05
الهاجس اليهودي
كان اليهود من سكان المدينة وخارجها ينظرون بقلق إلى ما يجري في يثرب، وهم يرون محمّداً ذلك الرجل الشريد الذي وصل المدينة على قَدَر زعيماً كبيراً وقائداً فذّاً يقود أتباعه نحو مستقبل مشرق.
بدأ اليهود مكرَهم لتمزيق الصفاء الروحي، والتشويش على عقائد المجتمع الجديد، فشنّوا حرباً فكريّة لا هَوادة فيها.
إنّ الطبيعة اليهودية طبيعة معقّدة، لها قابليّة عجيبة على التلوّن بمختلف الألوان، والظهور في عدّة أشكال، فيما يظل الجوهر فاسداً لا أمل فيه؛ ففي تلك الظروف تظاهر بعض أحبارهم باعتناق الإسلام من أجل التغلغل في المجتمع الإسلامي وتخريبه من الداخل، كما وظّفوا المنافقين، وهم تلك الشريحة من سكان يثرب الذين وجدوا أنفسهم يعتنقون الإسلام لأسباب بعيدة كلّ البُعد عن روح الإيمان وطمأنينة القلب.
وفي تلك الفترة طرح اليهود ـ مباشرة أو من وراء حجاب ـ أسئلة عن طبيعة الخالق، وعن الروح.
وكان وحي السماء يؤسّس العقيدة الجديدة السامية مُنزّهةً عمّا لحق الرسالات الغابرة من زيف وتحريف.
وراح المجتمع الوليد يردد:
ـ قُلْ هُوَ اللهُ أحّد. اللهُ الصَّمَد.
ـ ويَسأَلوُنَكَ عن الرُّوح قُلِ الرُّوحُ مِن أمرِ رَبّي.
وكان من المفروض أن يرسم الموقف اليهودي الرافض للدِين الجديد علامة استفهام حول الإسلام، نظراً للثقل الفكري والديني الذي يتمتّع اليهود به، غير أنّ التاريخ الحافل بالوثائق والذي يدين اليهود ويشهد بفساد عقائدهم وانحرافهم وقتلهم عشرات الأنبياء، والأسلوب القرآنيّ في مواجهتهم قد أدّى إلى تهميشهم، فما لبث المجتمع الإسلامي أن راح ينظر إليهم بعين الشكّ والريبة.
ولقد بلغ التعنُّت اليهودي ذِروته عندما سادت روح من الخوف بسطاءَ اليهود من الذين كانوا يودّون اعتناق الإسلام من كل قلوبهم ولكنهم كانوا يخشون خطر الاغتيال.
وفي تلك الظروف الصعبة ـ بين مكر اليهود وخُبث المنافقين ـ أثبت المجتمع الإسلامي صلابته وأعلن هويّته واضحة جليّة، وهكذا مرّ عام.
* * *
الجهاد المسلح
كان من الطبيعي أن يفكّر زعماء قريش ـ ومن خلال حسّهم التجاري ـ بشنّ حرب اقتصادية على يثرب واستخدام اسلوب التجويع لتركيع خصمهم.
ومن هنا حاصرت مكّة طرق القوافل المتّجهة نحو الشمال، وصار من المتعذّر وصول الأغذية إلى المدينة المنوّرة، وبالرغم من خصوبة الأراضي المحيطة بالمدينة وامتداد الحقول والمزارع فيها إلى مساحات شاسعة، إلاّ أنّ الحصار قد فعل فِعله فارتفعت أسعار الغذاء، لعب اليهود ـ وهم خبراء في التفكير الاقتصادي ـ دوراً في التلاعب بالأسعار من خلال الاحتكار؛ غير أنّ المجتمع الإسلامي واجه ذلك بروح من الصبر والتحمّل، وكانت استجابتهم لهذا التحدي إيجابية، فأصبحت لهم سوقهم الإسلاميّة الخاصّة بهم.
ولم يكن للنبيّ صلّى الله عليه وآله أن يقف مكتوف الأيدي أزاء ما يجري حوله من تآمر وأساليب غاية في الدناءة والخبث، فكان ينتظر أمر السماء.
