كانت العلامة التي عثر عليها مخطوطة على احد الجدران القريبة من مسجد الموصل، الذي اعلن منه زعيم {داعش} قبل سنتين قيام ما سمي بـ {دولة الخلافة} ، صغيرة ولكنها رمزت الى حالة من الانتفاضة الشعبية. «م» تغزو شوارع المدينة حرف «م» الذي خط باستخدام علبة بخ الصبغ، والذي يرمز الى كلمة «مقاومة»، كان جزءاً من الحملة التي تقوم بها «كتائب الموصل»، وهي جماعة معارضة تعمل في الخفاء داخل مدينة الموصل، هذه الجماعة بثت شريط فيديو عرضت من خلاله تفاصيل منجزاتها لهذا الشهر. جاء رد فعل عصابات «داعش» على هذا التحدي سريعاً ووحشياً، إذ اعدمت ثلاثة شبان اتهمتهم بالمشاركة في ذلك العمل. بعد ذلك بث الارهابيون شريط فيديو يعبر عن زاويتهم ظهر فيه الشبان جاثين على ركبهم مرتدين حلة السجن البرتقالية قبل أن تطلق عليهم النار في الرأس، وعلى الجدار خلفهم خط الحرف «م» للدلالة على جرمهم المزعوم.
كانت هناك ايضاً علبة لبخ الصبغ ملقاة على الارض بالقرب منهم محاطة بالدماء. يفيد تقرير من داخل المدينة بان عصابات «داعش» قد نفذت خلال الشهر الحالي مزيداً من عمليات الاعتقال والاعدام المماثلة، وهذه دلالة واضحة على مدى شعورها باليأس وهي تترقب قرب خسارتها للموصل. الموصل هي اكبر المدن الخاضعة لسيطرة «داعش» ولها دور مركزي في ادعاء الجماعة بأنها قد أعادت الى الوجود ما تسميه «دولة الخلافة». فبعد مرور اقل من شهر على سقوط الموصل في حزيران 2014 ظهر الارهابي ابو بكر البغدادي على منبر المسجد ليدعو المسلمين من هناك الى أن يتبعوه.
خطوة مهمة يقول المسؤولون العراقيون والاميركيون ان استعادة المدينة ستكون خطوة مهمة باتجاه تجريد التنظيم الارهابي من الاراضي التي يسيطر عليها وارغامه على العودة كما كان، مجرد جماعة من جماعات الاجرام. ويضيف هؤلاء المسؤولون أن المسألة مسألة وقت ليس إلا. وكان رئيس الوزراء حيدر العبادي قد تعهد باستعادة الموصل بنهاية هذه السنة، وفي الاسبوع الماضي القت الطائرات العراقية على المدينة 7 ملايين نسخة من منشور يدعو الاهالي الى أن يستعدوا لـ «ساعة الصفر».
وإذ بدأت القوات العراقية والجنود الاميركيون العاملون معها بصفة مستشارين بالتحرك الى مواقع اقرب جاعلين من قاعدة القيارة الجوية التي تمت استعادتها مؤخراً، والواقعة على بعد نحو 40 كيلومتراً جنوبي الموصل، مركزاً لوجستياً للمعركة المنتظرة كانت عصابات «داعش» تستعد للمعركة هي الاخرى. يقول ممثل عن «كتائب الموصل» اشترط عدم ذكر اسمه: «عصابات داعش في الموصل اليوم اضعف ولكنها تلجأ الى وسائل قمعية عنيفة، مثل الاعتقالات العشوائية، في محاولة للظهور بمظهر المسيطر على الاوضاع.» ووصف المتحدث الاجواء في المدينة بانها «متوترة» مضيفاً أن المتشدّدين يعيشون حالة «فوضى». واضاف أن عصابات «داعش» شنت من جانبها موجة اعتقالات جماعية بعد أن بدأت مجموعته بحملة الكتابة على الجدران قبل نحو شهرين. يمضي هذا المتحدث فيقول أن الارهابيين باشروا اقامة سواتر جديدة تحيط بالاحياء الواقعة في الاجزاء الشمالية والشرقية والجنوبية من المدينة كما اقاموا الحواجز الكونكريتية في بعض الاحياء وهذا يدل حسب تصوره على أنهم يحاولون عزل تلك الاحياء لقلقهم من انقلاب سكانها عليهم بمجرد ان تقترب القوات العراقية.
