طرحت فرنسا قبل عدّة أشهر مبادرة لتسوية القضية الفلسطينية من خلال الدعوة لإستئناف المفاوضات بين الكيان الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس التي كانت ترعاها أمريكا والمتعثرة منذ سنوات.
وتشير التجارب السابقة إلى أن الدول الغربية تسارع بين الحين والآخر إلى إعلان مبادرات لتسوية القضية الفلسطينية كلما تمكن الشعب الفلسطيني من تحقيق إنتصارات مهمة على الكيان الإسرائيلي. فمثلا بادرت أمريكا إلى عقد محادثات أوسلو بعد وصول الإنتفاضة الفلسطينية الأولى المعروفة بإسم “إنتفاضة الحجارة” إلى ذروتها، فيما تم إجراء محادثات تسوية في مدينة “شرم الشيخ” المصرية بعد إندلاع الإنتفاضة الفلسطينية الثانية المعروفة بـ “إنتفاضة الأقصى” ، وتمخض عن هذه المحادثات إتفاق جزئي وفقاً لقراري الأمم المتحدة 242 و 338.
وكانت الإنتفاضة الفلسطينية الأخيرة التي تسمى أيضاً “إنتفاضة القدس” أو “إنتفاضة السكاكين” قد إندلعت بشكل خاص في القدس الشرقية والضفة الغربية في مطلع أكتوبر / تشرين الأول 2015 وهي مستمرة لحد الآن رغم الإجراءات القمعية للكيان الإسرائيلي التي أدت حتى الآن إلى إستشهاد وجرح وإعتقال الكثير من الفلسطينين معظمهم من الشباب.
ورغم إن المبادرة الفرنسية تصب في الحقيقة بخدمة كيان الإحتلال الإسرائيلي بحسب المراقبين، إلاّ أن رئيس وزراء هذا الكيان وعدد آخر من المسؤولين الإسرائيليين أعلنوا عن رفضهم لهذه المبادرة، وطالبوا بإستئناف مفاوضات التسوية مع السلطة الفلسطينية بشكل مباشر ودون أيّ شروط مسبقة.
وهناك عدّة تساؤلات تطرح في هذا المجال بينها؛ لماذا يرفض كيان الإحتلال المبادرة الفرنسية رغم إنها صادرة عن دولة تربطها علاقة جيدة مع هذا الكيان وتصب في نهاية المطاف بصالحه، وقد يعرضه رفضها إلى إنتقادات واسعة من قبل المجتمع الدولي؟
للإجابة عن التساؤلات ينبغي الإشارة إلى ما يلي:
- طُرحت في السابق مبادرة لتسوية القضية الفلسطينية على أساس “حل الدولتين”، ونالت هذه المبادرة موافقة بعض الأطراف الفاعلة والمؤثرة في الكيان الإسرائيلي باعتبارها ستمهد الأرضية للتعايش السلمي بين الفلسطينيين والمستوطنين من جهة، وتدعم موقف السلطة الفلسطينية التي لم تألو جهداً في دعم الكيان الإسرائيلي لقمع الإنتفاضة الفلسطينية من جهة أخرى.
- بعد تعيين وزير خارجية الكيان الإسرائيلي السابق “أفيغدور ليبرمان” في منصب وزير الحرب في هذا الكيان قبل عدّة أيام، أعرب الكثير من المراقبين عن إعتقادهم بأن المبادرة الفرنسية للتسوية باتت بحكم الميتة بسبب رفض ليبرمان لهذه المبادرة. ومن هنا يمكن فهم رفض نتنياهو لهذه المبادرة أيضاً لأنه يدرك تماماً أنه ليس هناك إجماع داخل حكومته بشأن هذا الموضوع من جانب، ولخشيته كذلك من الإنتقادات الواسعة التي ستوجه له من قبل معارضيه في الحكومة، وهو ما يصب بالتالي في مصلحة ليبرمان الغريم والمنافس السابق لنتنياهو داخل الإئتلاف الحكومي. ومن المعلوم أن ليبرمان يرفض بشدة أيّ مسعى لإجراء محادثات مع السلطة الفلسطينية على أساس حدود عام 1967 وتشكيل دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية.
- على فرض قبول الكيان الإسرائيلي لدعوة فرنسا لإجراء مفاوضات تسوية مع السلطة الفلسطينية، يبقى رفض الجناح الفلسطيني الآخر الذي يقود المقاومة والمتمثل بحركتي حماس و “الجهاد الإسلامي” لهذه المفاوضات وإصراره على مواصلة الكفاح لإستعادة الحقوق المغتصبة في الأرض والوطن عائقاً رئيسياً أمام هذه المبادرة، لأن المقاومة لا تعترف أصلاً بالكيان الإسرائيلي وتتعامل معه كونه محتل لا يمتلك أيّ شرعية للبقاء في أيّ شبر من الأراضي الفلسطينية المغتصبة منذ العام 1948.
