الرئيسية / الاسلام والحياة / أسباب تخلّف المسلمين‏

أسباب تخلّف المسلمين‏

الزهد لذات الدنيا

تكررت في النصوص القديمة أن الزهد عبارة عن الإعراض عن الدنيا وطيباتها.

مثلاً، يقول ابن سينا في الإشارات في النمط التاسع: “المعر`ض عن متاع الدنيا وطيباتها يسمى باسم
________________________________________
24- الأنفال:60.
25-الحديد:23.

الزاهد”، وهذه العبارة وأمثالها توحي أن الإنسان مخير أمام نوعين من اللذات دنيوية وأخروية، ولا يمكن له الجمع بينهما.

والحق أن الإسلام يدعو التمتع بلذات الدنيا وطيباتها.

﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ 26.

لكنه تمتع بها بشكل متأطر بما فرضه الله وضمن الحدود التي حدّها الله، بحيث يرتفع بها عن الإنشداد البهيمي إلى الأرض، وعما حرم الله سبحانه، بل إن القرآن يذهب أكثر من ذلك، فيرى أن الطيّب هو ما أحل الله، والخبيث هو ما حرم الله..

﴿…وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ …﴾ 27.

فليس هناك لذة دنيوية تحرُم الإنسان من لذات الآخرة، بل كل لذات الدنيا توصل الإنسان إلى الآخرة،وأما
________________________________________
26- الأعراف:32.
27- الأعراف:157.

المحرمات فيظن مرتكبها أنها لذة وما هي بلذة واقعية، والفائز هم المتقون الذين استفادوا من لذات الدنيا ووصلوا إلى نعيم الآخرة، وفي هذا الصدد يقول أمير المؤمنين عليه السلام:

“إنّ المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم ولم يشاركوا أهل الآخرة في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت، وأكلوا بأفضل ما أكلت” 28.

أهداف الزهد في الإسلام‏

عندما يحث الإسلام على الزهد في الدنيا فإنه يسعى لتحقيق الأهداف التالية:

1- الإيثار: فعندما تتعارض مصلحة الفرد مع مصلحة المجتمع يتصدى الدين لحل هذه المشكلة الاجتماعية، ويقوم الإسلام بتربية أبنائه تربية لا يبقى لهذه المشكلة أثر، بحيث يشعر المسلم باللذة عندما يضحي بمصالحه الشخصية لأجل مصالح الآخرين، فيحرُم نفسه من اجل إسعاد الآخرين.
________________________________________
28- نهج البلاغة ج‏3، ص‏27.

وقد ذكر لنا القرآن الكريم صوراً رائعة، وكذلك كتب التاريخ عن الرعيل الأول من المسلمين، تؤكد التفاني والإيثار الذي زرعه الإسلام في نفوسهم.. فسورة “هل أتى” تحدثنا عن إيثار أمير المؤمنين وأهل بيته الكرام‏ عليهم السلام بما يملكونه من طعام..

﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا﴾ 29.

وكذلك مدح القرآن الكريم الصفوة المؤمنة من الأنصار، حيث سطروا أروع الصور في التفاني والإيثار، فعبر عنهم:
﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة﴾ 30.
2- المواساة: فالإسلام يربي أبناءه على الاشتراك في الأحاسيس، والعواطف، ليصبحوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، وعندها لا نتصور في المجتمع الإسلامي فئة مترفة وأخرى معدمة، لأن روح المساواة التي يخلقها
________________________________________
29- الإنسان:98.
30- الحشر:9.

الإسلام بالزهد تأبى على المتمكنين من أن يتركوا المحرومين دون أن يمدوا لهم يد العون، فتزول عندها ظاهرة الفقر والفاقة، ولا يبقى هناك تفاوت فاحش في مستوى المعيشة.

كما يعير الإسلام أهمية كبرى لزهد الحاكم الإسلامي، لأنه بحاجة إلى روح المساواة أكثر من غيره من المسلمين، حيث أن الزهد لدى الحاكم يخلق في المجتمع معايير لتقييم الأفراد لا ربط لها بالمال ولا المتاع، ومن هنا كان لزاما على الحاكم الإسلامي أن يعيش عيشة أبسط الناس وأضعفهم، وهذا أمير المؤمنين عليه السلام يجسد نموذج الحاكم الزاهد ويقول:

“… ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى، أو أكون كما قال القائل:

وحسبك داء أن تبيت ببطنة وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ

أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون لهم أسوة في جشوبة العيش” 31.

3-التحرر والإنعتاق: فالإنسان مقيد بعوامل طبيعية لا يمكنه التخلي عنها، كالتنفس وتناول الطعام وما شابه ذلك، لكن هناك بعض القيود التي يمكن له أن يتحرر منها، كالبخل والنهم وحب الجاه والشهرة وأمثال ذلك، فإنها كفيلة بأن تكبل الإنسان فيما لو أرخى لهواه العنان ولم يروض نفسه على التحرر والإنعتاق منها.

