الرئيسية / بحوث اسلامية / الحسين في الفكر المسيحي – انطوان بارا

الحسين في الفكر المسيحي – انطوان بارا

ضمير الأديان إلى أبد الدهور – الدكتور أسعد علي إنّ للألم سرّاً يتّصل بينبوع السّرور ، بل يتدفّق منه كما ينشق ( الأمل ) من حروف ( الألم ) بقليل من حركيّة التركيب والتواصل بين الحروف ( ألم = أمل ) . هذا على مستوى التركيب اللغويّ الواضح .

أمّا على مستوى الرّوح الواسع كالرّيح فظاهر المظاهر خفيّ السّرائر يكتشفه أهل الذّوق في سِير الأنبياء والشهداء والصّالحين .

ـ 2 ـ

في الإنجيل ـ والإنجيل يعني : البشارة ـ صلّى السّيد المسيح (عليه السّلام) عشيّة تسليمه ، وناجى الله قائلاً : )) إن كان يُستطاع فَلتعبُر عنّي هذه الكأس ، لكن ليس كمشيئتي بل كمشيئتك ؛ أمّا الرّوح فمستعدٌّ ، وأمّا الجسد فضعيف ، ولكن كيف تتمّ الكتب


الصفحة (8)

فإنّه هكذا ينبغي أن يكون ؟ (((1) .

ضعفُ الجسد مصدر الألم ، واستعداد الرّوح لتنفيذ المشيئة العليا ، يصلها بينبوع السّرور الخالد .. فلا موت .. والنّصر الحقيقيّ لا يكون إلاّ انسجاماً مع التوجّه الينبوعي الطاهر .. وهل ينتصر مَن يخسر نفسه ولو ربح العالم(2) ؟

بهذا المقياس الانتصاري ، ماذا يقول العالَم بثورة الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ؟ هل انسجم الحسين مع التوجّه الينبوعيّ الطّاهر ، فكان منتصراً في شهادته وشهادة آل بيته ؟

فطن المؤرّخون والباحثون لرمزيّة الثورة الحسينيّة ، واستعذبوا تكرار السّيرة الحسينيّة ؛ استلهاماً لها واستقواءً بروح صاحبها(3)

ـ 3 ـ

يقول الباحث الشابّ السيّد أنطون بارا في بحثه الجديد ( الحسين في الفكر المسيحيّ ) ما خلاصته : لم يسجّل التاريخ شبيهاً لاستشهاد الحسين في كربلاء ، فاستشهاد الحسين وسيرته عنوان صريح لقيمة الثبات على المبدأ ، ولعظمة المثاليّة في أخذ العقيدة وتمثّلها .

ــــــــــــــــ

(1) متّي 26 / 40 ـ 55 .

(2) المصدر نفسه 16 / 26 ، فإنّه ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه ؟

(3) يلاحظ ما كتبه عباس محمود العقّاد ، والشيخ عبد الله العلايلي ، والشيخ محمّد مهدي شمس الدين ، وكثيرون غيرهم .


الصفحة (9)

لذلك غدا حبّ الحسين الثائر واجباً علينا كبشر ، وغدا حبّ الحسين الشهيد جزءاً من نفثات ضمائرنا .

فقد جاءت صيحة الحسين نبراساً لبني الإنسان في كلّ عصر ومصر ، وتحت أيّة عقيدة انضوى ؛ إذ إنّ أهداف الأديان هي المحبّة والتمسّك بالفضائل لتنظيم علاقة الفرد بربّه أوّلاً ، وبأخيه ثانياً(1) .

إنّ بحث السيّد أنطون بارا بمجمل فصوله(2) يؤكّد حقيقة تجلّت له ، وجسّدها بقوله : فقد كان الحسين (عليه السّلام) شمعة الإسلام أضاءت ممثّلة ضمير الأديان إلى أبد الدهور(3) .

إنّ هذه النتيجة مثيرة للغاية ؛ لأنّها تحكم الماضي والمستقبل ، ومقياس الحُكم فيها ثورة الحسين الواقعيّة .. ثمّ مثاليّة الرّمز في شخصيّته . فكيف يخرج هذا الحكم الذي يبدو وكأنّه انخطاف بالتأثّر حتّى الغلوّ ؟ هل مثّل الحسين ضمير الأديان في الماضي ؟ وهل يمثّله في المستقبل ؟

ـ 4 ـ

ضمير الأديان بمقياس المسيحيّة وصيّتان :

ــــــــــــــــــ

(1) الحسين / 66 .

(2) لاحظ عناوين الفصول : لمَن ثورة الحسين ؟ ثورة الوحي الإلهي ، فداء الحسين في الفكر المسيحي ، معجزات الشهادة ، في ضمير الإسلام ، في المجتمع ، في الزمن ، حكمة اختلاف الشهادتين ، أسباب ثورة الحسين ، قريبة وبعيدة ، في عهد يزيد ، الخروج ، آخر أقوال سيّد الشهداء ومواقفه ، مقتله ، الجزيرة التي أسقطت أميّة ، المسيح هل تنبّأ بالحسين ؟ كربلاء الأرض المقدّسة ، ضمير الأديان أفضال وألقاب ، سمو الشهادة في علم الجمال .

(3) الحسين / 65 .


الصفحة (10)

أحبب الربّ إلهك بكل قلبك وكلّ نفسك وكلّ ذهنك . هذه هي الوصيّة العظمى والاُولى .

أحبب قريبك كنفسك . هذه هي الوصيّة الثانية التي تشبه الأولى . بهاتين الوصيّتين يتعلّق الناموس كلّه والأنبياء(1)

إنّ ضمير الأديان محبّة لله وتحابّ بين العباد ، كما يُفهم من عبارة السيّد المسيح ، فكيف يفهم ضمير الأديان من عبارة القرآن ؟

ـ 5 ـ

آيات المحبّة في القرآن الكريم تؤكّد ضمير الأديان هذا ، فضمير الأديان : محبّة وتحابّ ، ومن صيغ التعبير عن هذه الحقيقة : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )(2) .

قوم الله يحبّونه ، وهو لذلك يحبّهم . فدينه المحبّة ، ولا يقبل قوماً يرتدّون عن هذا الدين ، أو يتقاعسون في تنفيذ أخلاقه التي أشارت إليها الآية : رحمة ، وشدّة ، وجهاداً ، وشجاعة(3) .

هذا ضمير الأديان في الصّيغة الإسلاميّة ، وفي الصّيغة المسيحيّة السّابقة .

ـــــــــــــ
(1) متّي 22 / 38 ـ 41

(2) سورة المائدة / 54

(3) تلاحظ رسالة : عبد الله خلف ، حول حقيقة الحبّ في القرآن ..


الصفحة (11)

إنّها المحبّة والتحابّ ، فكيف مثّله الحسين بن عليّ بالثورة ؟

خير الأمم أمّة هَديت إلى الحقّ فَهَدت به والتزمته بالعدل(1) ، وما الحقّ الذي يجعل الاُمّة خير الاُمم ؟

إنّه الإخلاص لله ، والتعايش بالمعروف المطهّر من المنكر(2) .

النّصوص القرآنيّة تؤكّد مقاييس خير الاُمم بصيغة جديدة لدين الحبّ والتحابّ ، فهل كانت ثورة الحسين تمثيلاً عمليّاً لضمير الأديان هذا ؟

ـ 7 ـ

يقول الحسين (عليه السّلام) : (( إنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي ، اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، فمَن قَبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ ، ومَن ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين )) .

حلّلت هذا النصّ مرّة أمام أصدقاء من الشّعب والعلماء في بيروت سنة 1975 ، وناقشنا مبادئ الأديان المركّزة فيه ، إنّما جاء تركيزها ميدانيّاً ، فالحسين يقرّر واقعة خروجه للثورة ، ويعلن غاية ثورته طلباً للإصلاح في اُمّة

ــــــــــــــ
(1) لاحظ نصوص الآيات الواضحة ( وممّن خلقنا أمّة يهدون بالحقّ وبه يعدلون ) ( سورة الأعراف / 181 ) .
(2) ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ) ( سورة آل عمران / 110 )

( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ…. * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ ) ( سورة الأعراف / 156 ـ 157) .


الصفحة (12)

جدّه الذي بُعث للنّاس جميعاً ، كما يعلن أصول ثورته الإصلاحيّة فهي أمر بالمعروف ونهي عن المنكر . حتّى يكون انسجام الإنسان مع الحقّ ، فما هي دروس الثورة المعروفة في ضمير الأديان(1) والتي أوضحها الحسين بحبر جديد من دم الشهادة المحرّرة المنقذة ؟

ـ 8 ـ

من دروس المعروف الخالدة في الثورة الحسينيّة : الحريّة ، الإيثار ، التطوّر ، الإبداع .

ألا تمثّل هذه الدروس ضمير الأديان إلى أبد الدهور ؟ ولكن كيف نفهمها في عصرنا كما أرادها الحسين بن علي في ثورته ؟

أمثّل لذلك بمقاطع من ( جامعة الحسين ) : أوّل دروس المعروف ) الحريّة ) ، ويقابلها من مظاهر المنكر ( العبوديّة ) ، فكلّ المظاهر التحكميّة أو التسلّطيّة أو الاستغلاليّة ، إنّما هي مظاهر للعبودية وزبانيّة لها ..

وثورة الحسين كانت وثبة شجاعة من أعماق سجون التسلّط في عصره ليخترق جدران العبوديّة مطلقاً هواء الحريّة بالفداء في فضاء الزمان ؛ ليصل الهواء النقي ببعضه ، من ماضٍ وحاضرٍ وآتٍ .. فالهواء حرّ من طبعه الحرّية ولا يستطيع الحياة بين جدران . الهواء الحرّ يُحيي ، والهواء الحبيس يقتل .

ـــــــــــــ
(1) تأمّل التفاصيل في ( جامعة الحسين بن علي ) / 23 ـ 30 وقارن بالآيات المشار إليها ( سورة الأعراف / 156 ، 157 ، 181) ، وسورة آل عمران / 110 .


الصفحة (13)

حرّر الحسين ، بوثبته الفدائيّة ، هواء تتنفّسه النفوس الحرّة الشريفة ؛ لأنّه أكّد عذوبة الموت ، طلباً للإصلاح الإنسانيّ .