آية السيف
وهبط جبريل يحمل آية السيف:
ـ أُذِن للذين يُقاتَلون بأنّهم ظُلِمُوا وإنّ الله على نَصرِهم لَقَدير. الّذين أُخرِجوا مِن ديارهم بغير حقٍّ إلاّ أن يَقولوا ربُّنا الله، ولولا دَفْعُ اللهِ الناسَ بَعضَهم ببعضٍ لَهُدّمت صَوامِعُ وبِيَعٌ وصَلَواتٌ ومساجدُ يُذكَر فيها اسمُ الله كثيراً ولَينصُرّنَّ اللهُ مَن ينصره إنّ الله لَقويٌّ عَزيز .
وبدأت مصانع السلاح بالعمل، وتألّق الحصان العربي ما دام منطلقاً للدفاع ونشر الإسلام و « الخَيلُ مَعقُودٌ بنَوَاصيها الخَيرُ » (15).
لم يكن المشركون في مكّة الذين اعتادوا أساليب ظلم غيرهم والتنكيل بهم أن يفهموا لُغة غير لغة القوّة، كانوا عدوانيّين حتّى النُّخاع لا يرون شيئاً سوى أنفسهم ومصالحهم، ولقد بدأوا عدوانهم على الإسلام منذ الأيّام الاولى، وكانوا يهدفون إلى سحق الدين الجديد بأيّ ثمن.
لقد عانى المسلمون الكثير من التعذيب والقهر والتشريد، حتّى إذا فتح الله عليهم باب الهجرة إلى وطن آمن، انتهجت قريش أُسلوب الحصار والحروب الاقتصاديّة، واستخدمت سلاح الغذاء لتجويع الخصم وتركيعه.
لم يكن رسول الله بغافل عمّا يمكرون، ولكنه كان يواجه كلّ ذلك بالصبر والتحمّل، حتّى إذا بلغ السَّيْلُ الزُّبى، كان له موقف آخر فُوجئت به قريش والجزيرة بأسرها، فلقد كشفت الأيّام قدرة حربية كامنة في أعماق رجل تجاوز الخمسين عاماً بسنوات خمس.
بلغت الفترة التي أعقبتْ هجرة الرسول صلّى الله عليه وآله وحتّى اندلاع معركة بدر الكبرى تسعة عشر شهراً تقريباً، لم يندلع خلالها أيّ صراع مسلح بين مكّة والمدينة، وكانت الأعمال العسكرية لا تعدو خلال تلك الفترة دوريات للاستطلاع، واستكشاف الطرق المحيطة وتعرّف المسالك التي تؤدي إلى مكّة، ومحاولة كسب القبائل في تلك المناطق الحساسة من خلال دعوتها إلى الإسلام، أو التحالف معها على الأقلّ.
وكان خروج الدوريّات المسلّحة بين الفترة والأُخرى إشعاراً للجميع واستعراضاً لقوة المسلمين العسكرية.
ولقد حوّل الرسول صلّى الله عليه وآله ببصيرته الفذّة المدينة المنوّرة إلى قاعدة قوية يُحسَب لها ألف حساب.
وفي المقابل أثبت زعماء مكّة المشركون غباءهم بانتهاجهم أسلوب الحصار الاقتصادي الذي فشل مرّة في داخل مكّة يومَ كان المسلمون قلةً قليلة، وذلك خلال أيّام المقاطعة المريرة في شِعب أبي طالب.
وها هم ينتهجون ذاتَ الأُسلوب مع المسلمين في مدينة يثرب التي تعتمد في اقتصادها على الزراعة.
وهكذا انقلب السِّحرُ على الساحر، وحوّل النبيّ صلّى الله عليه وآله سلاح الحصار نحو نحورهم، فاستيقظوا من أحلامه مذعورين.
