اجتماع القوّة والمظلوميّة في الإمام عليّ عليه السلام
المثال الآخر هو قوّته ومظلوميّته. هل كان ثمّة رجل في عصره أقوى منه، أو له مثل تلك القوّة الحيدريّة؟ لم يتحدّ علياً عليه السلام أحد, ولم يجرؤ أحد على ادّعاء ذلك حتّى آخر حياته. نفس هذا الإنسان كان أكبر أهل زمانه مظلوميّة والأكثر ظلامة منهم، بل ويقال وهو قول صحيح لعلّه أكثر إنسان ظُلم في تاريخ الإسلام.
إنّ القوّة والمظلوميّة شيئان لا يجتمعان؛ فالمتعارف أنّ الأقوياء لا يُظلمون، غير أنّ أمير المؤمنين عليه السلام ظُلم.
زهد الإمام عليّ عليه السلام
المثال الآخر هو الزهد والإعمار، فأمير المؤمنين عليه السلام كان مثالاً في زهده وإعراضه عن الدنيا. ولعل أبرز أو أحد أبرز مواضيع نهج البلاغة
هو الزهد, وهو في نفس الحال طوال فترة الخمس والعشرين سنة بين وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتسلّمه الخلافة كان ينفق من ماله الخاصّ في أعمال العمران، فكان يزرع البساتين والمزارع، ويحفر الآبار، ويشقّ الأنهار، والمدهش أنّه كان يتصدّق بكلّ ذلك في سبيل الله.
لا بأس أن نعلم بأنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان أكثر الناس عائدات في عصره، وقد نقل عنه أنّه قال:” إنّ صدقتي لو وزع على بني هاشم لوسعهم” , لكن هذا الإنسان الثريّ كان يعيش حياة فقيرة على أشدّ ما يكون من الفقر؛ لأنّه كان ينفق كلّ تلك الثروة في سبيل الله.
يروي أحدهم أنّه رأى علياً عليه السلام يحفر بئراً بيده، ثم يقول: رأيت الماء قد تدفّق منها كأوداج الجمل، خرج أمير المؤمنين عليه السلام من البئر وهو ملطخ بالطين, وجلس عند حافّة البئر ودعا بورق وكتب فيه أنّ هذه البئر أوقفها عليّ بن أبي طالب عليه السلام على أشخاص ذكرهم.
إنّ ما يلاحظ في عهد حكومة أمير المؤمنين عليه السلام إنّما هو امتداد لحياته ومسيرته الخاصّة, فمن الطبيعيّ أن الزهد بالدنيا لا يتنافى مع بنائها الّذي جعله الله واجباً على الجميع، فأمر بإعمار الدنيا، وتكوين الثروات، ولكن بشرط أن لا يكون الإنسان عبداً لها أو يجعل نفسه طوع أمرها، من أجل أن يكون قادراً على الإنفاق في سبيل الله بكلّ سهولة.
هذا هو التوازن الإسلاميّ. والأمثلة من هذا الطراز كثيرة، ولو أردت ذكر أمثلة لها لاستغرقت وقتاً طويلاً.