الرئيسية / من / قصص وعبر / من قصص القرآن الكريم قصّة أُمّ موسى وموسى(ع)

من قصص القرآن الكريم قصّة أُمّ موسى وموسى(ع)

النموذج القرآني في قصّة أُمّ موسى وموسى(ع) 
في المقدّمة نشير إلى مدلول آية {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ..}، فإنّ الواضح منها الاستمرار وبيان السنّة الإلهية وقاعدة القضاء والقدر، وإلاّ لو كانت خاصّة بالأُمم السابقة لجاء التعبير (وأردنا) بصيغة الماضي لا بصيغة المضارع الدالّ على الاستمرار. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى}:

5

أ – يلحظ الشبه الكبير بين خفاء ولادة موسى وخفاء شخصه وظفره، وبين خفاء ولادة صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجة الشريف) وخفاء شخصه وظفره.
ب – لم ينصّ في الآية على أنّ الوحي كان بتوسّط نبيّ أو رسول أو وصيّ، بل في الروايات أنّها نوديت وأنّه مباشرة، في الوقت ذاته لا دلالة في الآية على أنّه من أيّ قسم من الأقسام الثلاثة للوحي.

7
{أَنْ أَرْضِعِيهِ..}، سلسلة من الأوامر في كيفية التعاطي مع الوليد الجديد بشكل يحفظه مع إخبار الغيب المستقبلي: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}..
مثل هذه الأوامر التفصيلية من الله تعالى هي لخواصّ من هو حجّة، مصطفاة من القسم الرابع الذي يتجسّد فيه إعمال الحقّ تعالى ولايته مباشرة، ومن دون توسيط نبيّ تلك الأُمّة.. ولكن من دون خروج عن الشريعة الظاهرة آنذاك بالشكل الذي بيّناه في قصّة الخضر، ولهذه الأوامر دلالة على أنّ الوحي في الآية ليس هو الوحي الفطري كما قد يتصوّر أنّه من قبيل {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ..}(1) بعد الالتفات إلى أنّ متعلّقات الأوامر المذكورة ليست ممّا تدركه الفطرة، يضاف إلى ذلك الإخبارات بالغيب التي رافقت الأوامر، واطمينان أُمّ موسى بالوحي المذكور دليل مقامها وسموّ مكانتها، وإلاّ لتلكّأت لاحتمال أن يكون نفث الجنّ أو مكاشفة وإلقاءات شيطانية. وبتعبير آخر: أنّ الوحي المباشر، وقبولها له لا يعقل إلاّمع كون القناة معصومة، وإلاّ لم تكن تستوثق منه.
هذه القصّة وسابقاتها تدفع الإنكار على مقولة الشيعة بأنّ الإمام كيف يرتبط بالوحي بعد وضوح معتقدهم أنّه ليس وحي نبوّة، علماً أنّ القرآن لم يحدّثنا عن حجّية أُمّ موسى بدائرة أوسع من حجّيتها على نفسها في ما يرتبط بطبيعة التعامل مع الوليد.
{وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}، فقد آمنت أُمّ موسى برسالته قبل أن يُرسل، كما آمن الأنبياء السابقون بنبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله) قبل أن يولد، وكما نصّت الزهراء البتول بإمامة الأئمّة حيث دوّنوا في اللوح الأخضر الذي نزل من السماء.
{إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ}، توضّح عن رابطة الأُمّ بطفلها، وأنّها امتحنت بأصعب شيء كما امتحنت السيدة مريم بكرامتها وعرضها وعفّتها وهي سيدة العفّة في زمانها.
لولا أن جاء التسديد الإلهي لمثل هؤلاء البشر الذين اختاروا تنفيذ الإرادة ولو على حساب أعزّ ما لديهم: {لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا}.

7
النموذج الخامس موسى (عليه السلام)
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَاْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ تُثِيرُ الاَْرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَ شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ * وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَاتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(2).