* * *
الطريق إلى آبار بدر
لابد لقوافل التجارة التي تغادر مكّة نحو الشام أن تسلك السهول الساحلية التي تمرّ قرب المدينة في عرض يمتّد إلى أكثر من مئة كيلو متر تقريباً، وهذا ما يمكّن المسلمين من تهديد هذه الطريق التجارية.
لقد بنى المكّيّون أمجادهم على التجارة، في رحلات كبرى تتألّف في بعض الأحيان من ألف بعير.
ويمكن الاشارة إلى ثماني دوريات استطلاعية تخللت تلك الفترة، لم ينشب خلالها أيّ صِدام مسلّح، باستثناء آخرها والتي قادها عبدالله بن جحش في شهر رجب من السنة الثانية للهجرة، وقد أدّى الاصطدام بين الدورية والقافلة في وادي اليمانية بين مكّة والمدينة والطائف إلى حادث قتل، تأثر الرسول صلّى الله عليه وآله له لوقوعه في رجب أحد الأشهر الحُرُم.
استغلّت قريش هذا الجانب أبشع استغلال، وراحت تُشنّع بالنبيّ والمسلمين لانتهاكهم حُرمة الشهر الحرام.
غير أنّ السماء كان لها رأي آخر، فقد هبط الوحي بالآية الكريمة:
ـ يَسألُونَكَ عن الشهر الحَرام قِتالٍ فيه قُل قتالٌ فيه كبير، وصَدٌّ عن سَبيلِ الله وكُفرٌ به والمسجدِ الحرامِ وإخراجُ أهلِه منه أكبرُ عند الله والفِتنةُ أكبرُ من القتل.. (16).
وكانت هذه الآية بمثابة إعلان عن بدء فصل جديد، أدرك المشركون فيه عزم المسلمين على معاقبتهم في أوّل فرصة.
وصلت أنباء عن مغادرة قافلة تجاريّة ضخمة مدينة غزّة باتجاه مكّة.
كانت القافلة تتألّف من 1000 بعير محمّلة بالقمح والعطور والبضائع الأخرى.
وكان من مزايا هذه الرحلة التجارية أنّها تضمّ رؤوس الأموال الكبيرة، وهي بذلك تهمّ زعماء قريش البارزين، كما أنّ تولّي أبي سفيان لقيادتها أكسبها حسّاسية بالغة، فأبو سفيان من أعداء الإسلام الألدّاء.
قرّر النبيّ صلّى الله عليه وآله تأديب قريش من خلال التعرّض لهذه القافلة الضخمة، وعلى هذا الأساس عبّأ قوّات محدودة بلغ تعدادها ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً.
بعث النبيّ صلّى الله عليه وآله دورية استطلاع لجمع معلومات عن مسار القافلة وترصّد أخبار قريش في مكّة، كما قسّم جيشه إلى كتيبتَين؛ كتيبة تضمّ المهاجرين ورايتها مع عليّ بن أبي طالب، وكتيبة الأنصار ورايتها مع سعد بن معاذ.
سلكت القوّات الإسلامية طريق القوافل التجارية حيث يبلغ طوله حوالي «160» كيلومتراً، ووزّع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسائط النقل المؤلّفة من سبعين بعيراً على جنوده، فتحتّم أن يشترك كلّ ثلاثة مقاتلين على اعتقاب بعير واحد، وكان نصيب الرسول مع عليّ بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد الغنوي.
وعندما أعرب كلّ من عليّ ومرثد عن استعدادهما على السير مشياً، قال النبيّ صلّى الله عليه وآله:
ـ ما أنتما بأقوى مِنّي، ولا أنا بأغنى عنكما عن الأجر.
وكان منظر الرسول وهو يطوي المسافات مشياً أسوةً بغيره قد ملأ قلوب جنوده إجلالاً وتَفانياً وحُبّاً.
* * *
الانباء المثيرة
هطلت الأمطار.. هطلت بغزارة فسالت أوديةٌ بقَدَر.. وقف النبيّ صلّى الله عليه وآله.. راح ينظر إلى السماء والسحب تسحّ ما تسحّ من دموعها الثقال.. رفع يدَيه إلى عوالم لا نهائيّة وتضرّع إلى الله واهب الحياة.
