شبهات حول نهج البلاغة
أهداف الدرس
1. أنْ يتعرّف الطالب إلى بعض الشبهات حول نهج البلاغة.
2. أنْ يتمكّن من الإجابة على الشبهات إجمالاً.
تمهيد
تعرّضنا فيما تقدّم إلى السبب الأساس الّذي دفع ببعضهم إلى التشكيك في نسبة نهج البلاغة إلى الإمام عليّ عليه السلام، وهو عدم ذكر الرضيّ لأسانيد الخطب الّتي جمعها في كتابه، وقدّمنا جواباً عامّاً عن هذه القضيّة.
وقد ذكر السيّد محسن الأمين في أعيان الشيعة كلّ الإشكالات الواردة في هذا المضمون وأجاب عنها بشكلٍ تفصيليّ1.
ومن الّذين تعرّضوا أيضاً لهذه الشبهات والرّد عليها، السيّد الخطيب في كتابه “مصادر نهج البلاغة وأسانيده”. وقد تولّى استخراج المصادر والأسانيد للنهج. ولعلّ هذا الأمر وحده كافٍ في ردِّ كلام هؤلاء المعترضين.
وفيما يلي نستعرض أهمّ الشبهات الّتي أُثيرت حول نهج البلاغة مع الإجابة عليها.
الشبهة الأولى: إنّ نهج البلاغة من اختلاق الشريف الرضيّ وليس من كلام الإمام عليّ عليه السلام.
الجواب: يتّضح من ما تقدّم في الدرس الثاني – ولا سيّما من الفقرة الّتي
________________________________________
1- أعيان الشيعة، السيّد الأمين، ج1، ص540 – 543.
تحدّثنا فيها عن كيفيّة جمع النهج -الجواب الكافي عن هذه الشبهة، حيث ذكرنا أسماء كبار العلماء والأدباء الّذين جمعوا كلمات الإمام قبل زمن الرضيّ، وكذلك كلام المسعوديّ الّذي قال بأنّ الناس حفظت عن الإمام عليّ عليه السلام أربعمائة خطبة ونيّف وثمانين خطبة، والمسعوديّ عاش قبل زمن الرضيّ.
هذا بالإضافة إلى تساؤلنا عن السبب الّذي يُمكن أن يدفع الرضيّ لأن ينسب لنفسه ما ليس له، وهو المعروف بورعه وتقواه، فضلاً عن السبب الّذي يدعو الرضيّ لأن يُضيِّع على نفسه عملاً بهذه الضخامة وينسبه إلى الإمام عليّ عليه السلام.
الشبهة الثانية: خلوّ نهج البلاغة من الأسانيد
كان الهمّ الأساس للشريف الرضيّ هو جمع محاسن الخطب والكتب والحِكَم ممّا قاله أمير المؤمنين عليه السلام. وهذا ما دفعه إلى عدم الاهتمام بذكر مصادر هذه الخطب والكلمات. وهذا الشيء دفع بعضهم إلى التشكيك في النهج من هذه الزاوية.
الجواب: يتبيّن لنا من خلال مطالعة نهج البلاغة أنّ الشريف الرضيّ اعتمد في جمعه لكلمات الإمام عليّ عليه السلام على كتاب “البيان والتبيين” للجاحظ، و”المقتضب” للمبرّد، و”المغازي” لسعيد بن يحيى الأمويّ، و”الجُمَل” للواقديّ، و”المقامات” في مناقب أمير المؤمنين لأبي جعفر الإسكافيّ، و”تاريخ الطبريّ”، وحكاية أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام، ورواية اليمانيّ عن أحمد بن قتيبة، وخبر ضرار بن حمزة، وغيرها من الكتب الّتي لم يصرّح عنها الشريف الرضيّ.
وممّا يدعم هذا الجواب أنّه يوجد الكثير من خطب الإمام عليّ عليه السلام في
بعض الكتب السابقة على عهد الشريف الرضيّ، ومنها:
1- الكافي: للكلينيّ المتوفّى سنة (328 هـ – 939م).