وإن كان الموت بهذا المستوى من العذوبة ، فلماذا يستعبد الخوف الإنسان ؟ لماذا لا يندفع كالسّهم الملتهب فيحترق ويخترق ؟

إنّ الاحتراق الخارق حرّية فائقة المذاق . إنّه الشهادة التي تثمر الشهداء ( أشهد أن لا إله إلاّ الله ) عنوان جامعة الشهادة ، أي الحرّية ؛ لأنّ هذه العبارة تعني عدم الخضوع لغير الله والخضوع لله حرّية ؛ لأنّ مَن يخضع لله يتقوّى بقوّته ويتحوّل بحوله .

والشهداء خرّيجو هذه الجامعة التي تصنع الأحرار وتدعو عشّاق الحريّة في كلّ سبيل(1) .

أمّا الدرس الثاني من دروس المعروف فهو الإيثار ، ويقابل الإيثار من مظاهر المنكر الأنانيّة .

فكلّ الأعمال التي تجعل الآخرين وأشياءهم وقفاً لأنا الفرد المتسلّط ، تعتبر من أشواك الأنانيّة أو من ثمارها الشائكة .

وثورة الحسين (عليه السّلام) إنّما هي خروج محبّ من أجل الجماعة ، ولو كان هذا الخروج الثوريّ مودّياً بحياته وحياة أبنائه وبناته ، إنّ الحسين يطلب الإصلاح في اُمّة جدّه ، خير أمّة أخرجت للناس بثلاث مواقفها : الإيمان ، والأمر ،

ــــــــــــــ
(1) جامعة الحسين / 26 ـ 27 طبعة بيروت ، 1975 .


الصفحة (14)

والنهي(1) ، تلك المواقف المكتوبة في التوراة والإنجيل(2) .

لقد آثر الحسين صلاح اُمّة جدّه ـ الإنسانيّة الهادية بالحقّ ، العادلة به(3) ـ على حياته ، فانطلق إلى كربلاء ؛ ليكون عاشوراء ، وليبقى الفداء ضمير الأديان المطوّر والمبدع(4) .

كذلك يفهم درس التطوّر في ثورة الحسين ، وكذلك يفهم درس الإبداع فيها . وبمثل هذا الفهم يكون التحرّر من مظاهر المنكر جموداً وتخلّفاً وتقليداً أعمى .

ـ 9 ـ

أليس ضمير الأديان إيقاظاً مستمرّاً وتذكيراً دائماً بهذه المبادئ التي فداها الحسين في عاشوراء ؟

أليست الحرّية والإيثار ـ كما فهمناهما من ثورة الحسين ـ جوهر وصيَّتَي الإنجيل العظميين ؟

ـ 10 ـ

لقد أثار السيّد أنطون بارا في كتابه ( الحسين في الفكر المسيحيّ ) إثارات تدعو الإنسانيّة المعاصرة إلى مزيد من التأمّل ؛ لمعرفة الحقّ الذي يحرّر كما يقول السيّد المسيح ، فهل يتأمّل المعاصرون(5) ؟

ــــــــــــ
(1) لاحظ نص الآية (110) من سورة آل عمران .

(2) لاحظ نص الآية (157) من سورة الأعراف .

(3) لاحظ الآية (181) من سورة الأعراف .

(4) جامعة الحسين / 27 ـ 28 .

(5) لاحظ مثلاً كيف تنبّأ المسيح بالحسين / 295 وما بعدها. إنّ هذا يثير ما يقال: في نبوءة سليمان ومن قبله نوح ، فما معنى إجماع الأنبياء على هذا ؟


الصفحة (15)

دمشق 21 / 5 / 1979

24 ج 2 سنة 1399 هـ

د . أسعد علي

 

الصفحة (16)


الصفحة (17)

مقدّمة الطبعة الثانية

سماحة الكاتب الإسلامي

السيّد محمّد بحر العلوم

بسم الله الرّحمن الرّحيم

أمرٌ رائع جداً أن يلتقي الفكران الإسلامي والمسيحي في قضيّة من أهمّ القضايا العقائديّة ، وينتهي بهما المطاف إلى نتيجة واحدة هي الحق والعقيدة ، والاستجابة لنداء الرسالة ، والنضال في سبيلها بإيمان وشموخ .

فالمصدر لهذين الخطّين واحد ، ومسارهما التاريخي لن يختلف ، فمن الله تلك الرسالة السماويّة قد بعثت لمكارم الأخلاق تهدي الاُمّة وتنقذها من الجهالة والظلم .

فكانت رسالة المسيح (عليه السّلام) ، وكانت رسالة محمد (صلّى الله عليه وآله) رسالتين هزّتا ضمير العالم ، وأجّجتا فيه كلّ مشاعل الأمل ، وأثّرتا فيه العطاء .

ولابدّ أن تكونا كذلك ؛ لأنّهما رسالة السماء لإنقاذ البشريّة ، فقد كان المجتمع في حينه ولا يزال بحاجة إلى هذا النبع الصافي لتزهر التربة بكلّ أنواع الخير: خلقاً ، فضيلةً ، كرامةً ، وعيشاً رغيداً من أجل رفعة الإنسان وإبراز طاقاته الخلاّقة في بناء مجتمع صالح .


الصفحة (18)

ولم يكن الإمام الحسين (عليه السّلام) إلاّ ذلك الامتداد الثرّ لرسالة جدّه رسول الإنسانيّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، ومن أجل تقويم تلك الرسالة نهض بموقفه المضحّي لتصحيح مسار الاُمّة ، الذي انحرف نتيجة تحرّك الفئة الضّالة لاجتثاث تلك القيم الإنسانيّة التي جاء بها محمّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .

وكان تماماً ذلك الموقف الذي برز بقيادة المسيح (عليه السّلام) من قبل ؛ لأجل تدعيم كلمة الحق في مجتمع تغلغل فيه الجهل ، وانتشر فيه الظلام ، فكان ما كان من تعنّت وتطاول على كرامة الرسالة السماويّة . فكادوا أن يغتالوا الشمس والحق ، ولكنّ الله رفعه إلى سمائه حماية لإنسانه الخالد . هذا هو المسيح .

والحسين (عليه السّلام) بمسيرته الفدائيّة قد صافح السّيف ، وعانق الرّماح ، وأعطى القرابين تلو القرابين من أجل عقيدته ، وبذلك يكون قد نال القسط الأوفر من الفداء والتضحية من يوم إسماعيل حتّى عهد المسيح ؛ لذلك لم تحظِ ملحمة إنسانيّة في التاريخين القديم والحديث بمثل ما حظيت به ملحمة الاستشهاد في كربلاء من إعجاب ودرس وتعاطف . هكذا يقول الكاتب الفاضل ( أنطون بارا ) في كتابه ( الحسين في الفكر المسيحي ) ، ويصفها بأنّها الاُولى والرائدة والوحيدة والخالدة في تاريخ الإنسانيّة مذ وجدت وحتّى تنقضي الدّهور ، إذ هي خالدة خلود الإنسان الذي قامت من أجله .

إنّ العقيدة تصهر الإنسان لدرجة تجعله وحدة متلاحمة مع معاني الكمال والسمو ، بحيث لا يمكن الفصل بينهما ولو بحدود شعرة .

وليس كبيراً على الحسين بن علي (عليه السّلام) رائد الإنسانيّة ومَثَلها الأعلى ، أن يكون صاحب ثورة أُولى ورائدة ووحيدة وخالدة ، بعد محمّد وعلي (عليهما الصّلاة والسّلام) .


الصفحة (19)

والحسين من محمّد كالرّوح من الجسد ، والحسين من علي ولده الذي حمل كلّ خصائصه ومقوّماته الرائعة منذ أول يوم لامست عيناه نور الوجود ، فالعقيدة مصبّ زاخر يبدأ من محمّد لعلي ثمّ الحسين ، فإذا كان في هذا الامتداد ، فهو من الرسالة الإسلاميّة ذلك اللبّ الأصيل ، وإذا كان ذلك اللّب الرسالي الإسلامي الأصيل ، فهو لا يختلف عن اللبّ الرسالي المسيحي ، المسيح .

إنّها حلقة واحدة وإن تطاولت العصور ، فهي من الله دعوة لهداية البشر .

ويمرّ زمان ، ويأتي مَن تهمّه هذه الحقيقة ليشبك الروافد الرساليّة في مصبّ واحد . فإذا كان الاُستاذ جورج جرداق قد كتب بالأمس عن النبعة الصافية الإمام علي لعقيدة السّماء ، ليؤكّد على هذا الارتباط بين المسيحيّة والإسلام ، جاء اليوم الكاتب الأديب ( أنطون بارا ) ليمدّ الشراع ويسير نحو هذا المصبّ ، ويكتب في ثورة الحسين من خلال مظلّة الفكر المسيحي ، فشكراً وألف شكر لمَن يقوم بتوثيق الأواصر ، وتدعيم المحبّة والاُلفة بين أنصار السّماء .

والكتاب حاز على إعجابي من خلال قراءتي له ـ وإن كنت أقف منه في بعض النقاط موقف الملاحظ ـ ولكن لا أرى المجال لذكرها ؛ نظراً لعدم تأثيرها على شعوري بقيمة الكتاب اُسلوباً ومضموناً .

وأخيراً ، أرجو للكاتب كلّ الخير والموفّقيّة في محاولته المبدعة ، مبتهلاً إلى الله أن يدفع لنا بالنتاج تلو النتاج في هذا المضمار ، وهو ولي التوفيق .

محمّد بحر العلوم ـ الكويت

 23 / شوال ـ 1399 هـ ـ 14 / 9 / 1979 م


الصفحة (20)


الصفحة (21)

مقدّمة المؤلِّف

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الثورة التي فجّرها الحسين بن علي (عليه وعلى أبيه أفضل السّلام) في أعماق الصدور المؤمنة والضمائر الحرّة ، هي حكاية الحريّة الموءودة بسكين الظلم في كلّ زمان ومكان ، وجد بهما حاكم ظالم غشوم ، لا يقيم وزناً لحريّة إنسان ، ولا يصون عهداً لقضيّة بشريّة ، وهي قضيّة الأحرار تحت أيّ لواء انضووا ، وخلف أيّة عقيدة ساروا .

