لازال الكثير من المتابعين يتسائلون عن الاسباب التي مازالت تؤدي الی استمرار القطيعة في العلاقات السياسية بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية من جهة، و بين مصر من جهة اخری. وذلك رغم إنتهاء حقبة النظام السابق في مصر الذي تزعمه خلال العقود الثلاثة الماضية، «حسني مبارك»، و مجیء نظام جديد في البلاد تولت قيادته «جماعة الاخون المسلمين» التي كانت توصف بالقريبة من إيران، قبل أن تفقد السلطة بسبب أحداث يوليو عام ٢٠١٣. وفي هذا السياق ايضا هناك من مازالت الصورة بالنسبة الیه ضبابية في ما يخص سياسة مصر الجديدة بعد وصول الرئيس «عبدالفتاح السيسي» الی السلطة و اُسس علاقته مع سوريا و النظام السعودي. وللإجابة علی هذه الأسئلة و غيرها من القضايا، اجری مراسل موقع «الوقت» حوارا مطولا مع الدكتور «حسن أحمديان» استاذ العلاقات السياسية في جامعة طهران و الخبير في الشأن المصري و الإيراني، وسيتناول الحوار التالي هذه القضايا.
الوقت: برأیکم كيف ستكون تشكيلة البرلمان المصري القادم بعد إجرا الإنتخابات البرلمانية الاخيرة، وماذا عن المشاركة المتدنية للناخبين؟
أحمديان: طبعا في مصر توجد ثلاثة قوی بشكل عام، و يمكن أن نقسّم القوی الرئيسة في مصر الیوم الی ثلاثة أقسام، و تأتي في مقدمتها الجماعات السياسية التقليدية، وبعد ذلك الدولة العميقة التي لازالت مستمرة في العمل و مسيطرة علی الاوضاع، و ثالثا ما عرفوا بعد ثورة الـ٢٥ من يناير، بـ «شباب الثورة». و جميع المعلومات تشير الی أن معظم هذه القوی لم تشارك في الإنتخابات البرلمانية، و كانت المشاركة متدنية قياسيا بالإنتخابات السابقة التي جرت بعد ثورة الـ ٢٥ من يناير. هنالك العديد من الأسباب التي أدت الی تدني المشاركة في الإنتخابات و يأتي في مقدمتها، «الاقصاء». طبعا كان هناك اقصاء لبعض الحركات، كما أنه توجد أسباب لهذا الاقصاء، و الكل يعلم بان الإقصاء استهدف بعض الحركات و الأحزاب بعينها.
هذا الاقصاء أدی الی إبعاد جزء كبير من الاحزاب المصرية و قواعدها الإجتماعية من المشاركة في الإنتخابات. السبب الثاني هو الإعتقاد بالعودة الی الخلف كما يراه الكثير من المصريين الیوم و يدل مصطلح الدولة العميقة الی هذه العودة الی الوراء، أي إعادة صياغة النظام بشكل جديد لكن بنفس الروح. و بهذا المعنی هناك دولة و مؤسسات ثابتة أعادت إنتاج نظام مبارك باشكال و شخصيات جديدة. وهذه العودة الی الوراء تسببت في زوال الأمل خاصة لدی الشباب في الساحة السياسية المصرية، وهذا أدی الی تدني مشاركة قوی شباب الثورة في الإنتخابات الاخيرة. بالنتيجة و تقديري أنه أياً كانت التركيبة التي أتی بها البرلمان، فانها سوف لن تؤدي الی حل مشاكل مصر السياسية في المدی القريب. فالمشكلة لا تكمن في الإنتخابات بعينها، حيث أن الأزمة في مصر أعمق و أكبر من الإنتخابات البرلمانية. والتركيبة سوف لن تؤثر كثيرا علی مستقبل الحراك السياسي في مصر.