2- التوحيد: للصّدوق محمّد بن بابويه القمّي المتوفّى سنة (381 هـ – 991 م). وفيه عدد من خطب التوحيد. وذكر الصّدوق أيضاً بعض الخطب في كتبه: من لا يحضره الفقيه، والأمالي، والخصال، وعلل الشرائع، ومعاني الأخبار.
3- الإرشاد: للشيخ المفيد المتوفّى سنة (423 هـ – 1022م)
4- العقد الفريد: لأحمد بن عبد ربّه المتوفّى سنة (327 هـ- 938م).
5- تحف العقول: لابن شعبة الحرّانيّ (القرن الرابع الهجري).
6- تاريخ الأمم والملوك: لمحمّد بن جرير الطبريّ المتوفّى سنة (210 هـ – 825 م).
7- مروج الذهب: للمسعوديّ، المتوفّى سنة (346هـ – 957م).
والحاصل كما ذكرنا أنّ الشريف الرضيّ لم يكن الهدف الأساس عنده ذكر أسانيد هذه الخطب. ولعلّ السبب في ذلك كما يظهر من تصريح الكثيرين أنّ كلمات الإمام عليّ عليه السلام وخطبه كانت من المسلّمات والبديهيّات بحيث لم يحتج إلى إيراد أسانيدها.
الشبهة الثالثة: الاعتراض على كثرة الخطب وطولها، لأنّ هذه الكثرة وهذا التطويل مما يتعذّر حفظه وضبطه قبل عصر التدوين.
الجواب: تؤكِّد الشواهد التاريخيّة أنّ قوّة الحافظة في العصور السابقة كانت عند الناس بالشكل الّذي يسمح باستيعاب هذا العدد من الخطب، والشاهد على
هذا القول هو ما ذكره المسعوديّ حيث قال:
“والّذي حفظ الناس عنه (أي الإمام عليّ عليه السلام) في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيّف وثمانين خطبة”2.
وهكذا لو قارنّا حفظ نهج البلاغة مع حفظ المعلّقات السبع من قبل الكثيرين الّتي تعتبر أطول من كثير من الخطب.
وممّا يدلّ على أنّ ملكة الحفظ كانت موجودة بشكل قويّ، وجود علل من الحفّاط منهم ابن عبّاس الملقّب بحبر الأمّة، الّذي حفظ جلّ أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
الشبهة الرابعة: وجود بعض الخطب والأقوال منسوبة لغير الإمام عليّ عليه السلام، وهي في نفس الوقت منسوبة له عليه السلام في مكان آخر.
الجواب: إنّه قد ثبت للعلماء والباحثين وجود سرقة لأكثر الخطب المنسوبة للإمام عليّ عليه السلام، وإلصاقها بمن هم أبعد ما يكونون عن بلاغة الإمام وفصاحته.
وقد رصد السيّد الشهرستانيّ في كتاب “البيان والتبيين” للجاحظ المتوفّى سنة (255 هـ – 868 م) فقداً لخطبة يُقال إنّها لمعاوية وقد قالها عندما حضرته المنيّة. يقول الجاحظ: “منها أنّ هذا الكلام لا يُشبه السبب الّذي من أجله دعاهم معاوية، ومنها أنّ هذا المذهب في تصنيف الناس وفي الإخبار عنهم وعمّا هم عليه من القهر والإذلال ومن التقيّة والخوف أشبه بكلام عليّ وبمعانيه بحاله منه حال معاوية… والله أعلم بأصحاب الأخبار وبكثير منه”3.
وفي هذا الكلام تشكيك بنسبة الخطبة إلى معاوية مع الخوف من المجاهرة
________________________________________
2- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج1، المقدّمة.
3- البيان والتبيان, ج2, ص 59-61.
بذلك.