هذه الثورة التي استلهمتها عنواناً لمؤلَّفي هذا في طبعته الاُولى ، كان حريّاً بها أن تظلّ هكذا عنواناً للطبعات التالية ، ما دام الحديث عنها ( كثورة ) يعني الحديث عن شخصيّة مفجّرها (عليه السّلام) ؛ إذ إنّها تمثّل خلاصات ونتائج أفكار وأفعال وتحرّكات رافع لواءها .

وبمعنى أدق هي مرآة لشخصيّته وترجمة لمبادئه ومُثُله ، وأيّ تطرّقٍ لها كثورة هو تطرّقٌ لشخصيّة الحسين (عليه السّلام) ، وفي المقابل فأيّ تطرّقٍ لشخصيّة الحسين هو تطرّقٌ لثورته . فتكون بذلك هذه الثورة هي الوجه الآخر لشخصيّة


الصفحة (22)

صاحبها ، وتكون شخصيّة صاحبها هي الوجه الآخر لها كثورة .

وقد رأى بعض المتنوّرين فكرياً بأنّ سطور الكتاب تحدّثت بإسهاب عن شخصيّة الحسين (عليه السّلام) ، وحلّلت أفكاره ومبادئه وخططه وأهدافه المرحليّة الآنية منها والمستقبليّة .. فكانت الشخصيّة هي المبرّزة بما تمثّله من محصّلة المبادئ ، إذ منها انطلقت الأفكار والمُثُل ، وفيها اختمرت المبادئ ، وفي أعماقها ربضت كلّ الموحيات التي أبرزت إلى النّور ما ظهر سواء ما كان منه قولاً أو فعلاً أو مبدأ أو ثورة ، كفكرة وكفعل وكمعاناة وكهدف آني ومستقبلي ، وبالتالي كخطوة لها طابع مادي بطولي يتّصل بجانبه الماديّ هذا بما تعارف عليه البشر من أفعال ماديّة بشريّة صرفة . وفي هذا علّة الثورة التي جمعت كلّ الممكنات في ثناياها ،الممكنات الروحيّة ، والزمنيّة ، والاجتماعيّة ، والماديّة البطوليّة .

لذا فمن منطلق هذه الرؤية الفكريّة لمجمل شخصيّة الحسين (عليه السّلام) تكون ثورته جزءاً من تكوّن هذه الشخصيّة ، ومن ثمّ فهي مرحلة من مراحل سير مكوّناتها وتأثيراتها ، بما تحمله من أفكار ومبادئ ، حيث بدأت وانتهت في إحدى مراحلها ، واستمرّت في سيرها خالدةً إلى أبد الدهور في مراحلها الاُخرى .

فكان حريّاً ، وقد تناولنا شخصيّة الحسين بما احتوته من أفكار ومبادئ وأعمال ـ والثورة جزء منها ـ أن تكون هذه الشخصيّة هي محور البحث ، وعنوان السيرة والثّوره معاً ، واعتبار الثّورة جزءاً من الشخصيّة الشاملة ككل ممّا يجدر معها أن تكون الشخصيّة هي الواجهة ، لا الثورة التي هي جزء من مقوّمات ومحصّلات الشخصيّة . وبالتالي يكون الحسين (عليه السّلام) كممثّل لهذه الشخصيّة ذات الخصائص والميزات القدسيّة والبشريّة الفريدة في بابها . عنوان ثورته ، لا ثورته الخالدة هي عنوان شخصيّته العظيمة ، ممّا يجعل من عبارة ( الحسين في الفكر


الصفحة (23)

المسيحي ) التسمية الأكثر جدارة في هذا المعنى .

وإذا كنّيت التسمية بشخصيّة الحسين دون ثورته في الشقّ الأوّل من عنوان الكتاب ، فالأحرى ـ كما طالَب البعض ـ أن تحلّ في الشقّ الثاني منه كلمة ( إنساني ) بدل ( مسيحي ) فيصبح العنوان معها ( الحسين في الفكر الإنساني ) .

وهي فكرة صائبة ، وتسمية في محلّها ؛ على اعتبار أنّ ثورة سيّد الشهداء كانت ثورة إنسانيّة في مفرد ميزاتها وفي مجملها ، وأخذها من وجهة نظر مسيحيّة بما يخدم البحث المقارن ـ الذي هو موضوع الكتاب ـ يصلح تقديمه كمثال على إنسانيّة هذه الثّورة ، أكثر ممّا يصلح قصره على هذه الوجهة .

وبأخذنا لها من زاوية الفكر المسيحي نكون وكأنّنا ننظر إليها من زاوية الفكر الإنساني ككل ؛ لأنّ الفكر المسيحي ما هو إلاّ جزء من الفكر الإنساني ؛ ولأنّ المسيحية ما هي إلاّ مرحلة من مراحل المدرسة الإلهيّة التي تكوّن الدين الواحد . هذا الدين الذي جاء للبشريّة عبر مراحل متعدّدة ، فكان الدواء لعلَلِها الاجتماعيّة والزمنيّة ، اتّخذ عبر مراحل التاريخ منحىً متدرّجاً فكان الطابع الغالب على الرسالة ( الموسويّة ) طابع الإله القومي ، حيث نشأت فكرة شعب الله المختار . وعلى الرسالة ( العيسويّة ) طابع الإله العالمي غير المتحرّر من المادّة وهذا ما تشير إليه مسألة الاُبوّة والبنوّة والتّثليث . بينما وصل الخط البياني للتوحيد في الرسالة المحمديّة إلى الذروة ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ )(1) .

وهكذا كان الإسلام خاتم الديانات ، والرسالة المحمّديّة خاتمة النبوّات : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِيناً )(2) . لذا

ــــــــــــ
(1) سورة الإخلاص / 1 ـ 4 .

(2) سورة المائدة / 3 .


الصفحة (24)

فمنطق الإيمان الكلّي بالدين الواحد يقضي بألاّ يصحّ إسلام المُسلم حتّى يتنصّرن ، ولا تصحّ نصرانيّة المسيحي حتّى يتأسلم ، فدين الله واحد وهدفه صناعة الإنسان .

من هذا المنطلق تكون رؤيا الفكر المسيحي لشخصيّة الحسين وثورته هي ذات رؤيا الفكر  الإنساني لها ، وما تحديد التسمية في عنوان الكتاب إلاّ نوع من إغناء البحث ، وذلك بحصره ضمن حدود يمكن الاستشهاد بها ومقارنتها ، والانطلاق منها بشكل مستوف ؛ لذا فإنّ في بحث رؤيا الفكر المسيحي لثورة الحسين دلالة كافية على إنسانيّة هذه الثورة ، ممّا لا يجعل بقاء الشقّ الثاني من العنوان ( كما هو ) أمراً يدعو إلى الدهشة ؛ فالفكر المسيحي هو قاسم مشترك للفكر الإنساني ، وجزء لا يتجزأ منه ، يشترك معه في سداه ولحمته .

وفي تطلّعنا إلى ثورة سيّد الشهداء من كوّة هذا الفكر نكون كمَن يتطلّع إليها من كوى الفكر الإنساني كلّه ؛ لأنّ هذه الثورة إنسانيةٌ أوّلاً وآخِراً ؛ ولأنّ الإنسانيّة جمعاء تشترك في دين واحد يرتكز على ثوابت إلهيّة واحدة ، لا تتبدّل بتبدّل الديانات ، وبأساليب الإيمان بها ، هذه الأساليب التي تدخل في المجال الحيوي للعقل البشري : ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ )(1) .

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر ، فإنّ أوّل ما يتبادر إلى ذهن القارئ ـ سواء أكان مسيحياًّ أم غير مسيحي ـ لدى قراءته للكتاب ، هو كيف أمكن الربط بين ثورة الإمام الحسين ، وبين فكر أهل الكتاب ؟ إذ لم يسبق هذا الربط أي اهتمام

ـــــــــــــــ
(1) سورة الشورى / 13 .


الصفحة (25)

فكري مسيحي بعَلَم من أعلام الإسلام ، كي يأتي هذا الكتاب ليكمل اهتمامات سابقة بهذا الصدد .

وكان مكمن الغرابة في كون مؤلّف الكتاب الفقير لله ( مسيحياً عربياً ) فكانت هذه الصفة مكمناً إضافياً لجدّة البحث ، ودافعاً للاطلاع عليه حتّى آخر سطرٍ منه ؛ بهدف الوقوف التامّ على ما يمكن أن يضيفه هذا الفكر على ملحمة استشهاد الحسين من أبعاد جديدة .

و( الأبعاد الجديدة ) في رأي البعض ، هي في النظر لملحمة كربلاء من وجهة نظر مسيحيّة لكاتب ميسحي عربي ، لا هو بمسلم كي يقال: بأنّه متأثّر عاطفياً بالفاجعة التي وقعت فوق ثرى الطّف ، ولا هو بمستشرق صاحب فكر غربي ينظر إلى التاريخ الإسلامي نظرته إلى أيّة مرحلة تاريخيّة اُخرى ، لا تخشعه هذا إلاّ الجانب التاريخي السّردي ، مُهْمِلاً ـ عن عمدٍ أو جهلٍ ـ الكثير من المقوّمات الروحيّة والإلهيّة للحركة من جانبها العلوي القدسي ، مجرّداً إيّاها من أهمّ ما تملك ومن أكبر أهدافها التي هدفت .

فالفكر المسيحي العربي يقدّس آل البيت (عليهم السّلام) كما المسلم ، وفي أخذه لأيّة حادثة تاريخيّة تختصّ بالعالم الإسلامي الذي يعيش فيه ، يهدف إلى الحيدة ، مبتغياً الواقع ، باحثاً عن المنطق والرؤى العقلانيّة السليمة ، وهي صعوبة تتكاثف على قلم غير المسلم ، الذي تحكم حيدته اعتبارات كثيرة ، ولا يحتمل الزلل لأقلّ هفوة ، ولا يقبل منه الشطط أو التطرّف ، ولا تسمح له الأدبيات الفكريّة بإبداء ما يخالف الحقيقة ، وما ينفر منه العقل الآخر الذي يخاطبه .

