فرضيات وهمية لمبدأ التشيع
لقد تقدم الحديث منا في الصفحات السابقة حول ما يمكن تسميته بنشأة
التشيع ، والتي تبين لنا بوضوح أنه لا فصل هنا بين النشأتين ، نشأة الإسلام ، ونشأة
التشيع ، وأنهما وجهان لعملة واحدة ، إلا أن هناك جماعة من المؤرخين وكتاب
المقالات ممن قادهم الوهم وسوء الفهم إلى اعتبار التشيع أمرا حادثا وطارئ على
المجتمع الإسلامي ، فأخذوا يفتشون عن مبدئه ومصدره ، وأشد تلك الظنون
عدوانية فيه ما تلوكه أشداق بعض المتقدمين والمتأخرين ، هو كونه وليد عبد الله
ابن سبأ ذلك الرجل اليهودي ، الذي – بزعمهم – طاف الشرق والغرب ، وأفسد
الأمور على الخلفاء والمسلمين ، وألب الصحابة والتابعين على عثمان فقتل في عقر
داره ، ثم دعا إلى علي بالإمامة والوصاية ، وإلى النبي بالرجعة ، وكون مذهبا باسم
الشيعة ، فهو كما يتصور هؤلاء وصوروه لغيرهم صنيع ذلك الرجل اليهودي المتظاهر
بالإسلام . وبما أن لهذا الموضوع أهمية خاصة لما احتله من المساحة الواسعة في
أذهان العديد من السذج والسطحيين ، فإنا لا نكتفي ببيان توهم واحد بل نأتي على
ذكر كل تلك الادعاءات واحدة بعد الأخرى ، مع رعاية التسلسل الزمني .
الفرضية الأولى : الشيعة ويوم السقيفة
ليس بخاف على أحد مدى الانعطافة الخطيرة التي حدثت في تأريخ الإسلام
عقب انتهاء مؤتمر سقيفة بني ساعدة ، وما ترتب عليه من نتائج وقرارات
خطيرة .
والحق يقال إن هذا المؤتمر الذي ضم بين صفوفه ثلة كبيرة من وجوه
الصحابة – من المهاجرين والأنصار – قد أغفل عند انعقاده الواجب الأعظم في
إكرام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صاحب الفضل الأكبر فيما وصل إليه الجميع – عندما ترك
مسجى بين يدي أهل بيته وانشغلوا بما كان من غير الإنصاف أن ينسب إليه ( صلى الله عليه وآله ) من
قصور لا عذر فيه في ترك الأمة حائرة به بعد موته .
أقول : ونتيجة لانشغالهم ذاك فقد حرموا من واجب إكرام الرسول ( صلى الله عليه وآله ) جله ،
ففاتهم أعظمه ، وقصروا في تأديته ، وكان لأهل بيته وحدهم ذلك الدور كله ،
فأوفوه ، ولم يألوا في ذلك جهدا .
وإذا كان المؤتمرون في السقيفة قد خرجوا إلى الملأ بقرار كان ثمرة مخاض عسير
واعتراك صعب ، فإنه أوضح وبلا أدنى ريب تبعثر الآراء واختلافها ، بل وظروف
خطرة كان من الممكن أن تودي بالجهد العظيم الذي بذله رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومن معه
من المؤمنين في إرساء دعائم هذا الدين وتثبيت أركانه ، وأوضحت – وذاك لا خفاء
عليه – أن من غير المنطقي لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يرحل – مع أنه لم يفاجئه الموت – دون
أن يدرك هذه الحقيقة التي ليس هو ببعيد عنها ، ولا يمكن أن يتغاضى عنها ، وهو
الذي ما خرج في أمر جسيم إلا وخلف عنه من ينوبه في إدارة شؤون الأمة في فترة
غيابه التي لا يلبث أن يعود منها بعد أيام معدودات ، فكيف بالرحيل الأبدي ؟ !
نعم إن هذا الأمر لا بد وإن يستوقف كل ذي لب وعقل مستنير .
كما أن الاستقراء المتأني لأحداث السقيفة قد أوضح وبقوة في أثناء المؤتمر
وبعده وجود تيار قوي ومتماسك تبنته جملة من وجوه الصحابة ومتقدميها ،
وعمدت إلى التذكير بوجوده والإجهار به ، ولو قادهم هذا الأمر إلى الاقتتال دون
تنفيذه ، وذاك الأمر هو الإصرار على إيكال أمر الخلافة إلى علي بن أبي طالب ( عليه السلام )
دون غيره ، رغم ابتعاده ( عليه السلام ) عن ساحة الاعتراك وميدان التنازع في تلك السقيفة .
ولعل تمسك هذه الثلة من الصحابة بموقفها من بيعة الإمام دون غيره هو ما
دفع بعض المؤرخين إلى الذهاب بأن التشيع كان وليد هذا المؤتمر ونتاج مخاضه ،
وأن يليهم آخرون يتعبدون بهذا الرأي ويرتبون من خلاله تصوراتهم وأفكارهم ،
فيتشعب ذلك إلى جملة واسعة من المتبنيات غير الواقعية والقائمة على أرض واسعة
من الأوهام والاسترسال غير المنطقي .