ـ اللهمّ نصرَك الذي وعدتَ.
كان الوجوم يسيطر على الوجوه، فالأنباء كانت مثيرة.. لقد خرجوا لمواجهة قافلة تجارية… وها هي الصحراء تحمل إليهم نبأ عن زحف قريش بجيش كبير.
كان أبو سفيان يقود القافلة بحذر، وقد شعر بشيءٍ ما عندما وصل المناطق المتاخمة ليثرب، وفي مكان قرب آبار بدر عثر على روث للإبل ، وعندما فتّه ورأى فيه نوى تمر صرخ بذعر:
ـ هذه والله علائف يثرب.
بادر أبو سفيان إلى إرسال صيحة استغاثة إلى مكّة، فيما غيّر مسار القافلة باتّجاه البحر الأحمر، وهكذا ابتعدت عن آبار بدر ممعنة بالفرار، وهكذا أفلتت القافلة.
كان زحف قريش يمثّل أوّل تَحدٍّ كبير يواجهه المسلمون، وكان عليهم أن يتّخذوا قراراً ما.
أطْلع النبيّ صلّى الله عليه وآله أصحابه على مُجريات الأحداث وهتف بقوّاته:
ـ أشيروا علَيّ أيّها الناس.
كان الموقف يزداد حَراجة لحظةً بعد أُخرى.
نهض عمر وقال:
ـ يا رسول الله! إنّها قُريش وعزّها، ما ذلّتْ منذ عزّتْ، ولا آمنت منذ كَفَرَت، والله لتقاتلنّك، فاتّهِب لذلك أُهْبته وأعدّ لذلك عُدّته.
وراح المسلمون ينظر بعضهم إلى بعض، وفي تلك اللحظات نهض المِقداد بن عمرو وهتف بحماس:
ـ يا رسول الله، امضِ لما أمَرك اللهُ فنحن معك، والله لا نقولُ كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهَب أنتَ ورَبُّك فقاتِلا إنّا ها هُنا قاعدون.. بل نقول: اذهَبْ أنتَ وربُّكَ فقاتِلا إنّا معكما مُقاتلون.
وأشرق وجه الرسول صلّى الله عليه وآله بابتسامة رضى.
كان المقداد يمثّل موقف المهاجر، فأراد النبيّ صلّى الله عليه وآله أن يعرف موقف الأنصار، فهتف مرّة أُخرى:
ـ أشيروا عليّ أيها الناس.
نهض سعد بن معاذ وقد أدرك رغبة النبيّ صلّى الله عليه وآله:
ـ كأنّك تريدنا يا رسول الله ؟
ـ أجل.
ـ لقد آمنّا بك وصدّقناك وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحقّ، وأعطيناك العَهدَ والميثاق، فامضِ يا رسولَ الله لما أردت، فوالذي بعثكَ بالحقّ، لو استعرضتَ بنا هذا البحر (17) فخضتَه لخضناه معك ما تخلّف عنا رجل واحد.. إنّا لَصُبْر عند الحرب، صِدْق عند اللقاء.
وقد أثارت هذه الكلمات الثائرة الحماسَ في نفوس المقاتلين، ومدّتهم بالعزم والقوة والمواجهة.
وهكذا أصدر الرسول أمره باستئناف المسير:
ـ سيروا على بَرَكة الله، وأبشِروا فإنّ الله وعدني إحدى الطائفتَين.
وغادر النبيّ صلّى الله عليه وآله وادي ذفرات، سالكاً المنعطفات قريباً من الكثبان الرملية في منطقة حنان، واستمر يطوي المسافات إلى أن وصل آبار بدر، وقام بنفسه بجولة استطلاع في المناطق المحيطة فصادف شيخاً، وأدرك من خلال الحوار معه أنّ قريشاً قد تصل بين لحظة وأخرى الكثبان الرمليّة في أقصى الوادي من آبار بدر.
وفي غَمرة تلك الليلة بعث النبيّ صلّى الله عليه وآله أيضاً دوريّة استطلاع بقيادة عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فتمكّنت من إلقاء القبض على شخصين من سُقاة جيش قريش وساقتهما إلى معسكر المسلمين.