الوقت: هل ستشهد الساحة المصرية مزيدا من الهدوء و الاستقرار بعد إجراء الإنتخابات البرلمانية، أم أن البلاد ستظل تعاني من الانقسام السياسي الحاد و كذلك الممارسات الإرهابية من قبل داعش و غيرها من الجماعات التكفيرية الاخری؟
أحمديان: الكلام عن الهدوء ياتي نتيجة وجود حالة عدم استقرار و إن لم يكن هناك عدم استقرار لن نتكلم عن إعادة الهدوء، وعدم الإستقرار في مصر لم ياتي بسبب قضية، كالإنتخابات، او تزييف الإنتخابات أو قضايا علی هذه الشاكلة. القضية اعمق و أكبر من هذا، عدم الإستقرار الذي نراه في مصر يعود الی أسباب محددة. هناك انقسام رأسي في الساحة المصرية ظهر منذ يوليو ٢٠١٣. هذا الإنقسام ادی الی انقسام مماثل في المجتمع المصري باعتباره القاعدة للقوی السياسية الناشطة. لذلك فإن هذا الإنقسام السياسي الإجتماعي في مصر أدی في نهاية المطاف الی حدوث حالة عدم الاستقرار.
وفي ظل هذه الحالة تنمو حركات كـ داعش وحركات تكفيرية اخری، وتتغذی من الوضع الغير مستقر في مصر. الإنقسام الرأسي في مصر لم يكن يوما متمحوراً حول الإنتخابات، لذلك يجب وضع الإنتخابات في إطارها. الانتخابات هي جزء من عملية لإعادة الشرعية لنظام يريد بناء الشرعية و يريد إستعادة القاعدة الشعبية الشرعية لنفسه. لكن هذا لم يدخل في صميم الخلاف والانقسام الذي خلق حالة عدم استقرار. لذلك فإن الانتخابات البرلمانية أو أي انتخابات في المستقبل وعلی المدی القريب، سوف لن تحدث تغييرات كبيرة في حالة الإنقسام السياسي و الاجتماعي و عودة الإستقرارالسياسي لمصر.
لذلك فإن الإنتخابات بعيدة كل البعد عن معالجة قضية الاستقرار في مصر. إن قرأنا الداخل المصري نجد روايتين حول هذا الانقسام. الرواية الاولی تقول بان هناك نظام انقلابي، اتی بانقلاب عسكري و اسقط حكومة منتخبة و أخذ القوة عنوة عندما هزمته القوی التي أتت بالانتخابات عبر صناديق الاقتراع. وهناك رواية اخری تقول أن هذا النظام هو نظام أتی بثورة شعبية لتصحيح مسار اختطفته قوی بعينها لتتجه به باتجاهات بعيدة عما طلبته قواعدها الإجتماعية. هاتين الرواتين لن تندمجا في أي انتخابات و يصعب حل خلافات الفريقين في أي انتخابات. و بالتالي لن تؤدي الإنتخابات الی حل الخلافات بين هذين التيارين.
أما بالنسبة لداعش و الحركات التكفيرية، هناك قضية هامة هي أن هذه الحركات تتغذی من هذا الانقسام في المجتمع و السياسة المصرية. وفي ظل هذا الإنقسام نمت هذه الحركات و بقت الی هذا الیوم، و بالتالي لا يمكن هزيمة هذه الحركات دون معالجة الانقسام الفكري و السياسي و الاجتماعي في مصر.
