31)
بحث حول الآية:
آداب المعاملة وأثره في بناء منظومة العلاقات الاجتماعية:
إنّ سورة الحُجرات كما تقدّم اشتهرت باسم “سورة الآداب والأخلاق” لما تضمّنته من آداب راقية، وأخلاق سامية في التعامل مع أفراد المجتمع. ولذا نجد الإسلام اهتمّ اهتماماً كبيراً بمسألة رعاية الأدب، والتعامل مع الآخرين مقروناً بالاحترام والأدب سواءً مع الفرد أم الجماعة.
فإنّنا حين نقرأ تأريخ حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام ونُمعن النظر فيها نلاحظ أنّهم يراعون أهم النقاط الحسّاسة واللطائف الدقيقة في الأخلاق والآداب حتى مع الأناس البسطاء، وأساساً فإنّ الدين مجموعة من الآداب، الأدب بين يدي الله والأدب بين يدي الرّسول والأئمة المعصومين، والأدب بين يدي الأستاذ والمعلِّم، أو الأب والأم والعالم والمفكّر…ولذا ينبغي من باب المقدّمة شرح مبسّط لمفهوم الآداب وأهميتها في الحياة الاجتماعية وذلك لكون آيات السورة المباركة تدور حول هذا الموضوع.
1- معنى الأدب:
إنّ الأدب له معنى عاماً وجامعاً لأنواعه المختلفة من آداب الكلام، وآداب المشي، والأكل، والنوم، إلى آخره… والأدب بهذا المعنى خُلُق عام يتناول كثيراً من التصرفات والسلوكيات، إلا أنه أفضل وأكثر ما يكون في الخطاب.
الخطاب الذي هو واسطة التفاهم والتعارف بين الناس، لأنّ الإنسان مدنيٌّ بطبعه، ولا يمكنه أن يعيش منعزلاً عن الآخرين، ولا يستغني عن إقامة العلاقات معهم ومحادثتهم في شؤون الحياة. فمن خلال الخطاب والكلام تُحدّد معالم شخصية الإنسان، ويُكشف عن مكنوناتها، والساكت مجهول الهوية، فإذا تكلّم عبَّر عن نفسه، وأبان عن شخصيته.
ولذا الكلمات التي ينطق بها الإنسان تسطّر وتكتب عليه، ويراها في صحائف أعماله يوم القيامة. قال تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾[1]. فالقرآن الكريم يُقرّر مبدأ محاسبة الإنسان على كلّ قولٍ ينطق به.
وقد عُنيَ القرآن الكريم بأدب الخطاب، فالناظر في سوره وآياته، يجده شديد الحرص على الأسلوب الذي يُؤدَّى به الكلام، والطريقة التي يُطرح بها، ويجد أنَّه كثيراً ما يُوجِّه نحو الكلمة الطيبة والقول الحَسَن في مناسبات شتَّى.
قال تعالى: ﴿ َلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء﴾[2].
فالكلمة الطيبة نفحة روحانية تصل ما بين القلوب وتربطها برباط المودّة والتآلف. أمّا الكلمة الخبيثة فهي معول للهدم والتفريق، يعمل تخريباً في أوصال المجتمع فيهدّ كيانه. والكلمة الطيبة تزهر في النفس لتتفتّح بأجمل أزهار الخير والحب التي يعبق شذاها فوّاحاً في كلّ زمان ومكان. والكلمة الخبيثة نتنة الرائحة، تصدر عن بُؤَرٍ نفسية عفنة.
وقد أشار القرآن الكريم إلى ما أثمره القول اللين من نجاح دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتأثيرها في الناس. قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾[3]. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن فظَّاً, خشن الكلام، ولم يكن غليظ القلب, أي قاسيه وشديده. بل كان صلى الله عليه وآله وسلم رفيقاً داعياً إلى الرفق، فقال: مَنْ يُحرم الرِّفقَ يُحرم الخير.
[1] سورة ق، الآية 18.
[2] سورة ابراهيم، الآيات 24 – 27.
[3] سورة آل عمران، الآية 159.