حادي عشر: تكنولوجيا الإتصال والإعلام حولت الحرب النفسية الى ناعمة
لا تشن الحرب الناعمة للتأثير والدعاية والتلاعب بالرأي العام والإقناع السياسي ولو بدون توفّر أدلة ذات صدقية كما كان يعرفها قسم الحرب النفسية والدعاية في وكالة المخابرات المركزية الامريكية CIA أثناء الحرب الباردة1 فهذه من وظائف الدعاية الكلاسيكية التي انتهت صلاحيتها ولم تعد تجدي نفعا في عصر العولمة والمعلومات كما صرح جوزيف ناي، لأن توسع وسائل الإعلام وانتشارها بين أيدي الجميع وظهور لاعبين من غير الدول عدل مفهوم المصداقية في الخطاب السياسي للدول، ومنع احتكار الدول لسلطة المصداقية هذه، ما أدى الى القفز نحو اتجاهات ووظائف جديدة أنتجت الحرب الناعمة بحيث أصبحت وظائفها تقوم على “تشكيل التصورات العامة” و “بناء البيئة السياسية الملائمة لترسيخ قواعد السياسات المطلوب تثبيتها وتمريرها والتسويق لها” و “نزع الشرعية والمشروعية والصدقية عن الخصم” و “تغيير شخصية النظام والقيادة لدى الخصم” و “قلب الحقائق وتحويل نقاط القوة الى نقاط ضعف ومن فرص الى تهديدات”.
________________________________________
1- ارث من الرماد. تاريخ CIA. مصدر سابق. ص 792
كل هذه الوظائف لم تكن معهودة بهذا التركيز والتكثيف كما هي اليوم، وهنا تفترق الدعاية والحرب النفسية عن الحرب الناعمة.
وقد ذكرنا في بحث سابق2 أن الحرب الناعمة لا تعد منهجا جديدا في مناهج الحرب النفسية والدعاية، بل هي تطور في الوظائف ناجم عن التطور الكمي والنوعي الهائل في وسائل ووسائط الاتصال والإعلام، بل يمكن إعتبار الحرب الناعمة افرازا طبيعيا وحتميا مرتبطا بسعة إنتشار وتوسع الجيل الرابع من وسائط تكنولوجيا الاتصال والإعلام (الفضائيات / أجهزة الإتصال الخليوية الرقمية / مواقع وصفحات الإنترنت / شبكات التواصل الاجتماعي)3.
فالحرب النفسية والدعاية تشترك مع الحرب الناعمة في الهدف لجهة قصد تطويع إرادة الخصم أو العدو (الدول والنظم والرأي العام والمنظمات والجماعات) ولكنهما يتختلفان ويتعاكسان في الأساليب والوسائل.
في الأساليب تركز الحرب الناعمة على الإستمالة والإغواء والجذب بدون أن تظهر للعيان وبدون أن تترك أي بصمات، في حين ترتكز الحرب النفسية والدعاية على إرغام العدو وتدمير إرادته ومعنوياته بصورة شبه مباشرة وعلنية.
________________________________________
2- للتوسع يراجع بحث الحرب الناعمة النشأة والمفهوم وسبل المواجهة. دراسة منشورة صادرة عن مركز قيم للدراسات. العام 2011
3- بروس بمبر. الديمقراطية الأمريكية وثورة المعلومات / دار الحوار الثقافي 2006
كما يختلفان في كمية ونوعية الوسائل المستخدمة، حيث تعاظمت وتوسعت الأدوات الإعلامية والإتصالية لدى الرأي العام في الوقت الراهن، بحيث إن الوسائط والأدوات المستخدمة في الحرب الناعمة أصبحت في متناول الجميع بلا إستثناء ودخلت إلى كل البيوت 24 / 24 ساعة من خلال شاشات التلفزيون والإنترنت والهواتف الخليوية بحيث أغرقت الدول بالمقروئات والمسموعات والبصريات والأخبار والمنتجات الإعلامية بلا أي قيود رقابية في ظل عولمة إعلامية وثقافية ومعلوماتية فورية ومفتوحة ومتفاعلة ومترابطة بشكل لا سابق له وبأثمان وتكاليف مالية مجانية أو شبه مجانية، في حين كانت الحرب النفسية والدعاية توجه بشكل أساس نحو كتل منظمة ومتراصة ومتماسكة وصلبة مثل الجيوش والحكومات والمنظمات التي كانت تسيطر وتهيمن بصورة كلية على وعي وميول الرأي العام نظرا لإمتلاكها الإحتكاري والفكري لوسائل الإتصال والإعلام والدعاية التقليدية (إذاعات وتلفزيونات حكومية محدودة / صحف حكومية وشبه حكومية / قنوات حكومية مع بعض أجهزة التلفزيون والشاشات محدودة العدد والتي كانت متوفرة بين الناس بحيث كان يمكن لأجهزة الدولة حصرها وإحصاؤها ومعرفة أصحابها بالأسم لأسباب أمنية سلطوية وإيديولوجية ونظرا لكلفتها الإقتصادية وندرتها في السوق).