47)
بطلان الجبر:
إنّ الآية الكريمة تدلّ على بطلان الجبر في الأفعال وصحة نظرية الاختيار التي يؤمن بها الإمامية، فالآيات الآنفة تجسيدٌ بيّن لوجهة نظر الإسلام في مسألة “الجبر والاختيار” والهداية والإضلال، لأنّها توضح هذه اللطيفة ـ بجلاء ـ وهي أنّ الله يُهيّئ المجال “والأرضية” للهداية والرشد، فمن جهة يبعث رسوله ويجعله بين الناس ويُنزل القرآن الذي هو نور ومنهج هداية, ومن جهة يُلقي في النفوس العشق للإيمان ومحبّته, والتنفّر والبراءة من الكفر والعصيان، لكنْ في النهاية يوكل للإنسان أن يختار ما يشاء ويُصمّم بنفسه، ويُشرّع سبحانه التكاليف في هذا المجال!… وطبقاً للآيات المتقدّمة فإنّ عشق الإيمان والتنفّر من الكفر موجودان في قلوب جميع الناس دون استثناء وإذا لم يكن لدى بعضهم ذلك فإنّما هو من جهة أخطائهم وسلوكيّاتهم وأعمالهم، فإنّ الله لم يُلقِ في قلب أيّ شخص حُبَّ العصيان وبغض الإيمان.
توضيح ذلك: إنّ الآية الكريمة تدلّ على بطلان الجبر بهذا البيان، إنّ كلمة ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾. وكلمة ﴿وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾. تدلّ على بطلان الجبر, لأنّ الجبر يعني “الجبر هو الحمل على الفعل والاضطرار إليه بالقهر والغلبة، وحقيقة ذلك إيجاد الفعل في الخلق من غير أن يكون لهم قدرة على دفعه والامتناع من وجوده فيه. ومذهب الجبر هو قول من يزعم أنّ الله تعالى خلق في العبد الطاعة من غير أن يكون للعبد قدرة على ضدّها والامتناع منها وخلق فيه المعصية كذلك”[1].
ومن الواضح أنّ الشخص الذي يُحبّ شيئاً ما فإنّ أفعاله وسلوكياته ستكون طبقاً لهذه المحبّة القلبية. وفي المقابل الشخص الذي يكره شيئاً وينفر منه في قلبه سينعكس هذا أيضاً في سلوكياته وسيكون نفوره ممّا يكره واضح في هذا المجال.
اذا كان الشخص يُحبّ الإيمان فستكون سلوكياته طبقاً لإيمانه. وإنّ أثر هذا الحبّ سيجعله يُقرّر بإرادته طاعة الله تعالى ومن خلال هذه الإرادة سيقوم بفعل الواجبات وترك المحرّمات، مع قدرته على فعل العكس، ولكنّ الحبّ الذي في قلبه للإيمان يدفعه لاختيار الطاعة وترك المعصية. كما نقلنا عن الإمام قوله: “وهَلِ الإيمان إِلَّا الْحُبُّ والْبُغْضُ”.
إذا اتّضح هذا البيان نقول: لو افترضنا أنّ العباد مجبورن على الطاعة والمعصية ولا تقع تحت اختيارهم. فإنّ تحبيب الإيمان لهم من قِبَل الله تعالى وتنفيرهم من الكفر والفسوق والعصيان لكي تصدر منهم الأعمال الحسنة ويبتعدون عن الأعمال السيئة، فإذا افترضنا الجبر في أفعالهم فلا معنى لتحبيب الإيمان وتبيغض الكفر، بل تصبح هذه الآية في مقام اللغو ولا ثمرة عملية لهذا الكلام.فإذا اعتبرنا أنّ الناس في حبّ الإيمان وبغض الكفر مجبورون على ذلك، فإنّ هذه المحبّة والبغض لا يكون لها أيّ قيمة حتى تكون محبوبة لله تعالى، ولا يستحقّون أيّ ثواب على أعمالهم. وببيان آخر: نقول نجد بالوجدان أنّ هناك أفراداً يُبغضون الإيمان ويُحبّون الفسق والكفر والعصيان، إذاً التحبيب والتبغيض من الله تعالى ليس جبريّاً. وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن يكون كلّ الناس يُحبّون الإيمان ويبغضون الكفر.
[1] تصحيح اعتقادات الإمامية، الشيخ المفيد، الجبر والتفويض، ص 46. (بتصرف).