مراتب الإخلاص
ثمّ الإخلاص على مراتب، فأعلى مراتبه: الإخلاص المطلق، وهو إخلاص الصدّيقين وإرادة محض وجه الله سبحانه من العمل، دون توقّع غرض في الدارين، كمن يعبد الله حراً, لأنّه أهلٌ لذلك، مستغرق الهمّ والفكر بعظمته وجلاله، ويتوقّف تحصيله على أن يتعاظم الله في أنفسنا ليصغر ما دونه في أعيننا، وبالتالي تنقطع النفْسُ عن الطمع بالدنيا، بحيث ما يغلب ذلك على القلب والتفكّر والاشتغال بمناجاته حتى يغلب على قلبه نور جلاله وعظمته، ويستولي عليه حبّه وأنسه.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في وصف المتقين: “عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ” .
وفي المقابل كم من عمل يتعب الإنسان فيه نفسه، ويظن أنّها أعمال خالصة لوجه الله تعالى، ويكون فيها مغروراً, لعدم عثوره على وجه الآفة فيها، كما حكي عن بعضهم أنّه قال: (قضيت صلاة ثلاثين سنة كنت صليتُها في المسجد جماعة في الصف الأول, لأنّي تأّخرت يوماً لعذر وصليت في الصف الثاني، فاعترتني خجلة من الناس حيث رأوني في الصف الثاني، فعرفت أَنَّ نظر الناس إليّ في الصفّ الأوّل كان يسرّني، وكان سبب استراحة قلبي من ذلك من حيث لا أشعر).
وهذا مطلبٌ دقيقٌ غامض، وقلما تسلم الأعمال من أمثاله، وقلّ مَنْ يتنّبه له، والغافلون عنه يرون حسناتهم في الآخرة كلّها سيئات، وهم المرادون بقوله تعالى: ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا﴾ .
آفات الإخلاص
ذكر المولى النراقي في كتابه الجليل جامع السعادات أَنَّ الآفات التي تكدّر الإخلاص وتشوّشه لها درجات في الظهور والخفاء:أجلاها الرياء الظاهر.
الأُولى: وهو أجلاها، وتحصل بتحسين العبادة والسعي في الخشوع فيها في الملأ دون الخلوة, ليتأسّى به الناس، ولو كان عمله هذا خالصاً لله لم يتركه في الخلوة, إذ من يرى الخشوع وحسن العبادة خيراً لا يرتضي لغيره تركه، فكيف يرتضي ذلك لنفسه في الخلوة؟!
الثانية: الرياء الخفيّ، وهو يحصل بتحسينها في الخلوة أيضاً بقصد التسوية بين الخلوة والملأ، وهذا من الرياء الغامض, لأنّه حسّن عبادته في الخلوة ليحسّنها في الملأ، فلا يكون فرقٌ بينهما في التفاته فيهما إلى الخلق دون الخالق, إذ الإخلاص الواقعي أن تكون مشاهدة الخلق لعبادته كمشاهدة العجماوات والجمادات، من دون تفاوت أصلاً، فكأنّ نفسه لا تسمع بإساءة العبادة بين أظهر الناس، ثمّ يستحي من نفسه أن يكون في صورة المرائين، ويظنّ أَنَّ ذلك يزول باستواء عبادته في الخلوة والملأ، وليس كما ظنّه, إذ زوال ذلك موقوف على عدم التفاته إلى الخلق في الملأ والخلوة، كما لا يلتفت إلى الجمادات فيهما مع أنّه مشغولُ الهمّ بالخلق فيهما جميعاً.
الثالثة: وهو أَخفاها، وتحصل هذه الدرجة بأن يقول له الشيطان ـ وهو في العبادة في الملأ بعد يأسه عن المكائد السابقة: (أنت واقفٌ بين يدي الله سبحانه، فتفكّر في جلاله وعظمته، واستحى من أن ينظر إلى قلبك وهو غافل عنه! فيحضر بذلك قلبه وتخشع جوارحه).
وهذا أخفى مكائد الشيطان وخداعه، ولو كانت هذه الخطرة ناشئة عن الإخلاص لما انفكت عنه في الخلوة ولم يخص خطورها بحالة حضور غيره.