وفي هذا حجّة ، وللحجّة سبب ، بل جملة أسباب ، منها أنّ الفكر المسيحي العربي يستمدّ تراثه الفكري من تراث عربي إسلامي ، ويتعرّض لنفس التيّارات


الصفحة (26)

الفكريّة والروحيّة التي يتعرّض لها ، ويعي كلّ حادثة تاريخيّة ؛ نتيجة تشرّبه لها في المدرسة ، أو زيارته لأماكنها ، أو لاتصال ظواهرها به . سواء في الإنسان أو الجماد أو التراث ، بينما لا يملك الفكر المسيحي الغربي الخشية والإحساس الورع بقيمة الشخصيّة القدسيّة التي يتناولها ، فإذا ذكر النّبي محمد لا يهمّه كثيراً وضع كلمة (صلّى الله عليه و آله) وإذا ذكر أحداً من آل البيت ، لا يؤثمه عدم وضع كلمة (عليه السّلام) .

هذا الفارق بين التمثّل القدسي وعدمه ، فارق له أهميّته في أخذ الحادثة التاريخيّة للعالم الإسلامي ، وهو فارق كبير في صغره المتناهي في ميزان النتيجة ، وصغير في انعكاساته الفكريّة في ميزان الكيفيّة .

وشتّان بين كبر خطر النتيجة وبين تفاهة صغر الكيفية خلال مسار الاُمور .

هذه الغرابة ، وهذا التوقّع والترقّب لِما هو محتمل في جدّته عوامل نفسيّة وفكريّة من الممكن أن تعتمل في ذهن أي قارئ حيال أثر ما يربط بين الفكر الإسلامي وبين فكر أهل الكتاب .

وبالمقابل فإنّ ما يشبهها بشكل أو بآخر يعتمل أيضاً في ذهن المفكّر المسيحي الذي يتناول فكرياً عَلَماً من أعلام الإسلام ، ويدفعه للتساؤل عن مسبّبات هذه الغفلة التي يرتع فيها الفكر الإسلامي ، ممّا يدمغه بصفة التقصير عن دراسة شخصيّة مثل شخصيّة الحسين ، دراسة وافية منصفة ، وتقديمها للعالم المسيحي الغربي والعربي ، كواحدة من أنصع الصفحات بياضاً في تاريخ الإسلام .

فشخصيّة الحسين محيط واسع من المُثُل الأدبيّة والأخلاق النبويّة ، وثورته فضاء واسع من المعطيات الأخلاقيّة والعقائديّة . ولعلّنا نتمثّل أهمّ سمة من سمات العظمة في هذه الشّخصيّة ، من قول جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) : (( حسين منّي وأنا من


الصفحة (27)

حسين )) . فارتقت إنسانيّة السبط إلى حيث نبوّة الجَّد (( أنا من حسين ))(1) ، وهبطت نبوّة الجَّد إلى حيث إنسانيّة السبط (( حسين منّي )) ، وفي هذا المعنى يقول السيّد الطباطبائي :

غرسٌ سقاه رسولُ الله من يدهِ       وطاب من بعد طيبِ الأصل فارعُهُ

وإذا كان العالم المسيحيّ الغربيّ له مآخذ على الإسلام ، فإنّما ينظر إلى هذه المآخذ من كوى مثالب عهود بني اُميّة ، والتشويهات التي استهدفت اُمّة الإسلام فيما بعدها ، حيث نظر الحكّام إلى الدنيا والمُلك بالشكل الذي صوّره معاوية بعد احتلاله الكوفة ، إذ قال : إنّي لم اُقاتلكم لكي تصلّوا أو تصوموا ، بل قاتلتكم لكي أتأمّر عليكم .

هذه النظرة المغلوطة من زاوية المادّيات الصرفة إلى أمور الدنيا وقضايا الحكم كان أبو سفيان بن حرب قد نظر من خلالها يوم فتح مكّة ، إذ قال للعباس عمّ الرسول جملته الممثّلة خير تمثيل للمبدأ النفعي الذي كان مسيطراً على العقول آنذاك : لقد أصبح مُلك ابن أخيك عظيماً . فكان في قولته لا يرى من جهاد الرسول الكريم سوى ذلك المغزى الدنيوي الغلبة والعظمة ، أمّا تعبيد الخلق للخالق ، وتنفيذ إرادة الله في خلقه فلم تبن لناظره ، ومثلُه لا يفهمها ، فما يعقلها إلاّ العالمون .

هذا هو المظهر الخارجي لجوهر الصراع الذي استشرى بعد ذلك بين أهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وبين ذريّة أبي سفيان . أهل البيت (عليهم السّلام) يرون أنّ الخلافة مركب يقود

ـــــــــــــ
(1) انظر الإمام الحسين ـ الشيخ عبد الله العلايلي / 290 .


الصفحة (28)

إلى الآخرة وفق أحكام الله ، وبنو اُميّة يتطلّعون إليها باعتبارها مركباً يقود للجاه والسّلطان ، وانقياد الدنيا وفق أهواء النّفس ومطالبها . وبين أحكام الله وبين أهواء النفس حدث الانقسام المريع في جسد أمّة الإسلام ، والتفّ الأبناء حول الرمز الأقرب لِما تهيّأت له أنفسهم : ( مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ )(1) .

وهكذا ، فالفكر المسيحيّ الغربي لا يعي هذا التناقض الصارخ بين الحق المقهور وبين الباطل المنتصر ، ومتى فَقَد هذا الوعي تجرّدت الحوادث التاريخيّة من أهمّ عناصرها ؛ لذا فقد رأى المستشرقون في حادثة الطفّ ـ انطلاقاً من هذا التجريد ـ موقعة عسكريّة تغلّبت خلالها الكثرة على القلّة ، والتنظيم على الارتجال ، غير ملتفتين إلى اختيارات العناية الإلهيّة وسرّها وتدخّلها في هذا الحدث الجذري في المسيرة الروحيّة والتاريخيّة لاُمّة الإسلام ، ولدين الله الكلّي الوحدانيّة .

من هنا يبرز دور الفكر المسيحي العربي في تمثيل الحياديّة الصرفة ، محلاّ الرؤية الموضوعيّة ، محلّ تلك العاطفيّة منها ، والمتجنّية على السواء .

لكن هذا الدور تحكّمه حساسيّة فائقة حيال آلاف الشروحات والتفسيرات للحادثة ، وكثرة الأسانيد واختلاف الروايات ، وهنا مكمن الصعوبة حيث يتجلّى دور البصيرة النافذة للقيام بعمليّة غربلة حذرة لمئات من هذه الروايات , واختيار للأسانيد الموثوقة ، ثمّ القيام بعمليّة تكريسيّة نهائيّة لا تقلّ صعوبة عن عمليّتي الغربلة والانتقاء ، يلعب فيها الحدس والخلفيّة الثقافيّة والرؤية العقلانيّة المحايدة للكاتب أدوارها قبل أن يقرّب قلمه ويؤشّر على إحدى الروايات الأقرب إلى العقل ،

ـــــــــــــ
(1) سورة آل عمران / 153 .


الصفحة (29)

والمنسجمة مع الحدث العام ، والمتناغمة مع إيقاع الأحداث ؛ لذا فإنّ معادلة ( كل ما يقبله العقل مقبول ) تظلّ رافعة أشرعتها خلال البحث ترقب تحرّكات القلم ، وترصد حياديّته ، بل وترغمه في أحايين كثيرة على نزع حالات شطط وتطرّف لإبراز موضوعيّة الأحداث ، والحفاظ على حياديّة العمل .

وإذا كانت الحساسيّة التي تواكب قلم الكاتب غير المسلم لدى تناوله لسيرة عَلَم من أعلام الإسلام مضاعفة ، فإنّها سوف تتضاعف أيضاً لدى القيام بعمليّة الربط بين المواقف المتجانسة والأهداف المشتركة بين نبيٍّ ونبي ، وشهيدٍ وشهيد . سيّما إذا لم يسبق هذا الربط ربط مماثل يقرب منه أو يبعد ، يشبهه أو يكاد ، فتكون البداية في هذا الصدد محطّ اهتمام الكثيرين ، ويكون البادئ محل هذا الاهتمام أيضاً ، مضافاً إليه النقد والاستحسان أو الاستهجان .

ولعلّ هذا المؤلّف لم يسلم من هذا النقد ، كما لم يحرم من هذا الاستهجان والاستحسان ، شأن ، شأن أي عمل طابعه الجدّة . ولكن العامل المتّكل على الله في عمله ، لا يعدم الإحساس بالرضا عن عمله مهما قوبل بالنقد ، إيجابياً كان أم سلبياً : ( وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )(1) .

أسوق هذه التهيئة البسيطة في متن هذه المقدّمة للكتاب ، والتي لا يصحّ سَوق مثلها في المتن بعد تجاوز بداية المقال ، لأصِلَ إلى مدخل الفصل الأهمّ من الكتاب ، والذي يمثّل ( الحسّاسيّة ) التي عنيتها تواكب قلم الكاتب ، فأشير إلى أنّ فصل ( المسيح هل تنبّأ بالحسين ؟ ) قد أثار اهتمام الكثيرين ، واستأثر دون الفصول الاُخرى بجلّ النقد والاستحسان وكذلك الاستهجان ، ودارت حوله

ــــــــــــــــ
(1) سورة التوبة / 105 .


الصفحة (30)

المناقشات والتساؤلات ، سيّما حول خطبة عيسى في تلاميذه قبل توجّهه للموت ، وما عنته في كلماتها القليلة من معانٍ عمدت إلى تفسيرها بالشكل الذي ألهمته ، وبالكيفيّة التي ترمي لها هذه المعاني في حقيقتها ، مستنداً في ذلك إلى حجج دامغة أوردتها في متن الفصل المذكور إيّاه ، وسأضيف لها بعض التفاسير والتحليلات الاُخرى ضمن هذه المقدّمة : قال عيسى في إنجيل يوحنا(1) : (( إنّي ذاهب الآن إلى الذي أرسلني وما من أحد منكم يسألني : إلى أين تذهب ؟ غير أنّي أقول لكم الحق : من الخير لكم أن أمضي ، فإن لم أمض لا يأتكم المؤيّد ؛ أمّا إذا مضيت فأرسله إليكم ، ومتى جاء أخزى العالم على الخطيئة والبر والحكم )) .

وقد تركّزت المناقشات والتساؤلات حول ثلاث نقاط :

اُولاها : مَن المقصود بالمؤيّد . أليس الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله) هو الجدير بهذا القصد ؟
وثانيها : الحسين شهيد وليس بنبي فكيف يتحدّث عيسى عنه ، بينما لم يلمح إلى قدوم الرسول (صلّى الله عليه وآله) من بعده ، مع أنّه نبي ؟

وثالثها : لقد فسّرت كلمة المؤيّد في الإنجيل تحت معنى ( الروح القدس ) فكيف

ــــــــــــــ
(1) يوحنا 16 / 5 ـ 7 ـ 8 .


