50)المعنى التفصيلي
في رواياتنا أن الآية الكريمة نزلت وهي تشير إلى ما سيقع من أحداث بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها مَا ذَكَرَهُ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ: قَالَ عزّ وجلّ ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ الْآيَةُ، قَالَ: “لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى التَّأْوِيلِ مِنْ بَعْدِي كَمَا قَاتَلْتُ عَلَى التَّنْزِيلِ فَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم مَنْ هُوَ فَقَالَ خَاصِفُ النَّعْلِ بِالْحُجْرَةِ، وَكَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام يَخْصِفُ نَعْلَ رَسُولِ اللهِ”[1]. ونذكر معنى الآية الكريمة ضمن النقاط التالية:
أوّلاً: تُعالج آيات القرآن عادة أسوء الحالات قبل الحديث عن الحالات العادية، فمثلاً حين تُبيّن سورة النساء العلاقات الاجتماعية تستهلّها بمعالجة حالة
الطلاق التي هي عقدة العلاقة الأسرية، وكذلك سورة النور التي ترسم حدود الأسرة الفاضلة تبتدئ ببيان حدّ الزنا، وسورة المائدة التي تبني كيان الحضارة الإسلامية نراها تُحدّثنا في فاتحتها عن حرمة الاعتداء على أموال اليتامى الذين هم أضعف الحلقات الاجتماعية، وهنا أيضاً تعالج الآيات أعقد حالات الخلاف وهي حالة الاقتتال أولاً ثم تتدرّج في الحديث عن سائر الحالات الأقل تعقيداً. لماذا كلّ ذلك؟ يبدو أنّ وراء كلّ ذلك حكمتين:
الأولى: لبيان الغاية التي سوف تنتهي إليها تسلسل الحالات، لكي لا يُستهان بمبدئها، فالخلافات الجزئية التي نستخفّ عادة بها والشائعات التي نبثّها هنا وهناك ضدّ بعضنا بلا وازع، قد تنمو حتى تُصبح صراعاً دموياً بين طائفتين من البشر. فلكي نرى الحقائق لا بدّ أن نضرب لها مثلاً واضحاً ثم نقيس عليه سائر الأمثلة.
الثانية: إنّ عظمة الشريعة تتمثّل في معالجة الحالات الشاذّة البالغة حدّها في التعقيد، أما الأوضاع العادية فإنّ التعامل معها سهل ميسور.
فمعالجة حالة الطلاق أو الخيانة الزوجية (الزنا) هي المقياس لقدرة الشريعة على وضع نظام صائب لشؤون الأسرة، كما أنّ الحفاظ على أموال اليتيم دليل على مدى صلاحية النظام الاقتصادي في المحافظة على حقوق الناس.
كذلك معالجة مشكلة الحرب الأهلية تشهد على مدى صلاحية النظام الاجتماعي في مواجهة التحديات[2].
ثانياً: الآية الكريمة تُبيّن قاعدة تشريعية عملية لصيانة المجتمع المؤمن من الخصام والتفكّك، تحت النزوات والاندفاعات. وتأتي تعقيباً على تُبيّن
خبر الفاسق، وعدم العجلة والاندفاع وراء الحمية والحماسة، قبل التثبُّت والاستيقان.
وسواء كان نزول هذه الآية بسبب حادث معيّن كما ذكرت الروايات، أم كان تشريعاً لتلافي مثل هذه الحالة التي ستحصل وهو الأرجح حسب روايتنا، فهو يُمثّل قاعدة عامّة محكمة لصيانة الجماعة الإسلامية من التفكُّك والتفرُّق. ثم لإقرار الحقّ والعدل والصلاح. والارتكان في هذا كلّه إلى تقوى الله ورجاء رحمته بإقرار العدل والصلاح.
والقرآن قد واجه – أو هو يفترض – إمكان وقوع القتال بين طائفتين من المؤمنين. ويستبقي لكلتا الطائفتين وصف الإيمان مع اقتتالهما، ومع احتمال أنّ إحداهما قد تكون باغية على الأخرى، بل مع احتمال أن تكون كلتاهما باغية في جانب من الجوانب.
وهو يُكلّف الذين آمنوا – من غير الطائفتين المتقاتلتين طبعاً – أن يقوموا بالإصلاح بين المتقاتلين. فإن بغت إحداهما فلم تقبل الرجوع إلى الحقّ – ومثله أن تبغيا معاً برفض الصلح أو رفض قبول حكم الله في المسائل المتنازع عليها – فعلى المؤمنين أن يقاتلوا البغاة إذن، وأن يظلّوا يقاتلونهم حتى يرجعوا إلى أمر الله. وأمر الله هو وضع الخصومة بين المؤمنين، وقبول حكم الله فيما اختلفوا فيه، وأدّى إلى الخصام والقتال[3].
ثالثاً: رغم أنّ الأخوّة الصادقة والصلح البالغ هما لزام الإيمان كما خوطبوا به، إلا أنّ هناك – وبين غير الكاملين في الإيمان، أو الجاهلين والمتجاهلين شرائط الإيمان – نزوات ونزعات واندفاعات فخصامات وحميات وحماسات فتفكّكات ومنازعات شاسعة عن ساحة الإيمان، قد تتخطّى التلاسن والتضارب
إلى مقاتلات، ومهما يكن من شيء فالمؤمن لا يحارب أخاه إلا على تكلّف، وعلّ الاقتتال الملمَّح – إليه، دون التقاتل – يعنيه “اقتتلا” لا “تقاتلا” حيث الاقتتال افتعال للقتال متكلّف وليس فعلاً مقصوداً وبين المؤمنين الإخوة!.
فلا بدّ إذاً من صيانة إلهية تُصوَّن على هذه الفوارق الدامية، وتعتلج ما تختلج في خلد الإيمان من فكرة الاقتتال، ومن ثم واقعه إذا حصل، ألا وهي استنفار سائر المؤمنين لمواجهة المشكلة الداخلية إصلاحاً، مهما كان الثمن غالياً ولو كان القتال قضاءً على قتال.
[1] تفسير القمي، علي بن إبراهيم القمي، ج2، ص321.
[2] من هدى القرآن، محمد تقي المدرسي، ج13، ص 387.
[3] ينظر: في ظلال القرآن، سيد قطب، ج6، ص 3343.