علاج هذه الآفة
وعلامة الأمن من هذه الآفة: أن يكون هذا الخاطر مِمَّا يألفه في الخلوة كما يألفه في الملأ، ولا يكون حضور الغير سبباً لحضوره، كما لا يكون حضور بهيمة سبباً له، فما دام العبد يفرّق في أحواله وأعماله بين مشاهدة إنسان ومشاهدة بهيمة، فهو بعدُ خارجٌ عن صفو الإخلاص مُدَنّس الباطن بالشرك الخفي من الرياء، وهذا الشرك أخفى في قلب ابن آدم من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على
الصخرة الصماء، كما ورد به الخبر، ولايسلم منه إلا من عصمه الله بخفيِّ لطفه, إذ الشيطان ملازم للمتشمّرين لعبادة الله، لا يغفل عنهم لحظة.
يقول تعالى: ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ ، ويقول أيضاً: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء﴾ .
وهذا لا يكون إلا بتوفيق من الله تعالى، فبيده الأمر من قبل ومن بعد، ففي دعاء عرفة للإمام الحسين عليه السلام: “أَنْتَ الَّذِي أَشْرَقْتَ الْأَنْوَارَ فِي قُلُوبِ أَوْلِيَائِكَ حَتَّى عَرَفُوكَ وَوَحَّدُوكَ وَأَنْتَ الَّذِي أَزَلْتَ الْأَغْيَارَ عَنْ قُلُوبِ أَحِبَّائِكَ حَتَّى لَمْ يُحِبُّوا سِوَاكَ”.
مراد الآية: بقاء المؤمن بين الخوف والرجاء
لما كشفت الآية الشريفة عن حالة مَرَضية في المجتمع وعن أشخاص يظنّون أنّهم على الصراط المستقيم، وهم عند الله في ضلال مبين.
ولمّا لم تحدّد مَنْ هم هؤلاء إلا بالوصف والانطباق، يبقى المؤمن هنا خائفاً إلى آخر عمره، فيعيش بين الخوف والرجاء، لا هو مأمون الجانب فيستريح، ولا مأيوس المصير فيقنط، بل ويبقى شاعراً بالتقصير, إذ قد يكون من الأخسرين أعمالاً طيلة هذه المدة وهو غافلٌ عن حقيقة أمره، فهذه الحالة تحفّزه لإتقان العمل وأدائه على أكمل وجه، بل وعدم الرضا ما دام في معرض القبول والردّ، من دون أن يعيش الإحباط واليأس.
وبالتالي يتجنّب الغفلة التي تتهدّده دائماً، وقد تعرضه فعلاً من حين لآخر، فلا يُحَسب من الغافلين، ولا تنوبه تبعات الغفلة, لأنّ مَنْ أغفل قلبه قال عنه تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ .
وقال أيضاً: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ .
خاتمة المطاف
الله تبارك وتعالى أعطى الناس قلباً قابلاً للترقيات إلى مراتب الكمالات التي لا تتناهى من المحبة والمعرفة والزهد والفناء والبقاء وهم ضيّعوه بمحبة الدنيا، والرياء، والعجب، والكبر والبغض وأمثالها من الرذائل. والقلب أمير البدن، فلو راقبه وكان دائباً في إصلاحه وتحصيل كمالاته أفاض الله تعالى عليه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ولو اشتغل العبد بإصلاح نفسه لكفى به شغلاً عن العالمين، ولكنّ الغالب على العالمين الاشتغال بالدنيا الفانية, إمّا بالمال وإمّا بالجاه وقبول القلوب، ومتى حصل ذلك لا يحتاجون إلى الإصلاح بل ينالون العواقب التي رتَّبها الله تعالى للأخسرينَ أعمالاً بقوله تعالى: ﴿فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾ .
ولنعم ما أوصى به إمام الثورة والأخلاق والعرفان الإمام الخميني قدس سره: “فاجتهد لأن يكون سرّك داعياً وباطنك طالباً، حتى ينفتح لقلبك أبواب الملكوت، وينكشف لسرّك أسرار الجبروت، ويجري فلكُ عقلِك في بحار الخير والبركات، حتى تصل إلى ساحل النجاة، وتنجو من ورطة الهلكات، وتطير بجناحيك إلى عالم الأنوار، عن هذه القرية الظلمانية ودار البواروإيّاك وأن تجعل الغاية لهذه الصفات الحسنى والأمثال العليا ـ التي بها تقوم السماوات والأرضون، وبنورها نوّر العالمين ـ الشهوات الدنيّة واللذات الداثرة البالية، والأغراض الحيوانية، والكمالات البهيمية والسبعية. وعليك بطلب الكرامات الإلهية والأنوار العقلية، والكمالات اللائقة بالإنسان بما هو إنسان” .
اللهمَّ إنِّي أسألُك رضاك، والتوفيق لطاعتك، وحسن العاقبةِ يا ربّ العالمين…