الصفحة (31)

احتملت اللفظة هذا التأويل المغاير الذي لم يقرأ إلاّ في هذا الكتاب ؟

وهنا يجدر بنا الوقوف لتوضيح أمر لطالما تعامى عنه الغلاة المتطرّفون ، ولازال يشكّل عقبة كأداء أمام منوّري القلب والفكر من العقلاء ، أمام انطلاق أفكارهم وقناعاتهم المؤمنة ، بأنّه ما من نبيّ غلا وتنبّأ مبشّراً بقدوم نبي بعده ، وما من شهيد إلاّ وتنبّأ أيضاً بالشّهيد الذي سيليه ، ولم يكن عيسى (عليه السّلام) ليشذّ عن هذه الحكمة الإلهيّة ، لا تغافلاً عن تبشير الناس بقدوم النبي محمد (صلّى الله عليه وآله) ولا كرهاً لهذا التبشير أو هذا القدوم ، ( حاشا لله ) وعيسى رسول المحبّة والسّلام ، والمبشّر بالحبّ حتّى للأعداء والمبغضين ، فكيف إذا كان الأمر يتعلّق بنبيّ بعده ختم الله به الأنبياء وبرسالته الديانات ، وكان على هذا القدر العظيم من الشمائل النبويّة والخُلق الكريم ؟

وللإجابة على مجمل التساؤلات يستحسن إعطاء نبذة عن نشأة الأناجيل الأربعة ، والتي سار ويسير على تعاليمها العالم المسيحي ، ولنحدّد أكثر ( المسيحي الكاثوليكي ) التابع لسلطة البابا في روما .

فالإنجيل المقدّس عرّبت لفظته إلى العربيّة من كلمة EUAYYEAIOV اليونانيّة ، وهي تعني ( البشرى الحسنة ) ثمّ أطلقت على الكتاب الذي يحتوي هذه البشرى ، وهو مجموع الأسفار الإلهيّة التي كتبت بإلهام الروح القدس خلال الحقبة الزمنيّة الممتدّة من القرن السادس عشر قبل المسيح حتّى آخر القرن الأوّل بعده ، وإن كانت لفظه ( إنجيل ) هي كتاب القرن الأوّل قبل المسيح . فإنّ كتاب القرون التي سبقت

ـــــــــــــ
(1) تمهيداً وما بعدها العهد الجديد ، المطبعة البولسية .


الصفحة (32)

السنة الميلاديّة ، دعي بـ ( الكتاب المقدّس ) وهو ينقسم إلى عهدين : ( القديم . والجديد )(1) الأوّل يحتوي على الأسفار التي اُنزلت قبل السيّد المسيح وعددها 46 سفراً ، وتنطوي على تاريخ وشعر وحكمة ونبوّة ، والآخر يتضمّن الأسفار التي اُنزلت بعد ظهور المسيح ، وفيها خلاصة حياته المقدّسة ، وتعاليمه السّامية ، وعددها 27 سفراً . فكان الكتاب القديم تمهيداً ، والجديد تحقيقاً .

والإنجيل وضعه رسولان هما متّي ويوحنّا ، وكلاهما عاينا وسمعا وعاشا ولمسا حياة المسيح عن قرب ، وتلميذان هما مرقس ولوقا ، وكلاهما رفيق حميم الأوّل لبطرس والآخر لبولس ، وهما اللّذان تلقّيا الخبر عن رفيقيهما .

وعلّة الاختلاف الظاهر في أسلوب تدوين الروايات بين الأناجيل الأربعة ، ترجع إلى ظروف المكان والزمان الذي كتبت فيه من قِبَل التلاميذ . فمتّي كتب إنجيله لليهود باللغة الآراميّة ، وقد فقدت هذه النسخة بعد أن ترجمت إلى اليونانيّة ، وقد غلب على رواية متّي اللغة الثقافية ؛ لأنّه كتبها للمثقّفين ، والبرهان على ذلك أنّه كتب الكلمة الوضعيّة على الصليب بثلاث لغات وهي : العبريّة واليونانيّة والرومانيّة . والتي تقول : ( يسوع ملك اليهود ) . وقد أظهر الكاتب لليهود أنّ المعلّم الإلهي هو الماسيّا المنتظر ، إذ به تمّت نبوءات العهد القديم وتحقّقت رموزه ، فأكثر في إنجيله عبارة : ( كما ورد في أشعيا وأرميا والأنبياء ) أو ( وهكذا تمّت الكلمة التي قيلت بيسوع ) ، كذلك لم يكن متّي ليحرص على تسلسل الحوادث التاريخيّة ، فكان يجمعها

ــــــــــــــــ
(1) العهد الجديد تمهيد ، ط البولسية .


الصفحة (33)

جميعاً بدون هذا التسلسل إذ كان المهم عنده إبراز الموقف بغضّ النظر عن توقيته الزمني ، ويقال : أنّه ترجم إنجيله إلى اليونانيّة بنفسه .

أمّا مرقس تلميذ بطرس فقد وجّه إنجيله إلى الرومانيين باللغة اليونانيّة ؛ ولأنّ هذا الشعب مغرم بالقدرة والعظمة ، فقد أوقف وصفه على ما يظهر وجه المسيح من هذا القبيل ، وهو ينقل عن بطرس وفي إنجيله تركيز على المعجزات التي اجترحها المسيح ، مع أنّه لا يأتي على ذكر بطرس شخصيّاً .

أمّا لوقا تلميذ بولس فكان مثقّفاً وطبيباً ومصوّراً وخبيراً ضليعاً باللغة اليونانيّة ، وقد وجّه إنجيله خصّيصاً لليونانيّين والرومانيّين المتنصّرين حديثاً ، فأبان لهم أنّ رحمة المخلص ـ المسيح ـ لم تنحصر في فئة من الناس دون اُخرى ، وكان لا يهتمّ بالتفاصيل التي أوردها غيره في أناجيله ، وهو الذي ألّف أعمال الرسل ، وكان يوجّه كلامه لـ ( تيوفيلوس ) بكلّ الاُمور التي جاء بها المسيح . مبتدئاً كلامه بعبارة : ( سأحكي الحقيقة وليس كما زادوا عليها ) ، وقد انفرد إنجيله بإيراد أمثال الرحمة كالحروف الضال ، والابن الشّاطر ، حتّى دعي بـ ( إنجيل الرحمة ) .

أمّا يوحنّا فقد كتب إنجيله بعد مئة سنة من المسيح ؛ لذلك اختلف عن الأناجيل السابقة ، وقد كتبه باليونانيّة ليحاجّ دعاة الضَلال المتنكّرين لناسوت المسيح أو لاهوته(1) ، وحرص على التسلسل التاريخي أكثر من غيره ، وهدف به كلّ المسيحيين حيث حلّق بالفلسفة كثيراً ، وهو المتأثّر بفلسفة اليونان وبالكلمة ؛ لذا فقد بدأ إنجيله بعبارة ( في البدء كان الكلمة ) ، وفي عهده انبثقت فئة أسمت نفسها ( النقلاويّون ) أنكرت اُلوهيّة المسيح ، كما نشأت على عهده قصص شعبيّة

ـــــــــــــــ
(1) الناسوت : طبيعة المسيح البشرية ، واللاهوت طبيعته الإلهية .


الصفحة (34)

وخيالية ، وألّف إنجيل دعي ( أبو كريف ) وبدأت الأناجيل تكثر منذ عهده .

والإنجيل الذي نتلوه اليوم منقول عن المخطوطات الكبرى على الجلد التي تعود إلى القرن الرابع ، منها المخطوطة الفاتيكانيّة ، وقد نسخت حوالي سنة 348 م ، والمخطوطة السّينائيّة وقد نسخت حوالى 331 ، والمخطوطة الإسكندريّة التي ترقى إلى القرن الخامس ، وهناك مخطوطة رابعة معروفة بالأفراميّة ؛ لأنّ نصّ الكتاب والإنجيل قد محي وكتب عليه مواعظ ( مارأفرام ) وقد تمكّن العلماء من إبراز النصّ الأصلي وقراءته ، ويوجد أيضاً مخطوطات اُخرى نسخت ما بين القرنين الرابع والعاشر وهي نحو أربعين ، وهناك أيضاً نحو ثمانية آلاف مخطوطة صغيرة .

ففي الفاتيكان والمتحف البريطاني وباريس يوجد ثلاثة مخطوطات أصليّة ، وقد اكتشف ( شتربيتي ) مجموعة تشتمل على جزء كبير من الأناجيل ، وهي ترجع إلى القرن الثالث . وفي سنة 1956 اكتشف مارتان بودمير أوراق بردي تتضمّن إنجيل يوحنّا كاملاً مع أجزاء من إنجيل لوقا ، وهي تعود إلى أواخر القرن الثاني ، كما اكتشف ( جون رايلايد ) أقدم مخطوطات البردي المحتوية على قسم من الفصل الثامن عشر من إنجيل يوحنّا ، وجده في صعيد مصر ، وهو يرقى إلى النصف الأوّل من القرن الثاني .

أمّا أقدم المخطوطات العربيّة لترجمة الكتاب المقدّس فموجودة الآن في ( دير سيناء ) ، منها مخطوطة أعمال الرّسل والرسائل الجامعة ، وهي من القرن الثامن ميلادي ، ومنها مخطوطة المزامير بالخطّ الكوفي مع النصّ اليوناني ، وهي من العام 800 م ، وهناك عدد من مخطوطات الأناجيل الأربعة ترجع كلّها إلى القرن التاسع ، ومخطوطةٌ للرسائل وسفر الأعمال وقد ذكر ناسخها تاريخ نسخها وهو عام 867 م ، كما أنّ هناك بعض أسفار الأنبياء وأيّوب ترجع إلى القرن التاسع ميلادي ،


الصفحة (35)

وفي دير سيناء مخطوطة للتوراة من القرن العاشر ، كما وجدت ترجمات قديمة إلى العربيّة يرجع عهدها إلى ما قبل الإسلام حيث كان المسيحيّون العرب في اليمن وبصرى إسكي شام يتعبّدون بها .

