يتحقّق إلّا بتنمية الروح الإنسانيّة المودعة فيه وفطرته السليمة الّتي خلق عليها، وتعديل الغرائز المختلفة الكائنة فيه، ولذلك أرسل الله سبحانه رسله بالبيّنات وأنزل معهم الكتاب والحكمة والميزان لتحقيق هذا الغرض، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق”، فجاء صلى الله عليه وآله وسلم بتعاليم أخلاقيّة سامية وعلّم الكتاب والحكمة، ودعا إلى تهذيب النفوس، وأمر بالعدل والإحسان، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وقد نجح – إلى حدّ بعيد – في هذا المجال، فكان في نفس كلّ إنسان مسلم متأدّب بآدابه وازع داخليّ يمنعه من الاقتراب من أموال الآخرين والنيل من أعراضهم والتعدّي على حقوقهم، وهذا غاية المنى من أيّ قانون يطلبه الناس.
فلسفة الأحكام الجزائيّة
إلّا أنّ ذلك لوحده لا يكفي خاصّة مع وجود بشر منحرفين لديهم نزعة الإفساد في الأرض، يعتدون على غيرهم دون وجه حقّ، ولمعالجة هذا الأمر جعلت الأحكام القضائيّة والقوانين الجزائيّة في الشريعة الإسلاميّة لتكون سدّاً أمام من لم ينتفع بالآيات والحِكم ولم تؤثّر فيه المواعظ والآداب، فمال مع غرائزه النفسانيّة الّتي تحمل الإنسان على أن لا يقتنع بحقوقه وتدفعه إلى الظلم والتعدّي على حقوق الآخرين، فجعل ” القاضي” لكي يكون مرجعاً للناس لفصل الخصومات وقطع المنازعات، وجعل “الحديد” فيه بأس شديد تستأصل به جذور الفساد وعناصر البغي في المجتمع.
ثمّ يأتي البحث الأساس ليناقش احتمالات أنّه إذا كنّا في بلد ويمكن أن نقيم فيه دولة إسلاميّة، أو أقمنا فيه دولة إسلاميّة فلا مشكلة في مراعاة القوانين، فهي دولة شرعيّة والناس يتعاونون معها ويلتزمون أنظمتها وقوانينها وأحكامها وإجراءاتها، إلى آخره….
في ظلّ دولة غير إسلاميّة
لكنّ المسألة أنّه في مثل الزمن الّذي نحن فيه، المسلمون يعيشون في بلدان مختلفة من العالم، أي في بلد مختلط فيه مسلمون ومسيحيّون أو أتباع ديانات
أخرى حيث لا يكون من المتاح فيه إقامة دولة إسلاميّة، وبالتالي تقوم فيه دولة غير إسلاميّة فكيف يتصرّفون؟ والحال أنّ الحكومة موجودة بأنظمتها وقوانينها، وهذه القوانين الّتي تضعها أحياناً قد تكون متطابقة مع الأحكام الإسلاميّة وأحياناً قد لا تكون متطابقة بل متعارضة مع الأحكام الإسلاميّة. في هذا العصر هذا الابتلاء موجود. فما هو الموقف تجاه هذه القوانين؟
التعاطي مع القوانين الوضعيّة
الإسلام قدّم رؤية واقعيّة متقدّمة جدّاً. فهو يرى أنّ الهدف والهمّ الحقيقيّ هو الناس، فالناس في أيّ مجتمع يلزمهم حكومة ونظام لأجل مصالحهم، لأجل أمنهم واستقرارهم، وأيضاً لأجل تطوّرهم، وحتّى يتمكّنوا من حلِّ مشاكلهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة وغيرها.
