02)
الصبي العظيم
نشأ محمّد صلّى الله عليه وآله في أحضان جدّه عبدالمطلب، فكان شغله الشاغل، لكأنّ الصبي ورث الحب العظيم عن أبيه الراحل.
ورأى سيّد مكّة أن ينشأ حفيده في الصحراء والبوادي، ولقد كانت نساء البادية يقصدن أمّ القرى في السنوات العجاف يرضعن أولاد الأشراف لِقاء أجر معيّن.
وكانت المرضعات يقصدن البيوت الثريّة طمعاً في العطاء، فكان اليتيم آخر ما يفكرن فيه.
وجاءت حليمة تبحث عن وليد، فإذا هي ترى محمداً، ولعلّها إرادة السماء أن يتفجّر نبع الحب في قلب « السعديّة » لتحتضن الوليد اليتيم، وتنطلق به إلى البادية.
ومرّ عامان تدفّق فيهما الخير في تلك البقعة من دُنيا الله، فإذا ذلك الصبي يُمن وبَرَكة.
وتشعر حليمة بالحزن، فلقد آن للصبيّ أن يعود إلى أمّه، وما يزال ينبوع الحب يتدفّق في قلبها.
وصادف أن اجتاح الوباء مكّة، فخشي عبدالمطّلب على حفيده عاصفات الدهر، واستجابت آمنة لرغبة الجدّ، وهي ترى عينَي حليمة تبرقان فرحةً بمحمّد.
ويعود الصبيّ إلى البادية تملأ عينيه الصحارى، وتبهره سماؤها الزاخرة بالنجوم.
وتشعر حليمة بأنّ الصبي قد أضحى جزءاً من كيانها، حتّى جعلها تخشى عليه عوادي الزمن.
ويسأل الصبي أمّه بنت الصحراء عن إخوته في الرضاعة:
أين الشيماء وأنيسة، وعبدالله ؟
فتقول له:
ـ فدتك روحي، إنّهم يرعون غنمنا.
وعندما رأى في قلبه رغبة أن يذهب معهم، فينطلق في الصحراء مع إخوته؛ رجّلت شعره وألبسته ثوباً جديداً، ولم تنس أن تضع في جيده قلادة.
وتساءل الصبي عن سرّ القلادة، فقالت:
ـ إنّها تحميك من الشرور.
ويخلع محمّد القلادة قائلاً:
ـ هناك يا أمي مَن يرعاني ويحميني من الشرور.
وارتسمت علامة استفهام في عينَي مَن وهبته الدفء واللبن، فيقول:
ـ الذي خلقني يحميني ويرعاني.
وتقف الأمّ مشدوهة أمام حِكمة هذا الصبيّ المكّيّ.
وينطلق محمّد يملأ رئتَيه بنسمات الصحارى مسروراً بأخيه وأختَيه، في صحراء لا تكاد تنتهي.
* * *
وترحل الأمّ
إنّ القدر لا يكفّ عن رمي السهام، ولقد شاء أن يختطف هذه المرّة آمنة كما فعل ذلك بعبدالله؛ فلم يكد الصبي يبلغ من عمره ست سنين حتّى وجد أمّه في « الأبواء » (4) تنطفئ كما تنطفئ الشموع وهي لم تكد تبلغ الثلاثين بعد.
ويرى سيّد مكّة حفيده وحيداً قد فقد حنان الاُمومة كما فقد حنان الاُبوة من قبل، فيتضاعف حبّه له حتّى ليكاد يملأ كلّ كيانه.
ومرّ عامان آخران عاش خلالهما الصبيّ في ظلالٍ وارِفة يغمره الحب وترعاه كفّ بيضاء نديّة، ولقد كان سيّد مكّة وراعي بيت إبراهيم يرى في حفيده مجداً وأيّ مجد، فطالما أصغى إلى بشارات الرُّهبان وكهنة ذلك الزمان بأنّ نبيّاً قد أطلّ زمانُه، فينظر إلى محمّد، فإذا هو الروح التي تنطوي في أهابها جذوةُ النبوّات.
وعندما بلغ محمّد الثامنة أغمض عبدالمطلب عينيه بعد أن اطمأن إلى مصير حفيده العظيم، وكانت آخر كلماته وهو يُوصي قبيلته قائلاً: لقد خلّفتُ لكم الشرف العظيم.