أمّا الأناجيل الأربعة فقد ترجمت للعربيّة منذ عهد ( يوحنا الثالث ) بطريرك السريان الأنطاكي (631 ـ 648 م ) ، وطبعت لأوّل مرّة في روميّة سنة 1951 ، وقد ظهرت ترجمات عربيّة عصريّة كاملة منذ عام 1865 في ثلاثة مجلّدات كبيرة حقّقها الآباء اليسوعيّون اللبنانيون .

وأخلص بعد هذا العرض إلى فكرة أنّ الأناجيل الأربعة التي وضعها الرسل المذكورون ، كانت صريحة وصادقة وأمينة ، ترجمت حياة المسيح بأكملها ، لكن ما طرأ بعد وفاة يوحنّا ، زاد من عدد الأناجيل كثيراً إذ شوّه البروتستانت بعض المرادفات ، وألغوا بعضاً منها ، وحوّروا البعض الآخر بما يتّفق مع عقيدتهم ، وعلى سبيل المثال حذفهم كلّ ما يمسّ رئاسة بطرس للكنيسة الموحّدة .

وفي العالم المسيحي الآن ألف طائفة للبروتستانتيّة وحدها ، ولكلّ منها إنجيل يختلف بشكل أو بآخر عن الآخر .

فقد جاءت وقت كان ثمّة فيه راهب يدعى ( لوثيروس ) ، فتح عينَيه على رجال الدين الكاثوليك يتاجرون بـ ( الغفرانيّة ) ، ويملّكون أماكن في الجنة بموجب شهادات رسميّة ، سمّيت وقتذاك بـ ( صكوك الغفران ) ، فأراد هذا الراهب أن يقوم بحركة إصلاح ، فانشقّ عن السدّة البابويّة .

ولم يحاول البابا وقتذاك إصلاح الوضع الشاذ الذي أوجده رجال الدين من خلال بيعهم لصكوك الغفران ، وقد قيل في عصرنا هذا : إنّه لو انشقّ لوثيروس في عهد البابا يوحنّا الثالث والعشرين الذي توفّي منذ عشر سنوات تقريباً ، لكان أمر بإصلاح مثل هذا الخلل ، ولم يسمح بالانشقاق ، لكنّ المصالح الاقتصاديّة والأطماع المادّية ، كانت تعصف برؤوس رجال الدين ،

      الصفحة (36)

ممّا جعل الانشقاق أمراً حتميّاً .

وبعد لوثيروس جاء ( كالفن ) وجاء ( المورمون ) وجاء ( الباتيست ) و( السّبتيست ) ومذاهب انشقاقيّة اُخرى ، كلّ منها تحرّف في الإنجيل بما يتّفق ومعتقداتها الجديدة . فمنها ما ألغت الأسرار ، ومنها ما نفت القدسيّة عن العذراء مريم (عليها السّلام) ومنها ما حرّفت الأحداث التاريخيّة كمسألة نوم العذراء في المغارة ، وزيارة المجوس للمسيح في المزوّد … إلخ .

ولمّا استشرى الوضع وتفاقم الخلاف بين الكنائس المنشقّة ، وكثرت الأناجيل حتّى غدت بعدد الطوائف المبعثرة ، اجتمع المجمع المسكوني وقام بعمليّة غربلة كبيرة استبعد معها كلّ الأناجيل التي صدرت بعد عهود التلاميذ الأربعة ، ومنها إنجيل ( برنابا ) الذي وصفه المجمع المذكور : بأنّه كُتِب بيد مرتدّ عن النصرانيّة ، جدّ خبير بالتوراة اللاتينيّة ، يصف فيه شتّى نواحي الحياة الدينيّة والمدنيّة والتاريخيّة والجغرافيّة والاجتماعيّة في عهد المسيح ، على ما رأى بعينه في بيئته الإيطاليّة في القرن السادس عشر(1) .

إضافة لذلك كلّه أنّ يوحنّا ذكر في نهاية إنجيله عبارة تقول : وقال المسيح خلال حياته كلاماً كثيراً لو جُمع لَما احتوته أسفار .

إذاً فنحن هنا أمام تعدّد أناجيل كثيرة نقلت من لغة إلى اُخرى ، وكُتبت في أزمان متفاوتة لتخدم غايات معيّنة ، وحيال كلام كثير قاله المسيح ولم يدوّن . فإلى أين تقود هذه التشعّبات التي آلت إليها الأناجيل ؟

المسيح تفوّه بكلام كثير ، فماذا قال تُرى ؟ ولِمَ لَم يدوّن قوله كلّه ، وهو

ــــــــــــــ
(1) العهد الجديد ج تمهيد ط البولسية .


الصفحة (37)

النبيّ العظيم المنزّه عن الخطأ والتكرار والتشابه في الأقوال والأفعال ؟ وما كانت ستضمّ هذه الأسفار لو جُمعت كما ذكر يوحنّا في نهاية إنجيله ؟ وما كانت ستضمّ أيضاً من صنائعه إضافة لأقواله كما جاء في يوحنّا ؟(1) إذ ذكر : وضع يسوع أيضاً أشياء كثيرة اُخرى ، لو أنّها كُتبت واحداً فواحداً لَما خلت أنّ العالم نفسه يسع الصحف المكتوبة .

هل كانت ستضمّ من الأقوال والصنائع المتشابه والمكرّر والمُعاد من الكلام والفعل النّبوي ؟ هذه الأقوال التي فاقت فصاحتها كلّ فصاحة ، وهذه الأفعال التي فاق إعجازها كلّ إعجاز .

وتلك الموجة العارمة من الأناجيل التي برزت والتي عني المجمع الكنيسيّ بغربلتها ، ماذا أضافت للعقيدة المسيحيّة ؟ وماذا ألغت من قوانينها وأسرارها ؟ وما دورها في إغناء أو إفقار التعاليم المسيحيّة من خلال انتشارها ؟

سؤال لطالما يرد إلى أذهان الكثيرين في غياب أيّ قبس مدوّن عن الكيفيّة التي تمّت فيها عمليّتا الغربلة والإقرار النهائي للأناجيل الحاليّة المتداولة من قِبَل المجمع المقدّس ، والتي لا يرد في متنها أو مقدّماتها ما يفسّر ويوضّح الملابسات التي تعرّض لها الإنجيل حتّى وصل إلى الأيدي بشكله الحالي .

ولكنّنا كمسيحيّين مؤمنين لدينا غنى كامل في قناعاتنا بأنّ الأناجيل الأربعة المتداولة حالياً عن ألسنة التلامذة الأربعة هي الكتب الصّحيحة والكاملة للمسيحيّة ، ولا ثقة البتّة بأيّة أناجيل غيرها ، وما تساؤلنا إلاّ نوع من التعطّش إلى الحقيقة والظمأ إلى المعرفة .

فإذا لم يكن في هذه الأناجيل إشارة واضحة لتنبّؤ المسيح عن قدوم نبي من بعده

ــــــــــــــ
(1) يوحنا 20 / 25 .


الصفحة (38)

اسمه ( محمّد ) ، فممّا لا شكّ فيه أنّ هذا المعنى متضمّناً إحدى آياته (عليه السّلام) حيث لم تسعف القوى التأمّليّة بجوهر ومعنى الدِّين الكلّي الواحد ـ عن عمدٍ أو عن غير عمد ـ بترجمة هذا المعنى ونحته من صلب الآيات ؛ لأنّ رسول المحبّة بشّر وتكلّم لا بشكل مباشر ، بل على سنّة الرموز والأمثال ، وبغير مثل لم يكن يكلّمهم ليتمّ ما قيل بالنبي القائل: ( أفتح فمي بالأمثال ، وأذيع بالمكنونات منذ إنشاء العالم )(1) .

وهكذا على هذه السنّة شبّه المسيح ملكوت السموات بالحقل المزروع بالحنطة ، وشبّه معتقدات الفريسيّين والهيروديسيّين بالخمير ، حيث نهى تلاميذه عنه بقوله : ( انظروا إيّاكم وخمير الفريسيّين وخمير هيرودس ! ) وهكذا .

فالرسل والأنبياء والأوصياء والمصطفون والشهداء ، أعطاهم الله ملكة نورانيّة تساعدهم على استجلاء الغيب واستشفاف المستقبل ، وفي الآية : (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ )(2) ؛ دلالة على أنّ هذا العالم ـ عالم الغيب ـ تكشّف على أوسع نطاق للأنبياء والمرسلين ، فاستشفّوا كلّ الأحداث التي ستليهم ، ما يتعلّق منها بالأديان والمذاهب والمعتقدات ، والتاريخ والجغرافيا والحركات السياسيّة .

ولا بدع في هذا القول ، فمَن يقرأ الكتب السماويّة الثلاثة ـ خلا مزامير داود ونبوءات الرسل وأمثال سليمان ـ يجد أنّ أعظم الأحداث وأتفهها التي حدثت في الماضي ، ولا تزال تحدث في قرننا هذا ، والتي ستظل تحدث حتى انقضاء الدهور ، قد ورد ذكرها في هذه الكتب : الوثنية ، سدوم وعمورا ، طوفان نوح ، ظهور الأديان ، عبور العبرانيين ، دمار أورشليم وتشتّت اليهود ، خراب بابل ،

ــــــــــــــــ
(1) متّي 13 / 35 مز 77 / 2 .

(2) سورة الجن / 26ـ 27.


الصفحة (39)

مذبحة كربلاء ، فيضان النيل ، اختفاء الأتلنتيك ، ظهور إسرائيل ، براكين تركيا ، ظهور مادة النفط من باطن الأرض ، ظهور الدجّالين باسم الأديان ، سقوط عروش وممالك ، قيام نظم ، اختراع الطيران ، اكتشاف الذرّة ، الصعود إلى القمر ، اكتشاف الكون ، تقدّم الطب والعلوم ، الإلحاد(1) ، وإضافة لما عايشته البشريّة حتّى الآن من الأحداث ؛ فإنّ في طيّ هذه الكتب سجلاًّ كاملاً لأحداث ستلي خلال العقدين المتبقيين من القرن العشرين .