سأل النبيّ صلّى الله عليه وآله عن عدد قوات قريش:
ـ كم القوم ؟
ـ كثير.
ـ ما عُدّتهم ؟
ـ لا ندري.
ـ كم ينحرون في اليوم ؟
ـ يوماً تسعاً ويوماً عشراً.
التفت النبيّ إلى أصحابه وقال:
ـ القوم ما بين التسعمئة والألف.
ولقد صَدَق حَدْسُ النبيّ صلّى الله عليه وآله عندما تقدمت قوات قريش، وظهر أنّها تتألف من تسعمئة وخمسين مقاتلاً.
تمركزت قريش في ثنايا التلال القريبة من الوادي، بينما انتخب المسلمون الجانب الشرقي منه.
وفي فجر يوم 17 رمضان من السنة الثانية للهجرة، وقد بدت المعركة وشيكة، هبط جبريل يحمل دعوة السماء إلى السّلام.
وكان هناك مَن يُصغي إلى هذا النداء لولا غرور أبي جهل وإصراره على الحرب بأيّ ثمن.
ولقد تجلّت حَنَكة الرسول العسكرية في هذه المعركة، من خلال قيامه بعدّة خطوات من قبيل جمع المعلومات عن العدو، وتغطية تحرّكه بالسرّية الكاملة، وانتهاجه أُسلوباً مبتكراً في التكتيك القتالي يعتمد ترتيب الصفوف، وهو أُسلوب لم يكن معروفاً من قَبلُ، إضافةً إلى عامل آخر يمثّل دون شكّ السلاح الأقوى في المعركة، وهو الإيمان العميق والعقيدة.
اشتعلت المعركة في الصَّباح الباكر واستمرت حتّى المساء، وخاض المسلمون مقاومة بطولية حسمتْ فيما بعد إلى جانبهم نصراً ساحقاً، لتشهد عيون بدر أوّل معركة حاسمة في تاريخ الإسلام، لتصبح فيما بعد فاتحة لسلسلة من الانتصارات الباهرة، وهكذا عاد النبيّ صلّى الله عليه وآله إلى المدينة تخفق فوق هامته راية « العقاب »، فيما ظلت أصداء ما حدث قرب آبار بدر تتردد في الجزيرة العربية.
لقد شهد ذلك العام أيضاً أربعة أحداث اُخرى.
ـ تغيير القبلة وتحويلها من بيت المقدس إلى الكعبة، وقد استاء اليهود من جرّاء ذلك بشدة.
ـ تشريع الصوم في شهر رمضان المبارك، كما أصبحت للمجتمع الإسلامي أعياده الخاصّة في عيدَي الفطر والاضحى.
ـ اقتران عليّ بن أبي طالب عليه السّلام بفاطمة كريمة النبيّ صلّى الله عليه وآله.
ـ تغيّر مسار القوافل التجارية لقريش وتحوّلها من طريق الشام إلى طريق العراق إثر معركة بدر.
ولقد تنفّس المسلمون الصُّعداء، خاصّة الذين ما يزالون في مكّة إثر مصرع أشدّ أعداء الإسلام قسوة كأبي جهل وأمية بن خلف، كما لقي أبو لهب حتفه كَمَداً بعد سماعه نتائج ما حدث في « بدر ».
* * *
المسألة اليهودية
لا يحتاج المرء إلى جُهد كبير لكي يتعرف طبيعة اليهود، وموقف القبائل اليهودية أزاء الإسلام، فلقد برز حقدُهم الأعمى منذ الأيّام الأُولى من وصول النبيّ صلّى الله عليه وآله المدينة المنورة.
لقد حاول الرسول صلّى الله عليه وآله تجنّب الاصطدام بهم ما أمكن، غير أنّهم فسّروا ذلك نوعاً من الخوف، فراحوا يحيكون المؤمرات ضد الإسلام، مستهينين بالمسلمين حتّى بعد انتصارهم في معركة بدر.