الوقت:لماذا لم نشهد اي حماس من قبل الحكومة المصرية لإعادة العلاقات بين القاهرة وطهران رغم إستعداد إيران التام لعودة مثل هذه العلاقات بين البلدين؟
أحمديان: قضية العلاقات المصرية الإيرانية هي قضية شائكة جدا. لكن إن وضعناها في إطار السياسة الخارجية المصرية و من منظور مصري بقرائة إيرانية، يمكن القول بان تاثير الإقتصاد علی السياسة الخارجية ياتي كـ إجابة رقم واحد، بمعنی أن السياسة الخارجية المصرية الیوم و يمكن الرجوع بها الی السبعينات متاثرة جدا بالحالة الإقتصادية الداخلية. حاجات مصر الداخلية و التزاماتها الداخلية تجاه المجتمع و دعم السلع وما الی ذلك، و ضعف الإقتصاد المصري الداخلي، و ضعف النمو، يؤدي الی تاثر سياستها الخارجية من الدول التي تدعم مصر بشكل مباشر. وحالة العلاقة بين مصر و إيران الیوم متاثرة بدعم دول بعينها وهي دول مجموعة مجلس التعاون و وضعها شروط ضمنية او صريحة في بعض الاحيان، حول بناء العلاقات المصرية الايرانية.
وهذا حدث في مراحل تاريخية و خرجت الكثير من الاوراق و الوثائق حول الموضوع و حول وضع الشروط لمساعدة مصر اقتصاديا. بالاضافة الی ذلك في زمن مبارك كان الرئيس مبارك، يستخدم ورقة إعادة العلاقة مع إيران للمجيئ باستثمارات و مساعدات مالیة من الدول العربية لمصر. ولأن إيران أصبحت ورقة في السياسة الخارجية المصرية، بدل أن تكون دولة تستفيد منها مصر في إعادة دورها الإقليمي، بقت قضية تاثير الإقتصاد علی السياسة الخارجية المصرية قضية هامة جدا في عدم تمکينها أو بالأحری منعها مصر من إعادة العلاقة مع إيران.
وثانيا القضية الهامة الیوم في مصر بعد الرئيس مرسي وعدلي منصور والرئيس السيسي، تکمن أن مصر في هذه الفترة انكفئت للداخل. لدی هذا البلد مشاكل داخلية كبيرة تؤدي باي حكومة في مصر سواء ارادت بناء علاقة مع إيران ام لم ترد، تؤدي بها الی الانكفاء الی الداخل لحلحلة القضايا الداخلية، وهذا يحد من مدی تركيزها علی السياسة الخارجية. يؤثر هذا الواقع علی النخب الحاکمة في مصر و يؤدي بالتالي إلی تذبذها وعدم تركيزها في بناء علاقات جديدة مع إيران و مع دول اخری. رغم ذلک اعتقد أن الرئيس السيسي بدأ بسياسة مختلفة عن اسلافه و قد يختلف المستقبل في هذا المجال و إيران بشكل عام، وليست إيران الرسمية بالضرورة، تنظر لهذا التغيير بمنظور ايجابي.
الوقت: كيف تنظرون الی عدم مشاركة مصر في الحرب البرية السعودية ضد الیمن.. هل هو قرار صائب و حكيم من قبل الرئيس عبدالفتاح السيسي، و كيف هي العلاقة الحالیة بين القاهرة و الرياض؟
أحمديان: بالنسبة لليمن وكما اسلفت هناك مؤشرات أن الرئيس السيسي يتجه صوب سياسة مختلفة عن اسلافه، و هذه المؤشرات واضحة في الملف الیمني و الملف السوري و حتی في العلاقة مع السعودية و تركيا. و تاتي قضية تعامل مصر مع حرب الیمن في هذا الاطار. من الواضح أن الرئيس السيسي لا يماشي بالضرورة السياسة السعودية علی عكس الرئيس مبارك الذي كان يسير في جميع الملفات تقريباً وفق أولويات السياسة السعودية او لم يتجه اتجاهاً مغايراً لها علی الأقل. ففي الیمن و في سوريا بشكل ادق، هناك خلافات واضحة و هناك خط مستقل تتبعه مصر، و هذا يدل علی أنه من المحتمل أن نری في المستقبل المتوسط و البعيد سياسة خارجية مستقلة لمصر. في الیمن مصر لديها تجربة تاريخية لم تشأ أن تخوض حربا بالنيابة عن قوی اقليمية اخری، لذلك وجدت و باستراتيجية واضحة المعالم و بدون اي غموض أنه لا مصالح لها في حرب الیمن. وهذه ليست حربا مصرية وأن الدول التي تريد ادخالها في هذه الحرب لا تبحث عن مصالح مصر بل تريد ادخال مصر لصالحها، ولذلك ابعدت مصر نفسها عن حرب الیمن ولم تشأ الدخول فيها.