فإذا ما نظرنا إلى الإنجيل من هذه الزاوية ، نجده زاخراً بكل المعاني والنبوءات ، متضمّناً كل استكشافات المستقبل حتّى انقضاء الدهور . وعودة إلى الأناجيل بحثاً عن هذه النبوءات لتظهر منها الكثير في كلّ آية ، فالمسيح (عليه السّلام) كانت له قدرة خصّه الله بها دون سائر الرسل ، تكشف له الغيب حتّى انقضاء الدهور ، فكيف بتلك الاستكشافات التي ستليه بعد خمسة قرون ، حيث كان مقرّراً أن تنزل خلالها الرسالة السماويّة الثالثة التي أكملت الرسالة الثانية ، والتي بشّر (عليه السّلام) بها ، وشابهتها في جلّ تعاليمها وفي جوهرها السامي وبدعوتها إلى الحق الإلهي ؟

هذه التعاليم التي سحرت النفوس فاستهوتها حتّى بلغ عددها منذ عهد النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى وقتنا هذا معادلاً لعدد تلك الأنفس التي آمنت برسالة عيسى (عليه السّلام) ؛ لأنّها وجدت في رسالة محمّد (صلّى الله عليه وآله) تتمّة وخاتمة لرسالته (عليه السّلام) ، فبلغ بها الكمال الإلهي حدوده العليا ، وارتقت وحدانية الله مداها من خلالها .

فكيف إذاً لا يجد المسيحي المتفهّم لروحيّة الإنجيل ، أيّة إشارة متضمّنة أو منحوتة من إشارة متضمّنة إحدى الآيات لهذا الحدث العقائدي العميق الأثر

ــــــــــــــ
(1) الأسفار والمراثي والنبوءات .


الصفحة (40)

لملايين النفوس ، بينما نجد إشارات لأحداث بشريّة ماديّة عادية لا تبلغ مهما ارتقت معشار حدث نزول الرسالة المحمّديّة وانتشار عقيدة الإسلام فوق هذه الرقاع الواسعة من الأرض ، وترسّخها في هذا العدد الهائل من النفوس البشريّة ؟

وأنّا لواجدون في الإنجيل المقدّس تلميحاً لنزول آيات الرسالة الثالثة ، إذ يقول السيّد المسيح لبعض الفريسيّين : (( ما بال هذا الجيل يطلب آية ! الحقّ أقول لكم : إنّه لن يُعطى هذا الجيل آية ))(1) . فمثل هذا القول يشير إلى ترقّب نزول الآية على الأجيال التالية التي ستُعطى هذه الآية ، وهذا الجيل لن يعايش المسيح بل نبيّاً غيره مع التضمين اللّفظي بأنّ الآية لا يلفظها إلاّ لسان نبي

ويطالعنا أيضاً في إنجيل يوحنّا قولاً واضحاً لا مجرّد تلميح فحسب متضمّناً مجيء نبيّ بعد المسيح ؛ إذ تقول شهادة يوحنّا المعمدان حينما أوفد اليهود إليه من أورشليم كهنة ولاويّين ليسألوه : مَن أنت ؟ فاعترف وما أنكر ، اعترف : إنّي لست المسيح . فسألوه : إذاً ماذا ، أإيليا أنت ؟ فقال : لست إيّاه . فسألوه : أالنبيّ أنت ؟ أجاب : ( لا ) . فسألوه وقالوا له : فلم إذاً تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي ؟(2) .

ففي هذا القول تسلسل سلّمي أثبت التاريخ صحّته من حيث ظهور الأنبياء ، فقبل المسيح (عليه السّلام) جاء يوحنا يبشّر به ، ثمّ جاء (عليه السّلام) وبعده جاء النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله)

كذلك نجد في نفس الإنجيل إشارة اُخرى للنبي والمسيح ، وذلك في وصف خطبة عيسى في اليوم الأخير العظيم ؛ إذ قال : (( إن عطش أحد فليأت إليّ ويشرب ،

ــــــــــــــ
(1) مرقس 8 / 12 ـ 13 .

(2) يوحنا 177 / 20 ـ 21 .


الصفحة (41)

مَن آمن بي فستجري من جوفه كما قال الكتاب ، أنهار ماء حي ))(1) .

وإذ سمع بعض الجمع هذا الكلام ، وقالوا : لا جرم إنّ هذا هو النبي . وقال آخرون : بل هو المسيح . وقال غيرهم : أمن الجليل يأتي المسيح ؟(2) .

ولنلاحظ صيغة الأسئلة التي وجّهت إلى يوحنا ، وصيغة أجوبته عليها ، فقد أجاب بعد أن سُئل مَن أنت , بقوله : ( إنّي لست المسيح ) . وأجاب بعد أن سُئل عمّا إذا كان هو إيليّا ، بقوله : ( لست إيّاه ) . وأجاب بعد أن سُئل عمّا إذا كان هو النبي ، قوله : ( لا ) .

وكلمة ( النبي ) كما وردت في شهادة يوحنّا كان بصيغة معرفة ( النبي ) لا نكرة ( نبي ) كي تفسّر على أنّها صفة قد تطلق هكذا لمجرّد التساؤل حول هويّة يوحنّا ، وهل هو نبي ما اُوتي مقدرة ما ؟ أو بشر عادي ؟ بل سبقت بـ( أل التعريف ) ، فانتقلت كلفظة نكرة تدلّ على مجهول غير منتظر ، إلى معرفة تدلّ على معلوم منتظر ، بما يشير إلى أنّ النبي المقصود قد أجمعت النبوءات على تحديد أوصافه واسمه ، وعلى تسلسل ظهوره في سلّم ظهور الأنبياء ، وعلى مكانته النبويّة بينهم ، وعلى انتظار البشر لمجيئه بعد المسيح مباشرة .

وفي منظور التسلسل اللّفظي الذي جاء في شهادة يوحنّا ( المسيح ، إيليا ، النبي ) نلاحظ أنّ لفظة ( النبي ) كانت مسبوقة وليست متبوعة بأيّ اسم آخر ، وبأنّها ختمت هذا التسلسل بتواجدها في نهايته . وفي هذا الاختتام انسجام تام مع ما ورد

ـــــــــــــ
(1) يوحنّا 193 / 37 ـ 38 .

(2) يوحنّا 193 / 40 ـ 41 .


الصفحة (42)

في الكتب السماويّة والتواريخ الوضعيّة المدوّنة والتي لم تسجّل ظهور نبيّ بعد عيسى مباشرة أطلقت عليه صفة ( النبي ) ؛ حيث لم يظهر بعده نبي ، إلاّ النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) خاتم الأنبياء والمرسلين .

وحتّى الإنجيل المقدّس لم يفسّر المعنى المقصود بـ( النبي ) كما ورد في شهادة يوحنّا ، والذي ينتظر مجيئه بعد المسيح ، كي يقال: بأنّ أي تفسير مغاير له يجافي الحقيقة والتاريخ .

فإذا قلت ذلك من قناعتي كمسيحي مؤمن فَهم تعاليم عيسى وما هدفت إليه وتعمّق في جوهر مبادئه السّامية ، فلا يحمّل قولي بأكثر من حدود ما رمى إليه ، ولا يؤخذ على أنّه تحميل لآيات الكتاب المقدّس تآويلاً لا تحتملها ، حاشا لله ، بل كما سبق وأسلفت من أنّ قناعتي كاملة بوجود ما يشير إلى مثل هذا الحدث ـ حدث نزول رسالة محمد (صلّى الله عليه وآله) ـ في صلب آيات الإنجيل ، ولكن استخلاصها من مضانّها يحتاج إلى عقل ملهم ، وضمير متبصّر نيّر ، وشجاعة أدبيّة مؤمنة لا تخاف الجهر بقناعاتها وتحليلاتها الموضوعيّة العقلانيّة ، فلم تك أبداً رسالة المسيح ، رسالة تقوقع أو بغض ، ولا حتّى رسالة نرجسيّة وعشق ذات ، فالمسيح (عليه السّلام) قال : (( لا تظنّوا أنّي جئت لأنقص الناموس أو الأنبياء ، إنّي ما جئت لأنقص بل لأكمل ))(1) .

ففي هذه القولة مغزىً مؤدّياً إلى ما يلي معنى الإكمال المتبوع بـ( الاستمراريّة ) المؤدّية بدورها إلى الخاتمة .

فإذا اعترفنا بأنّ الأديان إنّما جاءت لجميع البشر على السواء ، فنكون قد كرّسنا حقيقة أزلية تتجلّى في حكمة نزول الرسالات الثلاث واختتامها برسالة الإسلام .

ــــــــــــــ
(1) العهد الجديد 9 / 17 .


الصفحة (43)

فعيسى (عليه السّلام) قال لمجموع البشريّة : ( ما جئت لأنقض بل لأكمل ) . وكان يريد إفهام النّاس بأنّه يكمل ما كان قد بدئ من دين الله الواحد برسالة اليهوديّة التي تشكّل اُولى مراحله ، حيث أعقب هذا القول تضميناً لفظياً باستمراريّة مسيرة الرسالات لتصل نحو نقطة النهاية ـ الخاتمة ـ والقرآن الكريم خاطب مجموع البشريّة بالقول : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِيناً )(1) . والمقصود في هذه الآية الكريمة: بأنّ ما كان في مسالك دين الله الواحد من رسالات جاء الإسلام ليكملها ويضع لها الخاتمة ، فتمّت نعمة الله على البشريّة بتمام هذه الرسالات .

فمعنى عبارة ( أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) يجيء مشيراً بشكل ضمني وواضح إلى وجود هذا الدين فيما سبق ، ومسلّماً ببداهة هذه الكينونة السابقة بشكل منقوص ، حيث أكملت اليوم بالشكل المرسوم الذي أرادته العناية الإلهية . أمّا عبارة ( وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِيناً ) فإنها جاءت بعد عبارة ( وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) الواقعة بدورها بعد عبارة ( أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) ؛ فبذا يكون الإسلام هو الدين البشري الذي رضيه الله لعباده سواء أكانوا يهوداً ، أم نصارى ، أم مسلمين . وتكون اليهوديّة والمسيحيّة هما الأدواء الروحيّة التي عالجت الأنفس في أزمان نزولها ، فبرّأتها إلى حين نزول الإسلام حيث أكملها وحصّن الأنفس بطعم روحي سرمدي ، درأ عنها كل العلل والأسقام التي قد تطرأ عليها فتفنيها .