وكان يهود بني قينقاع أوّل من فجّر الموقف ضد المسلمين، إذ صعّدوا من استفزازهم وراحوا يسخرون من رسول الله وأصحابه.
وقد لعبت ثرواتهم الطائلة وحصونهم الحربية المنيعة في نفخ روح الغرور في نفوسهم.
وإذا كان لكلّ اشتعال شرارة، فقد وقع حادث في السوق اليهودية فجّر الموقف بين اليهود والمسلمين.
كان الوقت ضُحى وسوق الصاغة يزخر بالباعة والمارّة؛ وصادف أن جاءت امرأة مسلمة تريد بيع حُليّها الذهبية، فدخلت أحد دكاكينهم.
واستيقظت كوامن الطبيعة اليهودية، فتقاطر على الدكان بعض اليهود وراحوا يستفزّون المرأة.
وإذا كان اليهود قد ورثوا حبّ الذهب منذ أن صنع السامري عجلاً ذهبياً له خُوار، فإنّهم أيضاً قد توارثوا صفاتٍ أخلاقيّة غاية في الانحطاط، فالخِسّة والغدر والدناءة باتت من خصائصهم التي تنهض عليها شخصيتهم المعقدة.
وهكذا سوّلت لليهودي نفسُه، فاستغل انشغال المرأة وثبّت طرف ثوبها بشوكة إلى ظهرها، عندما أرادت المرأة المسلمة الانصراف ونهضت سقط الرداء، كان اليهود ينتظرون هذه اللحظة فانفجروا ضاحكين.
وصرخت المرأة:
ـ يا للمسلمين.
وهبّ مسلم غيور للدفاع عن الشرف، فهوى بسيفه على الصائغ وأحاط اليهود بالمسلم وقتلوه.. وهكذا اشتعلت الفتنة.
وبالرغم من كل ذلك، أراد النبي تجاوز الموضوع، فذهب بنفسه إلى سوق اليهود، وأجرى معهم حواراً هادئاً ذكّرهم فيه بالمعاهدة المبرمة بين الطرفين، وأنّ البغي والعُدوان لن يجني سوى ثمار مُرّة، كما حصل لقريش يوم بدر قبل أقل من شهر.
ولكن اليهود الذين استبدّ بهم الغرور سخروا من هذه النصائح قائلين:
ـ لا يغُرّنك يا محمّد أنّك لقيت قوماً لا عِلم لهم بالحرب، فأصبتَ منهم فرصة مكّنتك من رِقابهم، إنا والله لئن حاربناك لسوف ترى منا ما لم تره من غيرنا.
وفي هذه المناسبة هبط الوحي السماوي بهذه الآيات:
ـ قُل للّذين كَفَروا ستُغلَبون وتُحشَرون إلى جَهنّمَ وبِئس المِهاد. قد كانَ لكم آيةٌ في فِئتَين التَقَتا فِئةٌ تقاتِل في سَبيلِ الله وأُخرى كافرةٌ يَرَوْنَهم مِثلَيهم رَأْيَ العَين، واللهُ يؤيّد بنَصره مَن يشاء إنّ في ذلك لعِبرةً لأُولي الأبصار (18).
وأمام هذا الغرور الأحمق قرّر النبيّ صلّى الله عليه وآله تأديبَهم، فزحف بقوّاته، فيما لاذ اليهود بحصونهم المنيعة.
فرض المسلمون حصاراً شديداً استمرّ أُسبوعين، وكان الشرط الوحيد لفكّ الحصار الاستسلام دون قَيد أو شرط.
وأخيراً استسلم بنو قينقاع، وفتحوا أبواب الحصون.
أصدر النبيّ صلّى الله عليه وآله عفواً عاماً، شرط الجلاء عن المدينة، وهكذا غادرت هذه القبائل الشرّيرة يثرب مخلّفة وراءها كميّات هائلة من الأسلحة وأدوات الصياغة، وحطّت رحالها في وادي القرى مدّة من الزمن ثم اتّجهت صوب « أذرعات » (19) في الشام.