الرئيسية / تقاريـــر / السلم أولاً – علي المدن

السلم أولاً – علي المدن

هل حقا أن الواقع الاجتماعي للمناطق الغربية من العراق مسألة شائكة عصية على الفهم؟ هل حقا أن محنة هذا الجزء من المجتمع العراقي هي أكبر أخطاء الدولة العراقية اليوم؟ هل فعلا أن غموضا “ماسونيا” هائلا يلف هذا الموضوع يحتم علينا أن نستعين بعقول “جبارة” في التحليل السياسي لنتأكد من حقيقة وأسباب ما يجري هناك؟
كلما فكرت بمسألة سياسية، يتراءى لي أنها، في العمق، مسألة مبسطة! لا تحتاج في فهمها عقولا جبارة، ولا محللين بارعين، ولا حتى خبراء. وأغلب التعقيد الذي نصادفه في فهم الأحداث السياسية يعود، في الحقيقة، إلى نقص في معلوماتنا حول تلك الأحداث، أعني كواليس السياسيين وخلافاتهم. ولو كنا نعرف تلك الكواليس، وتلك الخلافات، فإن بوسع أقلّنا ذكاءً أن يعطي رأيه فيها. المسألة ليست فلسفة سياسية (مَن يحكم مَن؟ ولماذا؟) … المسألة أننا أمام “أحداث” هي عبارة عن “وجه آخر” لخلافات، أو توافقات، بين أعضاء من داخل العملية السياسية. ولو كنا نعرف ما يتم الخلاف حوله، أو التوافق بشأنه، لكان كل واحد منا قادرا على تقييم تلك الأحداث.
البعض يريد أن يوحي أن عمق الأزمة في المناطق الغربية من العراق هي “أزمة حوار سياسي”، أو “أزمة ثقة”، أو “أزمة مشاركة وتمثيل حكومي”، أو “أزمة مخصصات وإعمار”، أو أزمة ضمانات” … إلخ. وكل هذه الأسباب هي فعلا مشاكل يعاني منها سكان تلك المناطق. ولكن! أي منطقة من العراق لا تعاني من تلك المشاكل؟ هل سمعتم يوما أن بصْرياً أو كركوكياً أو نجفياً أو أربيلياً أو أو .. راضٍ على الحكومة؟. وقومياً؟ أليس الجميع يعترض على أداء الحكومة ودستور الدولة؟ من منا يجهل اعتراضات الكرد والتركمان والسريان والكلدوآشوريين … إلخ؟ لا أحد في العراق على قناعة بوضعه بالقياس لما يرى أنه يستحقه، الجميع في سخطٍ وغليان وتذمر،

 

