رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
* فإذا جاء المشركون إلى المدينة، ورأوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأخلاقه وقدسيّ سيرته، وعظم في أنفسهم أمره، هدياً ورأياً وسمتاً ونعتاً، وقولاً وفعلاً… فإذا هؤلاء على مقربة من الإيمان1.
* قصدوه وهو في دار هجرته محاربين, ليقتلوه وأصحابه, وليستأصلوا شأفة الّذين آووه ونصروه بغياً وعدواناً، فنصره الله عليهم في بدر وأُحد والأحزاب ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾3.2
* كانوا كلّما تبغّضوا إليه بجفاء وسوء صنع، تحبّب إليهم بحنوّ وعاطفة وحسن صنع، فإذا قسوا وأغلظوا له، لان وخفض لهم جناح الرحمة – مستمرّاً معهم على هذه
________________________________________
1- الموسوعة، ج2، النصّ والاجتهاد، تسلسل ص 649.
2- سورة الأنعام، الآية: 45.
3- الموسوعة، ج2، النصّ والاجتهاد، تسلسل ص 649.
الحال – يقابل إساءتهم بالبقيا عليهم، والإحسان إليهم، عملاً بقوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾4. 5
* أطفأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية وقدة قلوب هؤلاء المشركين، واستلّ سخائمهم6، وأزال أضغانهم، وأغراهم بسادتهم وكبرائهم، حتّى أيقنوا بعدوانهم عليه، وجنايتهم على أنفسهم, وبهذا لانت قلوبهم مطمئنّة بحسن عواقبهم معه إذا انضمّوا إلى لوائه، معتصمين بولائه، حكمةً بالغةً، أعقبت الفتح المبين، والنصر العزيز، ودخول الناس في دين الله أفواجاً7.
* إنّ الله – عزّ وجلّ – حظر على الّذين آمنوا أن يتقدّموا بين يدي الله ورسوله، وأن يرفعوا أصواتهم فوق صوته، وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض، وأنذرهم بحبوط أعمالهم الصالحة إذا ارتكبوا شيئاً من ذلك، فقال عزّ من قائل -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾8. 9
________________________________________
4- سورة فصّلت، الآيتان: 34 – 35.
5- الموسوعة، ج2، النصّ والاجتهاد، تسلسل ص 650.
6- السَخائِم، جمع السَّخِيمة: وهي الحقد والضغيينة. المعجم الوسيط: 422، “س. خ. م”.
7- الموسوعة، ج2، النصّ والاجتهاد، تسلسل ص 651.
8- سورة الحجرات، الآية: 2.
9- الموسوعة، ج2، النصّ والاجتهاد، ص 691.
* إنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان مطبوعاً على الرحمة ما وجد إليها سبيلاً10.
* فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد مثّل الصبر والأناة والحلم والحزم والعزم والحكمة والعصمة في كلّ أفعاله وأقواله، وهو الّذي لو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في شماله على أن يترك الأمر ما تركه11.
* كثير من مواقفه الكريمةصلى الله عليه وآله وسلم خاض فيها الأهوال، فكان فيها أرسى من الجبال، يتلقّى شدائدها برحب صدره وثبات جنانه، فتنزّل منه في بال واسع وخلق وادع، لم يتوسّل في الخروج من عسر إلى يسر إلّا بالله وحده، ولم يتذرّع إلى شيء ما من شؤونه إلّا بالصبر والتوكّل على الله تعالى، فأين من عزائمه في صبره وحلمه وحكمه عزائم يوسف ويعقوب وإسحاق وإبراهيم، وسائر النبيّين والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم؟12
* وعلم المسلمون على اختلافهم في المذاهب والمشارب أنّ الشيطان قد عقِر13 بمولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودهش بمبعثه، وبرق بهجرته، وخرق14 بظهوره ونصرته، وانماث كالملح في الماء بهديه وقوانينه ونظمه15.
________________________________________
10- الموسوعة، ج2، النصّ والاجتهاد، تسلسل ص 752.
11- الموسوعة، ج3، أبو هريرة، تسلسل ص 1298.
12- الموسوعة، ج3، أبو هريرة، تسلسل ص 1299.
13- بفتح العين وكسر القاف، أي فاجأه الروع فدهش فلم يقدر أن يتقدّم أو يتأخّر؛ لسان العرب 4: 598-599 “ع.ق.ر”.
14- أي بهت شاخصاً ببصره؛ م، ن. 2: 614 “خ.ر.ق”.
15- الموسوعة، ج3، أبو هريرة، تسلسل ص 1320.
* من عرف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حكمته البالغة، ونبوّته الخاتمة، ونُصحه لله ولكتابه ولعباده, وعرف مبلغ نظره في العواقب، واحتياطه على أُمّته في مستقبلها، يرَ أنّ من المحال عليه أن يترك القرآن منثوراً مبثوثاً، حاشا هممه وعزائمه، وحِكمه المعجزة من ذلك16.
* الأنبياء إذا جمعوا المال فإنّما يجمعونه لينفقوه في سبيل الله وابتغاء مرضاته, وليستعينوا به على مشاريعهم الإصلاحيّة, والله- عزَّ وجلَّ- خبير به, عليم بنواياهم, فلا يعاتبهم على جمعه أبدا17.
* إنّ الله – جلّت آلاؤه – أدّب حبيبه محمّداً بآداب اختصّه بها, ففضّل على العالمين حتّى لم يبق نبيّ مرسل, ولا ملك مقرّب, ولا شيطان مريد, ولا خلق بين ذلك شهيد, إلّا بخع لآدابه, وخشع لأخلاقه, فما من أمر في الذكر الحكيم إلّا ائتمر به, وما من زجر في القرآن العظيم إلّا انزجر به, وما من حكمة إلّا أخذ بها, كان القرآن نصب عينيه, يقتفي أثره, ويتّبع سوره…18
* وقد علم البرّ والفاجر, وشهد المسلم والكافر بأنّ محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم كان أوّل المبادرين إلى العمل بتعاليمه,
________________________________________
16- الموسوعة، ج4، أجوبة مسائل موسى جار الله، ص 1624.
17- الموسوعة، ج3، أبو هريرة، تسلسل ص 1300.
18- الموسوعة، ج3، أبو هريرة، تسلسل ص 1321.
وأعظم المتعبّدين بها, المستقيمين المستمرّين عليها, وأنّه كان يهذّب أمّته بأفعاله, ويحملهم بها على البخوع لتعاليمه أكثر ممّا يهذّبهم بأقواله…19
* وبالجملة, إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يُبق غاية إلّا أوضح سبيلها, ولم يدع آبدة20 إلّا أقام دليلها, حتّى ترك أمّته على الحنفيّة البيضاء, ليلها كنهارها. ما تركهم في جهالة, ولا أهملهم ليكونوا بعده في ضلالة, ولا أوكلهم إلى أهوائهم, ولا تركهم يسرحون على غُلوائهم, بل ربطهم بثقليه, وعصمهم بحبليه, حيث جعل أئمّة عترته الإثني عشر أعدال كتاب الله, وأنزلهم منزلته من ربّه, ومن الأمّة بمنزلة الرأس من الجسد21.
________________________________________
19- الموسوعة، ج3، أبو هريرة، تسلسل ص 1333.
20- الآبدة: وهي الكلمة أو الفعلة الغريبة، لسان العرب، 3: 68.
21- الموسوعة،ج4، فلسفة الميثاق والولاية، ص 1594.