والزهد يقوم بدور هام في حياة الإنسان، وتحريره من العوامل والقيود التي تشده إلى البطر والراحة وحب الذات، ويجعله قادرا على الاندفاع السريع في ساحات العمل الاجتماعي، ومن هنا كان الأنبياءعليهم السلامأكثر الناس تحررا من هذه القيود المفتعلة، وهذا خرّيج مدرسة الرسول الأكرم علي بن أبي طالب عليه السلام يتحدث عن ترويضه لنفسه فيقول مخاطبا الدنيا:
________________________________________
31- نهج البلاغة ج‏3، ص‏72.

“… اغربي عني 32 فوالله لا أذلّ لك فتستذليني، ولا أسلس 33 لك فتقوديني، وأيم الله يمينا أستثني فيها بمشيئة الله لأروّضنّ نفسي رياضة تهش 34 معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوما، وتقنع بالملح مأدوما، ولأدعنّ مقلتي كعين ماء نضب 35 معينها، مستفرغة دموعها، أتمتلى‏ء السائمة من ريعها فتبرك، وتشبع الربيضة 36 من عشبها فتربض، ويأكل علي من زاده فيهجع؟!! قرّت 37 إذن عينه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة 38 والسائمة المرعية” 39.

لكن الانعتاق لا يعني أبدا الانعزال عن الدنيا، بل يعني دخول معترك الحياة بترفع عن كل الذاتيات، وممارسة الحياة ممارسة القائد لها لا المنقاد خلفها، اللاهث وراءها.
________________________________________
32- اغربي عني: ابتعدي عني.
33- لا أسلس: لا أنقاد.
34- تهش: تفرح.
35- نضب: جفّ ماؤها.
36- الربيضة: الغنم.
37- جمدت وجفّت، وهو دعاء على نفسه بأن يفقد الحياة، لأن فقدان الحياة لازم جفاف العين وجمودها.
38- الهاملة: المتروكة.
39- نهج البلاغة ج‏3، ص‏74.

4-تذوق اللذات المعنوية: لأن الانغماس في تلبية حاجات الجسد المادية، يحول دون تذوق اللذائذ المعنوية، فلا يمكن لمن يعيش بين المعلف والمضجع أن يعيش لذة الدعاء مثلا، أو لذة الاتصال بالله أو التضحية والإيثار أو طلب العلم والتفكير والعطاء و لكنه حينما يمارس الزهد والترفع عن الانغماس باللذائذ المادية والانشداد البهيمي إلى الأرض ومتاعها، ينفتح أمامه عالم جديد من اللذائذ المعنوية التي لا تقل عن اللذائذ المادية، إن لم تكن أعمق منها، والعابد الزاهد يرى حقائق الكون بمنظار يختلف عن ذلك المنغمس في حسّه المادي، فهو يتجاوز إطار الرؤية ليشمل التفكير والاستنتاج والتقييم والربط, يقول تعالى: ﴿إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربّنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك﴾ 40.
________________________________________
40- آل عمران: 190 ـ 191.

الخلاصة

لماذا تخلف المسلمون وفقدوا مظاهر المجتمع الحي واتجهوا نحو الموت؟ أليس لأن المفاهيم الإسلامية الرفيعة قد شوهت، ومن أهم تلك المفاهيم : مفهوم العمل ومن نماذجه شياع فكرة الحظ بين المسلمين، وأن الباطل منتصر لا نقدر على مواجهته، بل علينا أن ننتظر المجدد على رأس كل سنة هجرية، لكن مدرسة أهل البيت وقفت في وجه هذا التحريف وتصدت له بقوة، ومن يقرأ الروايات يجد بصراحة ما كان يعانيه الأئمةعليهم السلام وكيف جهدوا في توعية المسلمين وحثهم على العمل.

ومن تلك المفاهيم التي شوهت مفهوم التوكل، حيث أصبح اليوم تواكل وتقاعس، وكذلك مفهوم الزهد، وترك طيبات وملذات الدنيا، فإن الدنيا كلها وسيلة للوصول إلى الآخرة وليست هدفا بحدّ ذاتها، وعندما يطرح الإسلام مفهوم الزهد فإنه يهدف منه لتحقيق المساواة بين الناس، وإيثار المؤمنين وتفانيهم في سبيل مصالح الآخرين، وبالتالي التحرر من كل قيود الدنيا ومتعلقاتها، حتى يتأتى للإنسان أن يتذوق اللذات المعنوية، التي هي أهم من كل اللذات الدنيوية.

شاهد أيضاً

ليلة القدر .. بين اصلاح الماضي و رسم المستقبل

أشار العالم الديني و استاذ الاخلاق الزاهد الفقيد الراحل سماحة آية الله مجتبي طهراني ، ...