ولا يُستبعد أنّ الّذين جاؤوا من بعد الإمام عليه السلام نحلوا من خطبه أو اقتفوا أثره في خطبه وأفرغوها بألسنتهم. وفي شرحه للنهج يقول ابن أبي الحديد عند مقارنته لكلام ابن نباتة بخطبة الجهاد للإمام عليّ عليه السلام.
“واعلم أنّ التحريض على الجهاد والحضّ عليه قد قال فيه الناس فأكثروا وكلّهم أخذوا من كلام أمير المؤمنين عليه السلام فانظر إليها (خطبة ابن نباتة) وإلى خطبته عليه السلام بعين الإنصاف تجدها بالنسبة إليه كمخنّث بالنسبة إلى الفحل أو كسيف من رصاص بالإضافة إلى سيف من حديد… ومع هذا فهي مسروقة من كلام أمير المؤمنين عليه السلام”4.
أمّا عن تغلغل كلام الإمام عليّ عليه السلام في شِعر المتنبّي المتوفّى سنة (354 هـ – 965 م)، أي قبل ولادة جامع نهج البلاغة الشريف الرضيّ بخمس سنوات، فالشواهد كثيرة، وقد جمعها السيّد عبد الزهراء الخطيب في كتابه “مائة شاهد وشاهد من معاني كلام الإمام عليّ عليه السلام في شعر أبي الطيّب المتنبّي”؛ وحسبنا منها على سبيل المثال لا الحصر ما قاله المتنبّي:
لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
“إذا قصرت يدك عن المكافأة، فليطل لسانك بالشكر”5.
الشبهة الخامسة: وجود بعض العبارات في نهج البلاغة تتعرّض بالذمّ للصّحابة، وهذا غير ما كانت عليه سيرة الإمام عليه السلام وأقواله. ولعلّ الإشكال الأساس في هذا الموضوع هو على الخطبة الشقشقيّة.
________________________________________
4- شرح النهج، ابن أبي الحديد، ج2، ص84.
5- نقلاً عن كتاب مع المرأة في نهج البلاغة، فتحيّة عطوي، ص 48.
الجواب: أورد السيّد الشهرستانيّ “الخطبة الشقشقيّة” من أكثر من مصدر: من نهج البلاغة، ومن الشيخ المفيد في الإرشاد، ومن البرقيّ في علل الشرائع، ومن الجلوديّ ومن كتاب معاني الأخبار.
وذكر الشهرستانيّ الناقلين للخطبة الشقشقيّة قبل الشريف الرضيّ، ومنهم أبو عليّ الجبائيّ المتوفّى سنة (303 هـ – 915 م)، وكذلك ابن عبد ربّه المتوفّى سنة (327 هـ – 938 م) في العقد الفريد.
وينقل البحرانيّ عن الشيخ أبي محمّد بن الخشّاب، قوله: “لا والله. ومن أين للرضيّ هذا الكلام ولا ينتظم في سلكه؟ على أنّه قد رأيت هذه الخطبة بخطوط العلماء الموثوق بنقلهم ومن قبل أن يُخلق الرضيّ فضلاً عنه، وأقول (يعني الشيّخ الخشّاب): وقد وجدتها في موضوعين تاريخهما قبل مولد الرضيّ بمدّة أحدهما أنّها متضمّنة في كتاب الإنصاف لأبي جعفر بن قبة تلميذ أبي القاسم الكعبيّ أحد شيوخ المتعزلة وكانت وفاته قبل مولد الرضيّ، الثاني أنّي وجدتها بنسخة عليها خطّ الوزير أبي الحسن عليّ بن محمّد بن الفرات، وكان وزير المقتدر بالله وذلك قبل مولد الرضيّ بنيّف وستّين سنة. والّذي يغلب على ظنّي أنّ تلك النسخة كانت قبل وجود ابن الفرات بمدّة. وهذا ما يؤكد صحّة إسناد الشقشقيّة إلى الإمام علي ّعليه السلام”6.