في نفس الاطار، تَغَيّر دور مصر من لاعب ريادي وصاحب دور قيادي في المنطقة، الی دور تابع منذ عهد الرئيس السادات. في هذه الفترة وان كتب لسياسة الرئيس السيسي النجاح واستمر علی النهج الذي بدأت مؤشراته تظهر، أعتقد أن مصر ستكون لها سياسة خارجية مستقلة علی المستويين الإقليمي و الدولي. و هذا سيؤدي الی المزيد من الاستقرار في الاقليم و سيعيد شيئاً من الموازنة خاصة بين الدول العربية، و سينتهي الإنفراد بالقرار العربي من قبل بعض الدول العربية التي تحرك القرار العربي من خلال قوتها المالیة. عودة مصر لدورها الريادي في المنطقة سيعيد الفهم الاستراتيجي العربي السليم الی الواقع العربي. و ايران ترحّب بدور اقليمي مستقل لمصر، و من الأمور التي يركز علیها الكثيرين في إيران هي أنه وعلی المستوی الإستراتيجي فإن مصر القوية والمستقلة تمثل ربحا استراتيجيا لإيران.
الوقت: لماذا لا تتقدم مصر بشكل رسمي لإعادة علاقاتها السياسية مع سوريا رغم أننا نری دعم غير مباشر من قبل الحكومة المصرية تجاه النظام السوري؟
أحمديان: كما اسلفت حول سياسة مصر تجاه الیمن، في سوريا هناك خلافات واضحة بين مصر من جهة و بين السعودية و تركيا من جهة اخری. طبعا الخلافات المصرية التركية واضحة بسبب قضية الاخوان و دعم تركيا للاخوان و وقوفها ضد ما حدث في يوليو ٢٠١٣ و تسميته لهذه الاحداث بالانقلاب، و وقوفها خلف المعارضة المصرية ضد الرئيس السيسي و مثل هذه الامور. لكن الخلاف بين السعودية و مصر هام جدا لان السعوديين أيضا لم يتوقعوا أن يختلف المصريين معهم، لذلك نری في هذه الفترة أن السياسية المصرية تجاه سوريا تتغير بالتدرج، أي أننا نشاهد حركة ومؤشر هام جدا بنفس الاتجاه الذي تحدثنا عنه، أن سياسة مصر أصبحت تسير بناء علی مصالح مصر القومية بعيدا عن ترجيحات القوی الاقليمية الاخری. و لیست زيارة وزير الإسکان السوري لمصر إلا مؤشر آخر وهام. هذا السياسة الجديدة لم تأتي بالضرورة تاييدا لسياسات الرئيس الاسد او سياسات إيران في سوريا، لكن لا يمکن اعتبارها أيضا تدخل في سياق تأييد المحور المجابه لهؤلاء.
بمعني آخر، سياسة مصر تجاه سوريا تختلف علی المستوی الاستراتيجي مع سياسة السعودية تجاه سوريا، لكنها قد تماشيه علی المستوی السياسي. اي أنه عندما يقال لماذا لا تفتتح مصر سفارتها في دمشق، يمکن القول بأن مصر قد تماشي سياسياً السعودية وذلک بسبب تاثير الاقتصاد في السياسة الخارجية وعدم الانقطاع الكامل مع الارث السياسي في سياسة مصر الخارجية وأمور اخری، لكن استراتيجيا هناك سياسة واضحة: مصر لا تقف مع خيار اسقاط الرئيس الاسد و هذا هام جدا وهو أحد مؤشرات الإستقلال في سياسة مصر الخارجية.