7
إنّ البقرة هنا لها خاصّية إحياء الموتى على يد موسى (عليه السلام) فكيف بالنبيّ أو الوصيّ (عليهما السلام)، وليس في ذلك غلوّ أو خلاف الحقّ، بل القرآن ينصّ على خصائص تكوينية لأجسام الأنبياء والأوصياء.
ثمّ إنّ الآية وهي في منازعة قضائية جنائية تؤكّد أمراً مهمّاً وهو متابعة الله تعالى للمجتمع الإسرائيلي الذي أسّسه موسى (عليه السلام) في كلّ صغيرة وكبيرة، وهذا يعني أنّ الله تعالى يباشر حكومة هذا المجتمع عن طريق موسى في السياسات الكلّية والجزئية ممّا يؤكّد أنّ الله تعالى يمارس الحاكمية بشكل تفصيلي بكلّ دقائق الأُمور وكلّياتها.
إنّ التوجّه السائد لدى أهل سنّة الجماعة والخلافة – وللأسف – أنّهم يُبعدون الذات المقدّسة عن ساحة الأحداث، وهو لازم قولهم إنّ خلافة النبيّ (صلى الله عليه وآله) أمر دنيوي لا دخل للحاكمية والولاية الإلهية التفصيلية فيه، أي تعطيل الدور الإلهي وإزوائه، والإرادة الإلهية التفصيلية والمشيئة التنفيذية لا تتنزّل على أحد إلاّ على نبيّ أو وصي معصوم، وهو ما دفع أهل سنّة الجماعة – على ما يبدو – إلى عدم الالتزام بهذه الحقيقة القرآنية العظيمة وهي حاكمية الله وسلطته التنفيذية في تفاصيل تدبير النظام البشري السياسي والاجتماعي.

6
قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالاَْحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ}(3)، والآية صريحة في عقيدة الإمامية من كون الحكم بالشريعة في النظام الاجتماعي السياسي هو للأنبياء، وهو منصب يختصّون به، والمرتبة الثانية أنّ الحكم للربّانيين وهم الأولياء المصطفون، والرتبة الثالثة الحكم للأحبار أي العلماء وهذه الطولية في جعل الحكم هي لمغايرة الربّانيين للأحبار.
والربّاني هو المنسوب إلى الربّ وهي صيغة مبالغة وهذه الصيغة تدلّ على شدّة القرب لله تعالى فهو لابدّ أن يكون معصوماً، والربانية هي مرتبة اصطفائية وهم الأئمّة (عليهم السلام) وقرينة أُخرى على المراد بهم الأوصياء بقوله تعالى: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ}، فالذي يكون شهيداً على الكتاب كلّه لابدّ أن تكون إحاطته بالكتاب لدنية أي نظير تعبير بمن عنده علم الكتاب، كما تدلّ هذه القرينة على أنّ الربّاني لا تخلو منه الأرض، لأنّه الحافظ لإقامة كتاب الله في النظام البشري فقد استحفظ وكان على ذلك شهيداً، فلا يستقلّ الأحبار في الحكم النيابي عن الربّاني وعن هيمنة وإشراف الوصي المعصوم في كلّ الأزمان.
قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا}(4)، وجعل الملك في بني إسرائيل من قبل الله تعالى دليل على كونه جعلاً إلهياً وعهداً منه، وأنّ سنخ جعل الملك كما هو في جعل النبوّة، كما في قصّة طالوت حيث جعله الله ملكاً بغضّ النظر عن اختيار الناس له، والملك هنا ملك تصرّف فهو لا يقتصر على الاعتبار التشريعي، بل الملك هنا أعمّ كما في قوله تعالى في آل إبراهيم: {وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا}(5)، فهو منصب إلهي غير منصب النبوّة; إذ إنّ موسى (عليه السلام) جعل الملك نعمة وحبوة، وهي غير مختصّة ببني إسرائيل فتعمّ كلّ الأمم، والأُمّة الإسلامية هي أولى في جعل الملك لديها وهي الإمامة، ففي آيات عدّة عُرّف حدّ الإمامة بالملك وولاية التصرّف.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا}(6)فمع كون النقباء غير أنبياء إلاّ أنّ التعبير ورد (وبعثنا)، فبعث النقباء كبعث الأنبياء عهد إلهي ملكوتي تكويني، وقد ورد التعبير بعينه إيضاً في طالوت حيث قال تعالى على لسان نبيّ بني إسرائيل: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا}(7) كذلك.

