ذلك لا بدّ من ذكر هذه المقدّمة وهي:
يقسّم الحكماء العقل إلى قسمين: العقل النظريّ، والعقل العمليّ،
1- العقل النظريّ: هو الّذي تُبنى عليه العلوم الطبيعيّة والرياضيّة والفلسفة الإلهيّة، والعقل في هذه العلوم يقوم بإصدار الحكم والقضاء في واقعيّاتها، من قبيل: هل أنّ الشيء الفلاني هو هكذا أم هكذا؟
وهل له هذا الأثر أم لا؟ وهل لهذا المعنى حقيقة أم لا حقيقة له؟
2- العقل العمليّ: فهو الّذي تُبنى عليه العلوم الحياتيّة والعلوم الأخلاقيّة، وعلى حدّ قول القدماء، هو أساس علم الأخلاق وتدبير المنزل وسياسة المدن، فمجال عمل العقل العمليّ هو الحكم فيما إذا كان عليَّ أن أعمل هذا العمل أو أن أعمل ذاك العمل؟ وهل أعمله هكذا أم هكذا؟ وبعبارة أخرى: العقل العمليّ هو الّذي يُظهر لنا الصالح والطالح، الحسن والقبيح، ما ينبغي وما لا
ينبغي، والأمر والنهي، وما إلى ذلك.
والمسير الّذي يختاره الإنسان في حياته يرتبط بكيفيّة اشتغال العقل العمليّ وحكمه، ولا يتعلّق بالعقل النظريّ مباشرة.
ومن هنا يتّضح أنّ ما جاء من الآيات والروايات عن أنّ التقوى تنوّر العقل وتفتح باب الحكمة على الإنسان، إنّما يتعلّق بالعقل العمليّ دون النظريّ، فإنّ التقوى تجعل الإنسان أقدر على معرفة دائه ودوائه في سلوكه، وأبصر في اختيار سبيله في الحياة، ولكنّها حتماً لا تجعله أقدر على فهم الدروس الرياضيّة والطبيعيّة وحلّ مشاكلها.
وخلاصة القول: إنّ للتقوى والطهارة وترويض النفس الأمّارة أثراً في البصيرة ومساعدة العقل، ولكنّ ذلك في العقل العمليّ دون النظريّ، وليس بمعنى أنّ العقل هو المصباح وأنّ التقوى هي زينة، أو أنّ جهاز العقل يكون أشبه بمولّد كهربائيّ ذي طاقة معيّنة وتأتي التقوى لتزيد تلك الطاقة من حيث كميّتها، بل إنّ ذلك شيء آخر، فما هو ذلك الشيء؟