والجميع محق في مطالبته بدولة المواطنة والقانون والرفاه. وحين تكون الدولة أقل من المستوى الذي يجب أن تكون عليه في دستورها والتزاماتها وأدائها، فإن الجميع مطالب بأن يرتفع بمستواه السياسي ليكون بمستوى الدولة التي يطالب بها. هكذا يتقاسم الجميع المشاكل ذاتها، ويحاكم بالمعايير ذاتها.
هذا واجب في السياسة وسلوك السياسيين، وهو واجب أيضا في الاجتماع وسلوك المواطنين.
السؤال هو: بأية صيغة يطالب أبناء تلك المناطق بحقوقهم؟ وأي خطاب وسلوك يستخدمون؟
في رأيي أن طيفا واسعا من الناس هناك هم ضحايا لمتخيَّل يغذي سلوكهم، هو أساسا متخيَّل ملتبِس، متخيَّل ضيق وغير عقلاني، لم يراجع فكريا بنحو نقدي. وهذا المتخيل له ثلاثة مكونات:
– مكوِّن إداري تاريخي، يرى إدارة البلد إرثا دينيا لطائفة.
– ومكوِّن سياسي قومي معاصر، هو عبارة عن أدبيات البعث.
– ومكوِّن ديني معاصر، هو عبارة عن أدبيات السلفية
الجهادية.
هذا المتخيل المزيج من هذه المكونات الثلاثة، هو الملهم لخطابات وسلوك شريحة واسعة من المواطنين هناك، وهو لهذا السبب بالذات يمثّل أهم جذر للإشكالية الإجتماعية التي تلقي باسقاطاتها على واقعنا السياسي. هو متخيل مخيف ومرعب وتدميري متى عرفنا أن مكونه التاريخي عفى عليه الزمن. وأن مكونه القومي فاشي احتكاري استئثاري، الأشد قسوة وتخلفا وهمجية في التجربة السياسية المعاصرة عالميا. وأن مكونه الديني، ما هو إلا خلاصة لكل عصور الظلام الدينية الصراطية التي تنفي أية تعددية فكرية، وتستبيح كل هوية مغايرة، مهما كان شكلها
ولونها.
إن أزمتنا اليوم ليست مجرد قائمة مطالب سياسية، أو اقتصادية، يمكننا أن نتفاوض بشأنها، ولا في حوار يجب علينا إتقان فنونه، ولا في مكاسب سياسية نبحث عن ضمانات موثوقة لتنفيذها، ولا في خطط تنموية عادلة يراد لها أن تشمل الجميع بدون تمييز، بل في سلوكنا العنيف الذي ننتهجه في فض خلافاتنا في تلك الملفات. المشكلة في تلك البنية الاجتماعية التي تغذي هذا السلوك وتحرض عليه. وما لم تفكك عناصر تلك البنية الذهنية التي يتشكل منها، ويعتاش عليها، متخيل هذه البنية الاجتماعية، فإن أي أمل بحلول للتسوية سيكون ضربا من
المستحيل.
إن بعض مستوياتِ عناصرِ هذا المتخيل قد تتقاسمها، بنحو أو آخر، أوساط اجتماعية أخرى في العراق، كالاستحقاق القومي التاريخي الذي قد يحلم به بعض من يصفون أنفسهم بالسكان الأصليين للعراق، أو الفكر القومي لدى الكرد، أو الفكر الديني لدى الشيعة، ولكن هناك دائما ما يحد من غلواء هذه المكونات الذهنية، سواء من خلال الواقعية التاريخية، أو البراغماتية السياسية، أو الإذعان لفكرة “الإرجاء الديني” في المصير الآخروي. هذه “الكوابح” لتلك المتخيلات المرعبة، وإن كانت لا ترقى لمستوى تصورات الحداثة حول مفاهيم الدولة والسياسة والمجتمع، ولكنها نافعة على أية حال؛ لأنها لا تعصف بالسلم الأهلي للمجتمع.
فشلُ الساسة في بلد كالعراق، لا سيّما أولئك الساسة الذين ينحدرون من المناطق الساخنة، هو في عجزهم عن اجتثاث تلك الأفكار المتطرفة. لم يتبنوا خطة ستراتيجية، ولا خطابا سياسيا حقيقيا، يفكك مكونات تلك الذهنية ويحد من غلوائها. لم يعيدوا تعريف المشاكل المتعلقة بالعدالة والمشاركة السياسية عبر الاندماج بالدولة ومواطنيها الآخرين، بل على العكس، جوبهت أخطاء بعض السياسيين في الحكومة – وهي أخطاء لن نقلل من شأنها بحال من الأحوال في شأن أي مواطن عراقي – بتصعيد من قبل ساسة تلك المناطق، حوّل سكانها إلى قنابل تنفجر واحدة تلو أخرى، في مشهد يصدم كل وعي أخلاقي في العالم، ويمزق كل بلد في العالم، ويهدر ثرواته ويفتت
مجتمعه.
لقد كان رهان السياسيين المؤثرين من أبناء تلك المناطق هو الأقل حكمة من بين كل الحركات المدنية والأحزاب السياسية الداعية لاستعادة الحقوق والعدالة والحريات في العالم. لماذا؟ لأن قاعدة أي عمل سياسي ناجح داخل بلد ما، تبدأ أولا، وقبل كل شيء، في الحفاظ على السلم الأهلي، وهو على العكس تماما مما اختاره هؤلاء الساسة في خطاباتهم وتصريحاتهم
وعملهم.
لقد ولدت المعارضة السياسية في العراق منذ أول يوم لتشكيل الدولة العراقية الحديثة، ولكن لم يسبق لها أن ارتكبت هذا القسط من الأخطاء الكارثية، وفي وقت واحد، في أية مرحلة من تاريخها. وحتى في تلك الأوقات التي أرغمت فيها المعارضة على العمل المسلح، فإننا لم نسمع بأن ترهيبا اجتماعيا واسعا، أو قتلا عاما، حظي بدعم وترحيب ومشاركة من المدنيين الذين تدعي المعارضة تمثيلهم، لا مع مقاتلي الأهوار ولا في جبال “البيشمركَه”. وهي، أي المعارضة آنذاك، لم تفعل ذلك لسبب بسيط: لأنها تخشى أن تخسر تعاطف قاعدتها الجماهيرية.
لقد كانت تلك القواعد ترى نفسها جزءا من كل، وتملك إيديولوجيا مؤسسة على يوتوبيا الدولة العادلة، مقاييسها للمعارك النبيلة واضحة، وخيارها في السلم الأهلي لا مساومة عليه. لقد رفع السلاح في وجه أجهزة الدولة القمعية، وفي خطوط التماس غالبا، ولم يمتد لمؤسسات الدولة الأخرى، كما لم يتورط فيه المدنيون بأي حال من الأحول. الشيء المقلق اليوم هو اختفاء بديهيات “المعارضة” في تاريخ الدولة العراقية الحديثة، وتورط الفاعلين الاجتماعيين المباشر في حفلات الإبادة المنظمة، والسير في طرق أبعد ما تكون عن العمل السياسي الناضج والتحرري.
إن أي حلٍّ لأزمة الدولة العراقية لا ينطلق من أولوية السلم لهو حل كاذب ومخادع ومتناقض، والتاريخ يحدثنا أنه لا يوجد شعب واحد في المعمورة رفض السلم وبقي متماسكا وموحداً. لا معنى لخطاب يطالب بضمانات، بمكاسب، بحوار مؤسس على الثقة، بعدالة، بحريات، بمشاركة في العمل السياسي، وهو منغمس في مناخ من الكراهية الدموية المستبيحة لكل ما هو مغاير.
إن أخطر ما واجهه العراق، دولة وشعبا، في تاريخه حتى اليوم، هو هذه الإرادة الشريرة ذات المكونات الثلاثة التي وصفانها سابقا وهي تتحول إلى مسلمات تلهم بعض أبناء هذا الوطن معنى الحقيقة والسلوك الصائب .. وحتى تستبدل تلك المسلمات بمسلمات تعترف بالسلم الأهلي كمنطلق لأي عمل سياسي، بل لأي عيش مشترك، فإن فرص البقاء على بلد موحَّد اسمه “العراق” في تضاؤل مستمر.

شاهد أيضاً

آداب الصلاة 13 سماحة الشيخ حسين كوراني

. أقرأ ايضا: أوضاع المرأة المسلمة ودورها الاجتماعي من منظور إسلامي وإذا أراد الأميركي وقف ...