5

والنقابة هي معرفة أحوال القوم وخفاياهم، فالنقيب من نقّب عن أحوال قومه، ولذا فقد ورد في صفاة الإمام معرفته لأحوال وأسرار أُمّته، حيث ورد في الروايات إنّ (عليه السلام) له عمود نور يرى بواسطته أعمال الناس، وهو مفاد قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(8)، فالمؤمنون ههنا خصوص الأئمةّ الشهداء على أعمال البشر يرون الأعمال حين صدورها من الإنسان، وهو معنى الشهادة والرؤية لها في سياق رؤية الله تعالى ومن بعده رسوله (صلى الله عليه وآله) ومن بعده المؤمنون المعني بهم ما ذكرهم تعالى في آخر سورة الحجّ: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاة وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}(9)، فهم من نسل إبراهيم الخليل من قريش، فالإمام نقيب بما فيه من التأهيل لمعرفة أحوال البشر.
كما أنّ العدد اثني عشر له دلالة على الإمامة الاثني عشر، فالعدد هذا ليس اعتباطي بل سنّة إلهية في الأُمم; إذ ورد أنّ أوصياء كلّ نبيّ اثنا عشر، كما ورد أنّه يجري في هذه الأُمّة ما جرى في بني إسرائيل، وورد في الحديث النبويّ(10)المتواتر: “أنّ خلفائي اثني عشر كلّهم من قريش من هذا البطن من بني هاشم”.

5
قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْر فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى ِلأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}(11)، تدلّل الآية على أنّ الشريعة الموسوية فيها حاكمية وإمامة إلهية; لأنّ موسى (عليه السلام) استخلف هارون (عليه السلام) في قومه حاكماً فترة غيابه والتي وهي أربعون ليلة، فكيف لا يستخلف النبيّ (عليه السلام) إماماً وخليفة بعد وفاته؟ مع أنّ أهل سنّة الجماعة أقرّوا أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) استخلف في حياته على المدينة المنوّرة عند خروجه في الغزوات.
قوله تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}(12)، والأُمّة هي المجموعة ذات الهدف الواحد، و(من) تبعيضية أي بعض قوم موسى يقومون بالهداية ويقيمون العدل بالحقّ، ودوام الصفة وإطلاقها يدلّ على العصمة العلمية والعملية; إذ الصفة أوتي بها بصيغة جملتين من الفعل المضارع للدلالة على الاستمرار والشمولية، والتعبير في الجملة الأُولى يدلّ على دوام الفيض العلمي اللدني لديهم، والتعبير في الجملة الثانية يدلّ على دوام البسط والتمكين الإلهي لهم لأسباب إقامة العدل، وهم أئمّة وذلك بهديهم وإمامتهم للناس، فكيف في أُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله)، إذن لا يكون هناك أُمّة منهم أئمّة هدى؟
قوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً}(13)، فاختيار موسى للميقات هو اختياره لهم إلى مقام تشريفي، إلاّ أنّ الله تعالى لم يرتضِ أهلية هؤلاء; لأنّ فيهم السفهاء وهم جهلاء ظالمون، فلا يكونوا مؤهّلين لسماع الوحي والتكليم الإلهي، لقوله تعالى لإبراهيم في إمامة ذرّيته: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، وكما أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كلّف أبا بكر تبليغ سورة براءة، إلاّ أنّ الوحي استدرك وأمره أن لا يبلّغ إلاّ أنت أو رجل منك، وهذه سنّة إلهية ثابتة.