ولعل هذا التصورات تعتمد في فهمها أساسا لمبدأ نشأة التشيع على ما رواه
الطبري وغيره عن مجريات هذا المؤتمر وما ترتب عليه من نتائج ، دون أن تمد
بصرها إلى أبعد من هذه النقطة اللامعة التي أعمتهم عن التأمل في أبعادها .
قال الطبري : اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة ،
فبلغ ذلك أبا بكر فأتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح ، فقال : ما هذا ؟ فقالوا :
منا أمير ومنكم أمير ، فقال أبو بكر : منا الأمراء ومنكم الوزراء – إلى أن قال : –
فبايعه عمر وبايعه الناس ، فقالت الأنصار – أو بعض الأنصار – : لا نبايع إلا عليا .
ثم قال ( أي الطبري ) : أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير
ورجال من المهاجرين ، فقال : والله لأحرقن عليكم أو لتخرجن إلى البيعة :
فخرج عليه الزبير مصلتا بالسيف فعثر ، فسقط السيف من يده ، فوثبوا عليه
فأخذوه .
وقال أيضا : وتخلف علي والزبير ، واخترط الزبير سيفه وقال : لا أغمده حتى
يبايع علي . فبلغ ذلك أبا بكر وعمر فقالا : خذوا سيف الزبير ( 1 ) .
وقال اليعقوبي في تأريخه : ومالوا مع علي بن أبي طالب ، منهم : العباس بن عبد
المطلب ، والفضل بن العباس ، والزبير بن العوام ، وخالد بن سعيد بن العاص ،
والمقداد بن عمرو ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، والبراء
ابن عازب ، وأبي بن كعب ( 2 ) .
وروى الزبير بن بكار في الموفقيات : إن عامة المهاجرين وجل الأنصار كانوا
لا يشكون أن عليا هو صاحب الأمر .
وروى الجوهري في كتاب السقيفة : أن سلمان والزبير وبعض الأنصار كان
هواهم أن يبايعوا عليا .
وروى أيضا : أنه لما بويع أبو بكر واستقر أمره ، ندم قوم كثير من الأنصار على
بيعته ، ولام بعضهم بعضا ، وهتفوا باسم الإمام علي ، ولكنه لم يوافقهم ( 3 ) .
وروى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : كان أبو ذر وقت أخذ البيعة غائبا عن
هذه الأحداث ، فلما جاء قال : أصبتم قناعة ، وتركتم قرابة ، لو جعلتم الأمر في أهل
بيت نبيكم لما اختلف عليكم الاثنان .
وقال سلمان : أصبتم ذا السن ، وأخطأتم المعدن ، أما لو جعلتموه فيهم ما
اختلف منكم اثنان ، ولأكلتموها رغدا .
وهكذا فمن خلال هذه النصوص المتقدمة وغيرها اعتقد ذاك البعض – الذي
أشرنا إليه سابقا – أن مبتدأ التشيع ونشأته كان في تلك اللحظات الحرجة في تأريخ
الإسلام ، متناسين أن ما اعتمدوه في بناء تصوراتهم هو ما ينقضها ويثبت بطلانها ،
فإن المتأمل في هذه النصوص يظهر له وبوضوح أن فكرة التشيع لعلي ليست وليدة
هذا الظرف المعقد ، وثمرة اعتلاجه ، ونقيض تصوره ، بقدر ما تؤكد على أن هذه
الفكرة كانت مختمرة في أذهانهم ومركوزة في عقولهم ولسنين طوال ، فلما رأت هذه
الجماعة انصراف الأمر إلى جهة لم تكن في حساباتهم ولا في حدود تصوراتهم ،
وانحساره عما كان معهودا به إليهم ، عمدوا إلى التمسك به بالاجتماع في بيت علي
والإعلان صراحة عن موقفهم ومعتقدهم .
نعم إن من غير المتوقع والمعهود أن يجتمع رأي هذه الجماعة – التي تؤلف
خلاصة غنية من متقدمي الصحابة – على هذا الأمر في تلك اللحظات المضطربة
والمليئة بالمفاجئات ، وأن يترتب عليه موقف موحد ثابت ، فهذا الأمر يدل
بوضوح على أنه ما كان وليد يومه ونتاج مخاضه .
ومما يؤكد ذلك ويقوي أركانه ما نقلته جميع مصادر الحديث المختلفة من
نداءات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتوصياته بحق علي وعترته وشيعته في أكثر من مناسبة
ومكان ، وما كان يشير إليه ( صلى الله عليه وآله ) من فضل شيعة علي ومكانتهم ، والتأكيد على
وجوب ملازمتهم ، وفي هذا دلالة لا تقبل النقض على أن التشيع ما كان وليد
السقيفة أو ردة رافضة آنية لمجريات أحداثها ، بل إن هذا الوجود يمتد عمقا مع
نشأة الإسلام واشتداد عوده في زمن النبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) وحياته المباركة المقدسة .
