إنتقلت مفاوضات جنيف السورية من مرحلة الطورائ إلى مرحلة الإحتضار مع إعلان الهيئة التفاوضية العليا للمعارضة وقف المفاوضات “إلى حين تحسن الظروف لتصبح ملائمة للتفاوض” كما قال منسق المعارضة “رياض حجاب”. كلام “حجاب” يأتي بعد سلسلة من القرارت التي صدرت عن الفصائل المنضوية تحت “وفد الرياض” لنسف المفاوضات بدأت بدعوة حركة “أحرار الشام” المصنّفة إرهابية، لتمر عبر “تغريدة” كبير المفاوضين وممثل “جيش الإسلام” في مباحثات جنيف3، التي دعى فيها جميع الفصائل لإشعال الجبهات من جديد، وتصل إلى الجنوب السوري حيث أصدرت جبهة ثوار سوريا، إحدى الفصائل المسلحة في الجنوب السوري، بياناً طالبت فيه هيئة العليا للتفاوض لإيقاف المفاوضات والانتفال إلى العمل العسكري.
إحتضار المفاوضات تأتي بعد فترة على دخول الهدنة مرحلة “الموت السريري” التي تنذر بدفن مقرّرات جنيف في المقبرة الأوروبية، وبالتالي فتح صفحة جديدة عنوانها طاولة سياسيّة لا تضم إرهابيين، وتضم المعارضات الآخرى كـ “منبر موسكو-الأستانة” و”مؤتمر القاهرة” وهما طرفان لا تعطيهما الأمم المتحدة نفس الأهمية التي تعطيها للهيئة العليا للمفاوضات، إضافةً إلى تغييب أي بند يتحدّث عن دون شروط مسبقة. لا ندري الأسس الفلسفية التي تعتمد عليها هيئة الرياض للحديث عن تسوية شاملة، فهل صمدت الدولة السورية 5 سنوات، رغم كافّة الخسائر، حتى تطيح بسنوات الصمود على طاولة جنيف لجماعات ظهرت مؤخراً؟ لماذا تعطي هذه الهيئة التي لا تمتلك من التأييد الشعبي والسيطرة الميدانية ما تمتلكه الدولة السورية لنفسها الحق في فرض القرار على الطرف المقابل؟، الجواب واضح لأنها تستند إلى أجندة سياسية سعودية-تركية- قطرية لا تفقه أُسس الحوار السياسي وتتخذ من شعار “إما أنا أو لا أحد” مبدأً لها.
حاول “حجاب” رمي الكرة في ملعب الحكومة السورية عبر التصويب عليها مستخدماً شمّاعة “الهدنة”، وداعياً لإرسال بعثة مراقبة دولية الى حلب، في خطوة تهدف لتدويل الأزمة، ما يعد إنتهاكاً واضحاً لروح مفاوضات جنيف التي تنص على أن السوريين يجب أن يعملون على التسوية “دون شروط مسبقة وتدخل خارجي”، وهذا ما رفضه، رئيس الوفد الحكومي في مفاوضات جنيف، “بشار الجعفري” قائلاً: “إن إنهم يعدون لتحويل النزاع السوري لنزاع دولي، ويدعون لتدخل خارجي واسع في الشؤون الداخلية السورية.. الحكومة تعارض أي تواجد لقوات عسكرية أجنبية على أراضيها”.
لم تكن خطوة “تدويل الأزمة” آخر ألاعيب وفد الرياض، بل عمد وفي إطار دعم إعلامي مبرمج على إتهام الجيش لسوري في نقض الهدنة رغم أن تل العيس كان دليلاً واضحاً على خرق الهدنة من قبل الطرف المقابل التي تلطّى تحت عباءة جبهة النصرة، إلا أن ذلك لن يمنع دمشق من إستكمال أنشطتها في مكافحة الإرهاب، وفق الجعفري، مستندةً إلى قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، الذي يؤكد على وجود مسارين، سياسي وعسكري، وبالتالي فإن “مكافحة الإرهاب، إذن، عمل مشروع تماما يقوم به الجيش السوري وحلفاؤه وفقا للقرار”. غاب عن حجاب أن الهدنة لا تشمل التنظيمات الإرهابية كجبهة النصرة وتنظيم داعش.
رغم أن فشل الجولة الحالية من محادثات جنيف لم يكن أمراً مفاجئاً، شأنه في ذلك شأن مصير “الهدنة” التي باتت صفحة من الماضي، إلا أن هذا الفشل يؤسس لواقع جديد ترتسم معالمه في الميدان السوري، وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى التالي:
أولاً: بدأ التلويح بوقف المفاوضات منذ نجاح الجيش السوري في تحرير مدينة تدمر السورية من تنظيم داعش الإرهابي، الأمر الذي وجدت فيه الهيئة ومن خلفها في غرف القرار التركية والسعودية “إنكساراً جديداً يعزّز أوراق النظام في جنيف”، لينتقل هذا الأمر إلى الميدان، أي إعلانهم وقف الهدنة والإنسحاب من المفاوضات، “مع إستكمال الخطوات الأخير للإعداد للمعركة الكبرى التي تنتظر ساعة الصفر”.
ثانياً: لم تكن لتحصل هذه المفاوضات لولا النجاحات التي حقّقها الجيش السوري في مدينة حلب قبل بدء مفاوضات جنيف التي أوقعت الجيش السوري وحلفاءه في فخ الهدنة التي كلّفتهم الكثير. عندما يفشلون في الميدان يلجؤن لطاولة المفاوضات بغية إعادة ترتيب أوراقهم الميدانية، ليُفشلوا طاولة المفاوضات من جديد وينتقلون إلى الميدان، ويفشلون في الميدان ويلجؤن إلى المفاوضات.. وتتكرّر الحكاية.
ثالثاً: هناك سيطرة واضحة للمتطرفين على قرار الهيئة العليا للمفاوضات، خاصةً أن تجربة الأيام الماضية تؤكد سيطرة جيش الإسلام وأحرار الشام، الذين لم يرغبوا من البداية في إجراء أي مفاوضات وقدموا شروطا مسبقة ولا يزالون يعولون على الميدان، على قرار وفد الهئية العليا، كيف لا وهم من يملكون زمام الأمور في الميدان.
إن التطورات الأخيرة تهدف بشكل رئيسي للحؤول دون قيام الجيش السوري بإستعادة مدينة حلب، حتى من المناطق التي يسيطر عليها تنظيم داعش وجبهة النصر الإرهابيين، لأن ذلك يعني خروج سوريا بشكل تدريجي من نفق الأزمة الذي بدأت عام 2011، فرحجان كفّة الميدان تعني الإنتصار في السياسة على أصحاب الأجندات السعودية والتركية. إن السبيل الأنجع للتفاوض مع كافّة الجماعات الإرهابية يكمن في “لغة السلاح” التي لا يفقهون غيرها، وما عداً ذلك إضاعة للوقت وإطالة للأزمة ومعانات الشعب السوري.