7
فالاختيار والاصطفاء إذن من الله تعالى، فلو كان مع موسى غير سفهاء لكانوا مؤهّلين لسماع الوحي مع أنّهم غير أنبياء، فما تعتقده الإمامية من أنّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) إستمع الوحي ورآه لقوله (صلى الله عليه وآله): “يا عليّ، إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى”(14)، سنّة قرآنية أصيلة، ومن ثمّ أمر الله نبيّه في آية المباهلة انتداب عليّ لشهوده الوحي ومسؤوليته لهذه الشهادة هو وزوجه البتول وشبليه سيدا شباب أهل الجنّة، حيث كانوا أصحاب الكساء يشاهدون الوحي عياناً، فحمّلهم الله تعالى مسؤولية الشهادة في المباهلة كشركاء تابعين للنبيّ (صلى الله عليه وآله) في الحجّة الإلهية كما في قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّهِ} وهو الوحي النازل، {وَيَتْلُوهُ} أي يتبعه وتابع له، {شَاهِدٌ} أي يشهد الوحي عياناً ويشهد البينة من الربّ، {مِنْهُ} أي من أهله وبمنزلة نفسه كما في {أَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ}.
وقد يُعترض بأنّ كلّ مؤمن يشهد بوحدانية الله وبرسالة النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فلماذا خصوص الأمر الإلهي في آية المباهلة بأهل البيت (عليهم السلام) بأن يشهدوا للنبيّ والرسالة دون غيرهم؟ أليس قد شهد خزيمة بن ثابت للنبيّ (صلى الله عليه وآله) بما لم يره عندما نازع الأعرابي النبيّ (صلى الله عليه وآله) في عين مال فأمضى النبيّ شهادته عن بينة بمنزلة شهادة رجلين؟ وذلك ليقين خزيمة بصدق النبيّ (صلى الله عليه وآله).
وللإجابة عن هذا الاستفسار: أنّ شهادة المؤمن حيث كانت تستند إلى إدراك المعجزة الإلهية على نبوّة النبيّ (صلى الله عليه وآله) فهي إخبار قطعي لا ظنّي، بل هي إخبار عن عيان; لأنّ المعجزة كما هو الصحيح عندنا عيان للقدرة للغيبة يتكشّف شيء من ستار الغيب، فإدراك المعجزة عيان لبروز القدرة الغيبية الإلهية.
لا كما عرفها المتكلّمون من أنّها برهان فكري في الاستنتاج الذهني ومن نمط العلم الحصولي، بل هي علم حضوري في الأساس، وإن كانت معجزة علمية أو تكوينية تستند إلى الحسّ في مقدّماتها وإلى المعاني الذهنية، إلاّ أنّ أبصار الإعجاز المترتّب عليها هو عيان وجداني للقدرة الخارقة الغيبية، ومن ثمّ تكون مسؤولية المؤمن الإقرار والشهادة والإخبار القطعي بما أدركه عياناً، إلاّ أنّ هذا الإدراك لمّا كان محدوداً وبنحو إجمالي كانت المسؤولية الملقاة على كاهل المؤمن هي متناسبة بقدر ذلك من افتراض الإيمان عليه والتسليم والطاعة، بل والقيام في الواجبات في الشريعة.
وهذا بخلاف من يحمل أن يكون قوله وشهادته سنداً بنفسه يقينياً قطعياً لحجّية نفس الرسالة والنبوّة ليضاهي قوله وشهادته المعجزة في إثبات الرسالة، فإنّ مثل ذلك الشخص والأشخاص لا ريب ولابدّ أنّهم يتمتّعون بعيان حضوري لكلّ تفاصيل الوحي، ويشاكلون ويشاركون النبيّ (صلى الله عليه وآله) مع تبعيتهم له في العلم والعيان لما ينزل على النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ومن ثمّ خُصّوا بهذه المسؤولية دون غيرهم، وكانت لهم أهلية ذلك دون بقية كبار الصحابة ودون زوجات النبيّ، كما تقدّم في اختصاص عليّ بتبليغ سورة براءة دون أبي بكر; بأمر الله النازل: لا يبلّغ عنك إلاّ أنت أو رجل منك، فكانوا على درجة من الصفات توجب اليقين من شهادتهم على حذو اليقين الحاصل من المعجزة.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا}(15)، فالوزارة للنبوّة جعل إلهي، لذا فقوله (صلى الله عليه وآله): “أنت منّي بمنزلة هارون من موسى”، بمعنى الخلافة والوزارة والإمامة، وكون هارون وزيراً غير كونه نبيّاً.

3
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة النحل 16: 68.