هذا مع العلم أنّ التمعّن الدقيق في الخطبة الشقشقيّة يُبيّن لنا بوضوح أنّها لا تخرج عن طور الشكاية الخفيّة والتظلّم بزفرات وحسرات وتنهّدات بدليل قوله عليه السلام لابن عمّه ابن عبّاس:
“هيهات يا ابن عبّاس تلك شقشقة هدرت ثُمَّ قرّت”7.
________________________________________
6- راجع: كتاب الأربعين، الشيخ الماحوزي، ص 271.
7- نهج البلاغة، ج1، ص 38.
فالخطبة الشقشقيّة نوع من الشكاية والتظلّم، ونوع من النقد المهذّب واستذكار لوقائع حدثت مع الإمام الّذي وإنّ أبرز هذه المظالم لكنّه أبرزها بشكلٍ لم يخرج فيه عن الإطار الأدبيّ للكلام، خصوصاً مع ملاحظة كلمات الصحابة الآخرين ونقدهم العلنيّ بعضهم لبعض، وعلى سبيل المثال نستعرض:
1 – اتهام عمر لخالد بن الوليد بالزنى، والطلب من أبي بكر معاقبته لقتله مالك بن نويرة والاختلاء بأرملته ليلة قتله، وكان جواب أبي بكر: “هيه يا عمر تأوّل فأخطأ”8.
2 – قول عمر: “بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرّها”9.
3 – تسمية عائشة لعثمان: “نعثلاً”، والنعثل: الكثير شعر اللحية والجسد، وفتواها: “أقتلوا نعثلاً فقد كفر”10.
فالمُلاحظ أنّ الإمام عليّاً عليه السلام لم يصل في شكواه ونقده للصّحابة إلى هذا الحدّ.
وأخيراً… فإنّنا تعرّضنا لذكر بعض الشبهات الّتي أُثيرت حول صحّة نهج البلاغة من باب المثال فقط، وليكون القارئ الكريم على اطّلاع ولو إجماليّاً على كيفيّة الاعتراض على “النهج”، ليرى بنفسه مدى هشاشة هذه الاعتراضات، وعدم وصولها إلى المستوى العالي من التحدّي.
وبذلك يبقى “النهج” شعاعاً مضيئاً في سماء الأمّة يُنير لها الطريق كما كان صاحبه وما زال نبراساً وعلَماً هادياً لكلّ الأجيال عبر العصور.
________________________________________
8- تاريخ الطبري، ج2، ص 503.
9- سيرة ابن هشام، ج4، ص 1073.
10- الإمامة والسياسة، ابن قتيبة، تحقيق الزيني، ج1، ص 52.
ـ لقد أثيرت شبهات عديدة حول نسبة نهج البلاغة إلى الإمام عليّ عليه السلام، والسبب الأساس في التشكيك هو عدم ذكر الرضيّ للأسانيد.
ـ ذكر السيّد محسن الأمين الشبهات وردّها في كتابه أعيان الشيعة، وانبرى السيّد الخطيب في كتابه: “مصادر نهج البلاغة وأسانيده” لاستخراج مصادر وأسانيد النهج، وهذا الأمر كافٍ في ردّ المشكّكين.
ـ فعليه ليس نهج البلاغة من اختلاق الرضيّ، بل هو مسندٌ، وطول خطبه لا يمنع من حفظها، ووجود خطب منسوبة لغير الإمام عليه السلام وهي منسوبة للإمام في نفس الوقت؛ يُردّ بأنّ العلماء أثبتوا وجود سرقة لأكثر الخطب المنسوبة للإمام عليه السلام، ووجود خطب تحكي عن ظلامة الإمام عليه السلام من قبل بعض الصّحابة كالخطبة الشقشقيّة لا يمنع من نسبتها إليه عليه السلام مع كونها في حدود النقد البنّاء والأخلاق.