من هنا يمكن الجزم بأن المبادرة الفلسطينية لن يكتب لها النجاح حتى وإن وافق الكيان الإسرائيلي على إجراء مفاوضات تسوية مع السلطة الفلسطينية وتوصل الجانبان إلى إتفاق بهذا الخصوص لأن المقاومة الفلسطينية بقيادة حماس و ” الجهاد الإسلامي” سترفض مثل هذا الإتفاق لأنها تعتقد بأنه لن يحقق مطالب الشعب الفلسطيني وفي مقدمتها حق العودة وباقي الحقوق المغتصبة في الأرض والوطن.
ومن الطبيعي التأكيد هنا على أن قبول السلطة الفلسطينية بإجراء مفاوضات تسوية مع الكيان الإسرائيلي سواء في إطار المبادرة الفرنسية أو غيرها يمنح شرعية لكيان الإحتلال وهو ما يرفضة الشعب الفلسطيني وقواه المقاومة. ولهذا سيكون الفشل حليف أي إتفاق بين السلطة وتل أبيب وهذا ما أثبتته أيضاً التجارب السابقة سواء ما يتعلق بإتفاق أوسلو أو غيره من الإتفاقيات الأمنية بين السلطة وكيان الإحتلال.
- من المخاطر التي سيكتنفها أي إتفاق بين السلطة الفلسطينية والكيان الإسرائيلي في إطار المبادرة الفرنسية هو تحول الصراع من فلسطيني – إسرائيلي إلى فلسطيني – فلسطيني لأن تل أبيب ستشرط حتماً على السلطة قمع الإنتفاضة الفلسطينية بدعوى إقرار الأمن في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وفي حال حصول صراع فلسطيني – فلسطيني لاسمح الله فإن الدولة الفلسطينية التي ستتمخض عن أيّ إتفاق ينجم عن المبادرة الفرنسية ستكون في مهب الريح لأنها ستكون مرفوضة أصلاً من الشعب الفلسطيني وفصائله المقاومة لاسيّما حماس و “الجهاد الإسلامي”.
- يرى البعض أن القلق الإسرائيلي من المبادرة الفرنسية يكمن في احتمال توجه فرنسا إلى الإعتراف بدولة فلسطين، وما سيجره ذلك من إقدام دول أوروبية أخرى على إتخاذ نفس الموقف. ولكن بموازاة ذلك، فإن الكثير من التقديرات تشير إلى أن فرص نجاح المبادرة الفرنسية ضئيلة للغاية أيضاً بفعل إنعدام الثقة بين نتنياهو ورئيس السلطة الفلسطينية. ولهذا يعتقد الكثير من المراقبين أن المبادرة الفرنسية ستتلاشى بمرور الوقت، شأنها شأن المبادرات السابقة. فيما وصفها آخرون بأنها قنبلة صوتية بلا معطيات جديدة.
- على فرض إلتئام المؤتمر الدولي الذي تتطلع باريس لإستضافته، فإن حظوظه في إطلاق عملية تفاوضية ذات مغزى تبدو معدومة، وعلى القيادة الفلسطينية أن تمعن النظر في الفرصة التي توفرها هبّة الشباب الفلسطيني الذين رسموا بوعيهم وتضحياتهم الجسيمة طريقاً مغايراً لانتزاع الحقوق المغتصبة بدلاً من الانتظار والتسول على أبواب أطراف لا همّ لها سوى تحقيق مصالحها حتى وإن إستمرت مأساة فلسطين عقوداً أخرى.
هذه الأسباب وغيرها تجعل المراقبين يشككون بإمكانية نجاح المبادرة الفرنسية، وتجعلهم يعتقدون أيضاً بأن المبادرة وُلدت ميتة بسبب رفض فصائل المقاومة الفلسطينية لها من جانب، والكيان الإسرائيلي من جانب آخر.
ويرى بعض المحللين إن الهدف الأساسي من المبادرة الفرنسية ليس التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية بقدر ما تمثل مسعى من قبل باريس للعب دور أكبر في الشرق الأوسط، خصوصاً في ظل التطورات المتسارعة التي تشهدها المنطقة لاسيّما ما يتعلق بالأزمة السورية والتوترات السياسية والعسكرية في العراق بالإضافة إلى الأزمة اليمنية وتداعياتها على المشروع الغربي في عموم المنطقة.
ويستدل أصحاب هذا الرأي على أنه ليس بإمكان فرنسا أو غيرها من الدول الأوروبية الضغط على الكيان الإسرائيلي خصوصاً فيما يتعلق ببناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، طالما بقيت واشنطن هي الداعم الأساس لهذا الكيان في هذا المجال وفي غيره من المجالات.
أخيراً يمكن القول بأن المبادرة الفرنسية تمثل فخّاً أوروبياً للشعب الفلسطيني من أجل إجهاض إنتفاضته وإخراجها من سكّتها الطبيعية لإدخالها في نفق المفاوضات.