حينما نهض كعبة الاباء و قبلة الاحرار الامام الحسين الشهيد (ع) دفاعا عن دين جده المصطفى (ص) عندما وجده على شفا جرف هار ، يتهدده خطر الانحراف ، جراء سياسات رؤوس الاستكبار في ذلك العصر الارهابيين من آل امية و آل أبي سفيان ، سار بعياله و اصحابه و اهل بيته الى كربلاء ، و سمحت نفسه بمهجته في يوم عاشوراء ، و تقدم ليرخص دمه و هو يحاكي ضمير الامة و وجدانها الذي بات بحاجة الى زالزال دام ليستيقظ من نومته ، مخاطبا اياه بالقول : “إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي .. يا سيوف خذيني” .
كنت للرسول (ص) ولدا و للقرآن منقذا و للأمة عضدا و في الطاعة مجتهدا ، حافظا للعهد و الميثاق ، ناكبا عن سبل الفساق ، و باذلا للمجهود ، طويل الركوع و السجود ، زاهدا في الدنيا زهد الراحل عنها ، ناظرا إليها بعين المستوحشين منها … حتى إذا الجور مدّ باعه ، و أسفر الظلم قناعه ، و دعا الغي أتباعه ، وأنت في حرم جدك قاطن ، ثم اقتضاك العلم للإنكار ، و لزمك أن تجاهد الفجار .. سرت في أولادك وأهاليك وشيعتك ومواليك ، و صدعت بالحق والبينة ، ودعوت إلى الله بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ، و أمرت بإقامة الحدود ، و الطاعة للمعبود ، و نهيت عن الخبائث و الطغيان ، و واجهوك بالظلم والعدوان ، فجاهدتهم ..
و نكثوا ذمامك و بيعتك و أسخطوا ربك و جدك ، و بدؤوك بالحرب ، فثبتّ للطعن و الضرب ، و طحنت جنود الفجار ، واقتحمت قسطل الغبار ، مجاهدا بذي الفقار ، كأنك علي المختار ، فلما رأوك ثابت الجأش ، نصبوا لك غوائل مكرهم و قاتلوك بكيدهم وشرهم ، و أمر اللعين جنوده ، فمنعوك الماء و وروده ، وناجزوك القتال ورشقوك بالسهام و النبال و لم يرعوا لك ذماما ولا راقبوا فيك أثاما ، في قتلهم أوليائك ، ونهبهم رحالك و أنت مقدم في الهبوات ، ومحتمل للأذيات ، قد عجبت من صبرك ملائكة السماوات ، فأحدقوا بك من كل الجهات ، وأثخنوك بالجراح ، و حالوا بينك و بين الرواح ، ولم يبق لك ناصر ، وأنت محتسب صابر ، تذب عن نسوتك وأولادك ، حتى نكسوك عن جوادك ، فهويت إلى الأرض جريحا ، تطئوك الخيول بحوافرها ، و تعلوك الطغاة ببواترها ، قد رشح للموت جبينك ، واختلفت بالانقباض و الانبساط شمالك ويمينك ، تدير طرفا خفيا إلى رحلك وبيتك ، وقد شغلت بنفسك عن ولدك و أهاليك ..
و أسرع فرسك شاردا إلى خيامك ، قاصدا محمحما باكيا . فلما رأين النساء جوادك مخزيا ، ونظرن سرجك عليه ملويا ، برزن من الخدور على الخدود لاطمات وبالعويل داعيات ، وبعد العز مذللات ، وإلى مصرعك مبادرات ، والشمر جالس على صدرك ، مولغ سيفه على نحرك ، قابض على شيبتك بيده ، ذابح لك بمهنده ، قد سكنت حواسك ، و خفيت أنفاسك ، و رفع على القناة رأسك .. و سبي أهلك كالعبيد ، وصفدوهم بالحديد ، فوق أقتاب المطيات ، تلفح وجوههم حر الهاجرات ، يساقون في البراري والفلوات ، أيديهم مغلولة إلى الأعناق ، يطاف بهم في الأسواق . فالويل للعصاة الفساق .. لقد قتلوا بقتلك الإسلام ، وعطلوا الصلاة والصيام ، ونقضوا السنن والأحكام ، وهدموا قواعد الإيمان ، وحرفوا آيات القرآن .
لقد أصبح رسول الله (ص) بك موتورا ، وعاد كتاب الله عز وجل مهجورا ، وغودر الحق إذ قهرت مقهورا ، وظهر بعدك التغيير و التبديل ، و الإلحاد والتعطيل ، والأهواء والأضاليل ، والفتن والأباطيل . فقام ناعيك عند قبر جدك الرسول (ص) ، فنعاك إليه بالدمع الهطول ، قائلا : يا رسول الله ، قتل سبطك وفتاك ، واستبيح أهلك وحماك ، و سبيت بعدك ذراريك ، ووقع المحذور بعترتك وذويك ، فانزعج الرسول وبكى قلبه المهول ، وعزاه بك الملائكة والأنبياء ، وفجعت بك أمك الزهراء ، واختلف جنود الملائكة المقربين ، تعزي أباك أمير المؤمنين ، وأقيمت لك المأتم في أعلى عليين ، ولطمت عليك الحور العين . وبكتك السماء وسكانها ، والجنان وخزانها ، والهضاب وأقطارها ، والبحار وحيتانها ، والجنان وولدانها ، والبيت والمقام ، والمشعر الحرام ، والحل والإحرام .
يا مولاي .. فلئن أخّرتني الدهور ، وعاقني عن نصرك المقدور ، و لم أكن لمن حاربك محاربا ، ولمن نصب لك العداوة مناصبا … فلأندبنك صباحا و مساء ، و لأبكين عليك بدل الدموع دما . يا أبا عبد الله .. لن نقول سنكون معك ، لاننا معك ، و سنبقى معك نجاهد العتاة و الفاسقين و المارقين و اعداء الدين كما سنبقى نحيي ذكراك ابد الدهر . سنبقى نهتف : يا حسين ما زالت فينا روح و ما زالت الشمس تشرق و تغيب ، وستبقى خالدا مدى الدهور تستلهم منك الاجيال و الاحرار دروس الاباء و العزة والكرامة والشهادة والتضحية من اجل العقيدة : كذب الموت ؛ فالحسين مخلد .. كلّما مرّ زمان : ذكره يتجدد ، و كل يوم عاشوراء و كل أرض كربلاء .. حتى يأذن الباري عز و جل بظهور القائم من آل محمد فيملأ الأرض قسطا و عدلا بعدما ملئت ظلما و جورا .