انتخب سيّد مكّة من بين أبنائه أبا طالب، وكان شقيق عبدالله، ولقد كان عبدمناف يحبّ أخاه الذي سافر إلى الشام ولم يَعُد، فانتقل حبّه إلى ذكراه الخالدة منه: ذلك الصبي الدافئ الذي تعلّم من قسوة الزمان الصمت والصبر والتأمّل، كما تعلّم منه الأدب.
فإذا الحكمة تشعّ من عينَيه، والجمال الحقيقي يتألّق في جبينه.
* * *
شيخ البطحاء
وبالرغم من أنّ الثراء يصنع بسحره الزعامات، في ذلك الزمان وربّما في كلُّ زمان ومكان، إلاّ أنّ أبا طالب كان استثناءً لقاعدة اعتادها الناس.
فلقد ورث أبو طالب زعامة مكّة بمجده الأخلاقيّ وبروحه الكبيرة، حتّى قال مؤسس البلاغة في دنيا العرب: « إنّ أبي ساد الناس فقيراً، وما ساد فقيرٌ قبله ».
* * *
في كَنَف فاطمة
وفي منزل أبي طالب يجد الصبيّ اليتيم نبعاً يتدفّق حناناً ومحبّة، فلقد وجد فاطمة بنت أسد أُمّاً تمكنت أن تُبدّد في قلب الصبيّ كلّ مشاعر اليُتْم، فإذا به في منزل جعلت منه فاطمة عشّاً دافئاً في زمن الزمهرير.
ولقد بلغ من رعايتها له أن كانت تحرم أولادها من القُوت في أيّام القحط وتُطعمه.
وبلغ من تقديره لها وحبّه ايّاها أنّها لما ماتت، انفجر باكياً وهو يتمتم:
ـ اليوم ماتت أُمّي.
ثمّ كفّنها بقميصه ونزل في قبرها واضطجع فيه، حتّى إذا رأى الدهشة ترتسم على وجوه أصحابه، قال:
ـ كانت أُمّي؛ تُجيع أولادَها وتُطعمني، وتُشعثهم وتدهنني، وما أحسستُ باليُتم منذ لجأتُ إليها.
* * *
حِلف أخلاقيّ
تخطّى محمّد العشرين من عمره عندما نشبت حرب « الفِجار » (5)، فاشترك مع عمّه أبي طالب في صدّ العدوان عن « كنانة ».
قال له الكنانيّون لما رأوا النصر في جبهتهم:
ـ يابن مُطعم الطير وساقي الحجيج، لا تَغِب عنّا، فإنا نرى بحضورك الغلبة والظفر.
فقال محمّد:
ـ إذا اجتنبتم الظلم والعدوان فإنّي لا أغيب عنكم.
وعاهدوه على ذلك.
وأصبح محمّد شخصيّة لها ثِقلها في المجتمع المكّيّ، فلقد كان سيّداً وحصوراً.
وكانت مكّة مدينة الأقوياء، وكان الأقوياء فيها هم الأثرياء، والثروة في بعض الأحيان ـ بل في أغلبها ـ شيطان يُغوي صاحبها ويفسده.
وشهدت دارُ عبدالله بن جدعان تحالفاً أخلاقيّاً من أجل منع العدوان على الوافدين إلى مكّة في مواسم الحج.
وكان محمد عضواً في ذلك الحلف الذي أنقذ « القتول » (6) من فضيحة الاغتصاب والعار.
* * *
الجبل والسماء
لقد اتّسم محمدٌ بالصمت، والصمت محراب التأمّل، يغوص فيه المرء إلى الأعماق البعيدة، أو يُحلِّق في السماء بأجنحة من النور.
وعندما يُصغي المرء، عندما يتعلّم لُغة الصمت، يسمع في عوالمه نداءات عجيبة.. نداءات تعجز الأُذن الآدمية عن سَبرها؛ فإذا الأشجار تتحدّث، وصخور الجبال، وإذا للأشياء لُغَتُها.
وكانت الحياة في مكّة صاخبة طافحة بالضجيج؛ من أجل هذا يمّم محمّد وجهه شَطرَ الجبل؛ فكان حِراء على ميعاد مع هذا الإنسان.