الإسلام لا يريد أن يتنازعوا، بل أن ينظّموا حياتهم بشكل أو بآخر. إذا توفَّر هذا في دولة إسلاميّة فهذا جيد، لكن إذا لم تكن هناك دولة إسلاميّة، وهناك قوانين لدى هذه الدولة غير الإسلاميّة، قوانين ترعى مصالح الناس، تنظِّم الشؤون الحياتيّة للناس، تؤمّن هذا الهدف بشكل أو بآخر، هنا لا يأتي الإسلام ويقول: لأنَّ هذه القوانين صادرة عن دولة غير إسلاميّة فهذه قوانين غير محترمة ولا يجب مراعاتها، اذهبوا واعملوا الّذي تريدونه؛ أي الفوضى، فإن هذا خلاف الهدف ولا يقبل به الإسلام.
جاء الإسلام وقدّم، بحسب اجتهاد فقهائنا ومراجعنا الكبار، قدّم فهماً، يتحدَّث عن شيء اسمه حفظ النظام العام، حفظ المصالح العامّة للناس وللمجتمع، عدم جواز الإخلال بالحياة العامّة والنظام العامّ والقوانين العامَّة الّتي ترعى شؤون الناس وحياتهم ومصالحهم. حتّى لو كان ذلك في ظلّ دولة غير إسلاميّة.
فلا ينبغي لنا بعد ذلك كلّه أن نخالف الأمر الّذي دعا إليه الشرع الحنيف، بل ينبغي أن نكون منتظمين خلفه ملتزمين بتوجيهاته، إذ بها ننال خير الدنيا وعافية الآخرة.
للمطالعة
الدين والقانون14
قد آن الأوان أن نعترف بالحقيقة القائلة: بأنّ البشر لا يستطيعون وضع دستور لهم بدون هدى الله. وبدلاً من المضيّ في الجهود الّتي لا تأتي بنتائج مثمرة، علينا أن نعترف بالواقع لّذي يدعونا إليه الدكتور فرويدمان، حين يقول: “يتّضح بعد دراسة هذه الجهود المختلفة أنّه لا بدّ من هداية الدّين لتقييم المعيار الحقيقيّ للعدل. والأساس الّذي يحمله الدّين لإعطاء العدل صورة عمليّة ينفرد هو بها في حقّيته وبساطته”15. إنّنا نجد في الديّن جميع الأسس اللازمة الّتي يبحث عنها المشرّعون لصياغة دستور مثالي، ولكي يتّضح صدق ما نقوله، نأتي بالدراسة الوجيزة التالية في أهمّ مشكلات التشريع الإنسانيّ:
(منها) مصدر التشريع، وأوّل الأسئلة وأهمّها بالنسبة لأيّ تشريع هو البحث عن مصدر هذا التشريع: من الّذي يضعه؟! ومن ذا يعتمده حتّى يصبح نافذ المفعول؟.
لم يصل خبراء التشريع إلى إجابة عن هذا السؤال حتّى الآن. ولو أنّنا خوّلنا هذا الامتياز للحاكم، لمجرّد كونه حاكماً، فليس هناك أساس نظريّ وعلميّ يجيز تمتّعه هو أو شركاؤه في الحكم بذلك الامتياز، ثمّ إنّ هذا التحويل من ناحية أخرى لا يجدي نفعا، فإنّ إطلاق أيدي الحكّام ليصدروا أيّ شيء لتنفيذه بوسيلة القوّة؟ أمر لا تُطيقه ولا تحتمله الجماهير.
ولو أنّنا خوّلنا سلطة التشريع لرجال المجتمع، فهم أكثر جهالة وحمقاً، لأنّ المجتمع، أيّ مجتمع! إذا نظرنا إليه ككلّ، لا يتمتّع بالعلم والعقل والتجربة، وهي أمور لا بدّ منها عند التشريع. فهذا العمل يتطلّب مهارة فائقة وعلماً وخبرة، وهو
________________________________________
14- راجع: الإسلام يتحدّى، وحيد الدين خان، ص 159 – 161، بتصرّف.
15- Legal The عليها السلام عليهم السلام y , صلى الله عليه وآله وسلم. 450.