فالدين الواحد برسالاته الثلاث كان رحمةً للبشر ، وأمراً لهم بعبادة الله

ــــــــــــــ
(1) سورة المائدة / 3 .


الصفحة (44)

الأحد . ولم يختصّ منهم أحداً دون الآخر بل قالت عزّته : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )(1) .

وقد عرّفت الرسالات السماويّة الثلاث البشر بالله الأحد ، وأوصلت لهم دينه الإلهي الواحد ، مصداقاً لقوله تعالى : ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ )(2) .

كما ورد ذكر الإله الواحد والدين الكلّيّ الشمول في الآية الكريمة : ( وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ )(3) .

فعبارة ( آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ ) فيها أبين دلالة على وحدانيّة الله ، ووحدانيّة الأديان ، ووحدانيّة التّنزيل ، ووحدانيّة الإسلام بين الإسلام والمسيحيّة .

وقد جاء في القرآن الكريم : ( وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ )(4) .

ففي كلّ هذا مصداق للقول: بأنّه لا يصحّ إسلام المسلم حتّى يؤمن بنبوّة عيسى (عليه السّلام)

ــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة / 21 .

(2) سورة الشورى / 13 .

(3) سورة العنكبوت / 46 .

(4) سورة المائدة / 83 ـ 84 .


الصفحة (45)

ولا تصحّ نصرانيّة المسيحي حتّى يؤمن بنبوّة محمّد ، ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ )(1) .

هذا التعدّد في الخلق وفي الرسالات ، هو في جوهره كتعدّد روافد نهر واحد يصبّ آخره في خضمّ محيط واسع . وهذا التعدّد لا يعني التفرّد أو الخصوصيّة ، بل يشبه دور عدّة أعمدة تحمل مبنىً واحداً ، يتوزّع ثقله بالقسطاس على كلّ واحد منها . فرسالة الرسالات تشابهت ، ٍكذلك تعاليمها ومبادئها . وقد ناقش المجمع المسكوني علاقة الكنيسة المسيحية مع بقيّة الأديان(2) ، كما قارن بين الأديان التوحيديّة الثلاث : اليهوديّة ، والمسيحيّة ، والإسلام ، وأبرز قواسمها المشتركة ، وحدّد سماتها المتشابهة .

أهم هذه القواسم كما تحدّدت ؛ الدعوة إلى عبادة الله الأحد ، خلود النفس ، الآخرة ، الله خالق ، الثواب والعقاب ، الفضائل والأخلاق الحسنة ، الزكاة والصدقة والبرّ والإحسان ، الملائكة والشياطين ،

ــــــــــــــــ
(1) سورة المائدة / 48

(2) كان ذلك على عهد يوحنا الثالث والعشرين ، وأكمله بيوس السادس ، وقد دعي ممثّلوا الديانات الأخرى غير التوحيديّة لحضور الجلسات كمراقبين .


الصفحة (46)

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، التعامل بالحسنى ، تحريم القتل والزّنا وشهادة الزّور والسرقة ، تكريم الوالدين .

وقد تبيّن للمجمع المسكوني أنّ الوصايا العشر في المسيحيّة يقابلها وصايا شبيهة في الإسلام ، ففي الإنجيل ثمّة وصيّة تقول : (( أحبب عدوك وقريبك كنفسك )) . وفي القرآن ثمة اُخرى تقول : ( وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ .. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ . فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ )(1) . والاثنتان تدعواننا للتأمّل في مغزاهما ومراميهما ومعاني ألفاظهما .

كذلك فإنّ قصّة خلق الإنسان على صورة الله ومثاله ، ومدّة الخلق التي هي ستّة أيّام ، واستراحة الخالق في اليوم السابع كلّها متشابهة شبهاً كبيراً ما بين الإنجيل والقرآن .

والمطّلع على الكتابَين المقدّسين ، سيجد تطابقاً غريباً في معظم القصص والأحداث ، وتشابهاً بيّناً بين المبادئ والأهداف ، وما قصّة استخلاف الله لآدم في الأرض إلاّ إحدى هذه التطابقات المتجانسة .

وهكذا شاءت حكمته تعالى أن يسلّم من الناس أمره لعزّته عن طريق الإنجيل ، ومنهم الآخر عن طريق القرآن ، ومنهم عن طريق الحكمة ؛ لأنّ الإسلام هو التسليم بالأمر لله تعالى ، توزّعت نعمه على الخلق بسواسية عادلة ، فكان دين البشريّة على اختلاف أديانهم ونحلهم .

ـــــــــــــــ
(1) سورة فصّلت / 34 .


الصفحة (47)

وبدين الإسلام هذا وصّى إبراهيم (عليه السّلام) بنيه ، وبه وصّى حفيده يعقوب أي إسرائيل بنيه ، ( إذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ )(1) .

وطريق الهدى واحدة ملّة إبراهيم ، الإسلام ، وعليها كان إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى . والمؤمنون يؤمنون بما اُوتي النبيّون ، لا يفرّقون بين أحد منهم ، ويسلّمون لله ، وبلَون الإسلام يصطبغون . الذين يؤمنون هذا الإيمان هم المهتدون ، اُولئك لا يجادلون في الله تعصّباً لأهوائهم ، بل يخلصون لفطرة الله ولا يتفرّقون(2) .

فطرة الله هي اختياره تعالى لقافلة أنبيائه من ذريّة واحدة ، بعضها من بعض ، لتكمل دعواتهم بعضها بعضاً أيضاً ؛ لأنّها في تمامها دعوة إلهيّة واحدة ، إذ قال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )(3) .

فإذا كان الخط البياني للتوحيد بلغ في الرسالة المحمديّة إلى الذروة ( قل هو الله أحد ) فإنّ التوحيد في المسيحيّة يبرز في مطلع فعل الإيمان ، إذ جاء فيه : ( نؤمن بإله واحد ضابط الكلّ خالق السماء والأرض وكلّ ما يُرى وما لا يُرى ) .

أمّا التثليث ( الأب والابن والروح القدس ) فإنّه تعبير مجازي أدبي ، لا حقيقي مادّي ، أو كما يفسّره البعض من أنّ لله ثلاثة أقانيم منفصلة ، إذ الأصحّ أنّها أقانيم

ـــــــــــــ

(1) سورة البقرة / 133 .

(2) تفسير القرآن المرتّب للدكتور أسعد علي / 364 .

(3) سورة آل عمران / 33 ـ 34 .


الصفحة (48)

متّصلة متداخلة تعبّر المجاز في ثلاث نقاط نحو الحقيقة ، ويصحّ تشبيه هذا المجاز اللفظي ، بقولنا عن الشمس: بأنّها مكوّنة من نار وضوء وحرارة ، تشكّل مجتمعة قرصاً واحداً يدعى الشمس . يُعرف بها ولا تُعرف به ، ولا تشكّل مفردة عالماً أو كوناً قائماً ، تُعرّف من قريب أو بعيد على ذات ما عُرّفت به مجتمعة .

وتعدّ وحدانيّة الله الحقيقة الأساسيّة التي يعلّمها الكتاب المقدّس ، فقد جاء على لسان أشعيا النبي : ( أنا الأوّل وأنا الآخر ولا إله غيري ) . ثمّ جاء المسيح وثبّت هذه الحقيقة بقوله (( إنّ الربّ إلهنا ربّ واحد ))(1) . ثمّ انطلق الرسل بعده يعلّمون هذه الحقيقة ، فقد كتب بولس الرسول إلى أهل أفسس : ( للجميع ربّ واحد وإيمان واحد وإله واحد هو فوق الجميع ومع الجميع وفي الجميع ) ، وصرّح لأهل كورنتس : ( نحن نعلم أنّ الوثن ليس بشيء في العالم ، وأنّه لا إله غير واحد )(2) . وتقول أولى الوصايا العشر : ( أنا الربّ إلهك لا يكن لك آلهة أخرى تجاهي ) . وكتب لوقا : ( للربّ إلهك تسجد ، وإيّاه وحده تعبد )(3) .

ولمّا كان عقل الإنسان محدوداً غير قادر على سبر جوهر الله والوقوف على سرّ طبيعته ،

ــــــــــــــــ
(1) مرقس 12 / 29 .

(2) رسالة بولس إلى الكورنثيين 329 / 4 ـ 5 .

(3) لوقا 4 / 8 .


الصفحة (49)

فقد شاءت عزّته أن يعلن عن سرّ ماهيّته العميق ، فكلّم البشر بواسطة أنبيائه . ولمّا قام البعض بنفي الاُلوهيّة عن الثالوث السرّي التام أقطاب الكنيسة ، وحدّدوا عقيدة الثالوث ، فاستعانوا بكلمتي ( أقنوم ) و ( طبيعة ) ليعبّروا بها عن الله الواحد ، وجعلوا عبارة : ( بسم الأب والابن والروح القدس ، الإله الواحد ) بداية الصلاة .

وإنّا لواجدون في سفر التكوين تلميحات إلى الأقانيم الثلاثة ، قال الله بصيغة الجمع : ( لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا )(1) . وجاء فيه أيضاً : ( هلمّ نهبط ونبلبل لغتهم )(2) .

كما يروي لنا أشعيا النبي أنّه رأى في السماء مجد الله وسمع السرافين ـ إحدى طغمات الملائكة ـ يقولون : ( قدّوس قدّوس قدّوس ، ربّ الجنود ، الأرض كلّها مملوءة من مجدّه )(3) . فتكرار كلمة قدّوس ثلاث مرات موجّه إلى طبيعة الأقانيم الثلاثة .

أمّا الاُقنوم الثاني الذي هو الابن ، أي المسيح فقد لمح إليه داود النبي في قوله : ( الربّ قال لي أنت ابني ، أنا اليوم ولدتك )(4) .

وقال أيضاً : ( قال الرب لربّي : اجلس عن يميني ، في بهاء من الجوف قبل الفجر ولدتك )(5) .

ـــــــــــــــ
(1) سفر التكوين 1 / 26 .

(2) المصدر نفسه 11 / 7 .

(3) أشعيا 36 .

(4) المزامير 2 / 7 .

(5) المصدر نفسه 109 / 1 ـ 3 .

شاهد أيضاً

٢٨ رجب – خروج الامام الحسين علیه السلام من المدينة إلى مكة

خروج الحسين علیه السلام من المدينة إلى مكة  أول صلاة جماعة في الكعبة   بمثل ...