وأصغى محمّد إلى نداء الجبل؛ أن هَلُمَّ إلى الأعالي.. إلى القِمم؛ فالإنسان يرى العالم بوضوح أكثر من فوق جبل.
ولم يكن حراء جاراً قريباً لمكّة، بل يبعد عنها ثمانية أميال عربية (7)، وكان محمّد يطوي تلك المسافات باتجاه الشمال ليأوي إلى غار في السفوح لا يكاد يتّسع إلاّ لثلاثة أشخاص.
وفي ذلك الغار ومن على سفوح حراء، كان محمّد يتأمل الأرض والسماء.. يتأمل عالمه الكبير الذي يحيط به ويغوص في عالمه الاكبر المودع في أعماق نفسه.
وربما في غمرة الصمت والليل؛ سطع سِرّ الوجود بكلّ غموضه وشفّافيّته، ولم يكن هناك من الأوهام والأباطيل ما يحجب ذلك عنه، فاكتشف أجوبة طالما حيّرت الإنسان مند القِدم وإلى أن يقضي الله أمراً كان مَفعولاً.
وكانت الصحراء باتّساعها وترامي أطرافها، والجبال بشموخها وصمتها، والنجوم في أغوارها التي لا يَسبِرها أحد.. عَوناً له في اكتشاف الحقيقة، حقيقة الأشياء وجَوهرها.
* * *
يومَ اتّصلت السماء بالأرض
هل كان الجوّ صحواً، فالشمس تغمر الأشياء بالدفء والنور ؟ هل كان غائماً فبدت السُّحُب في زُرقة السماء سُفُناً مُبحِرة ؟ أم تراكمت فيها جبال، وبحيرات وتِلال وخلجان؟
هل اشتعلت البُروق، ودوّت الرعود ذلك اليوم، هل كان محمّد في أحضان الغار أم على سفح الجبل بين صخور حراء ؟!
لا يعلم المرء، ما حصل في تلك اللحظات المثيرة.. يوم هبط الملاك يحمل كلمات السماء.
ربّما تكهرب الفضاء غُلالة شفّافة من نور عجيب تغمر المكان.
نور لا ينتمي إلى ضوء الشمس، نور يشبه ما يسطع في النفوس ويُضيء القلوب.
غمر الصمتُ الأشياء.. تلاشت الأصوات.. انسحبت الأشياء إلى مَكنوناتها، ولم يعد محمّد يسمع شيئاً.. سوى كلمات.. كلمات مزلزلة تنفذ في أعماقه.. نفوذَ الشعاع في البحيرة الرائقة:
ـ اقْرَأْ.. إقْرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ.. خَلَقَ الإنْسَانَ مِن عَلَق.. إقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَم.. الّذي عَلَّم بالقَلَمِ.. عَلَّمَ الإنسانَ مَا لم يَعْلَم .
صوت سماويّ يكاد يستوعب الدنيا بأسرها…
ـ يا محمّد! أنت رسولُ الله وأنا جبريل.
أمر عجيب! ماذا حدث ؟ ما هذا الدويّ الذي تردّده الكائنات ؟
لكأنّ صوت المَلاك قد فجّر في مكنونها الأسرار كما تنفجر الصخور عن ينابيع الحياة في لحظة تماسٍّ مع عالم بعيد… عالم لا ينتمي إلى الطبيعة في تكوينه وعناصره.
الأشواك وذرّات الرمال، والشجيرات المتناثرة هنا وهناك، والصخور التي تبدو صمّاء تردّد بصوت له دويّ:
ـ يا محمّد! أنت رسول الله.
مرّت لحظات مشحونة بروح سماويّة.. سمع فيها آخرُ الأنبياء في التاريخ حديثَ الكائنات.. إنّها لحظات الولوج في عالم الملكوت.
انطوت اللحظات لتعود الأشياء إلى سابق عهدها منذ آلاف السنين، وانطوت لحظة الاتّصال بين رسولٍ مَلاك وإنسان… رسول السماء، ورسول الأرض.
انحسرت تلك الشحنات التي غمرت المكان في لحظة اتّصال لايُطيقها إلاّ قلب نبيّ.
لم يبقَ في كيان محمّد سوى كلمات لا تنتمي إلى ابداع بشريّ، كلمات قادمة من وراء الأفلاك… كلمات يلتهب لها الجسد الآدمي.
1