حفر خندق يقول الشيخ محمود الجربا وهو احد شيوخ عشائر المدينة دائم الاتصال بمعارفه الذين في الداخل: «انهم يقومون بالاعتقالات بلا تحقيق وبنحو لم يسبق له مثيل.» ثم يضيف: «انهم حسب علمي يحفرون خنادق جديدة حول المدينة حالياً، وهم لم يتوقفوا عن الحفر مطلقاً.» خلال الشهرين الماضيين اوقفت عصابات «داعش» استخدام الانترنيت في الموصل في محاولة لمنع تسرب المعلومات المتعلقة بمواقعها الى الخارج.
كما قطعت معظم شبكات الهواتف النقالة منذ ما يزيد على عام ونصف العام، ولكن بعض اجزاء تلك الشبكات بقيت تعمل، واولئك الذين لهم اقارب في الموصل يتلقون بين حين وآخر انباء عن احبتهم فيمنحهم هذا ومضات من الحياة تبقى تلتمع في ظلام المدينة. لا توجد تقديرات دقيقة لعدد المدنيين الباقين في المدينة، ولكن الامم المتحدة تقول ان اكثر من مليون شخص قد يفرون من الموصل والنواحي المحيطة بها خلال الهجوم. ويقول المسؤولون العراقيون واقارب اهالي المدينة ان الرقم قد يكون اعلى من ذلك لأن هناك الوفا من الناس الذين تدفقوا على الموصل بعد الهجمات التي شهدتها مناطق اخرى كانت تحت سيطرة تنظيم «داعش». يقول اثيل النجيفي محافظ نينوى السابق المقيم حالياً في مدينة اربيل ان النازحين قد جاؤوا من مناطق اخرى مثل القيارة، التي استعادتها القوات العراقية هذا الشهر. ويضيف أن هناك نازحين جاؤوا من مناطق ابعد، مثل مدينة منبج في سوريا التي استعادتها قبل شهر قوات المتمردين المدعومين من قبل الولايات المتحدة.
استعدادات حكومية وجود اعداد كبيرة من المدنيين يفاقم تعقيدات الهجوم الذي يتوقع أن يعتمد بشدة على مساندة طيران التحالف. كذلك تحاول الحكومة العراقية ووكالات الاغاثة تهيئة الاستعدادات لاستقبال اعداد هائلة من النازحين ولكنهما يحذران من عدم كفاية الموارد. تقول امرأة كانت تسكن مدينة الموصل سابقاً ان عصابات «داعش» اخذت تستولي على المنازل الفارغة لايواء النازحين الى المدينة فيها. وتضيف هذه المرأة أن اعداد الناس قد تزايدت كثيراً وأن اصدقاءها واقاربها اخبروها بأن هناك حملة تفتيش مكثفة عن المنازل تجري في الموصل. تقول المرأة المقيمة حالياً في مدينة دهوك وطلبت عدم ذكر اسمها: «لقد استحوذ الشك عليهم، لذا تصاعدت عمليات التفتيش كثيرا عما كانت عليه من قبل.» في ذلك الفيديو الذي عرض عملية اعدام المتهمين باستخدام البخاخ لرسم العلامة اعدمت عصابات «داعش» ايضاً ثلاثة رجال بعد اتهامهم بالخيانة. كان احد المتشددين في الفيديو يقول متهماً الرجال بأنهم عيون اميركا: «ارسلوا عملاءكم وجواسيسكم فسيوفنا جاهزة لهم متعطشة لدمائهم.»
اعداد الارهابيين يقدر الجيش الاميركي أن عدد الارهابيين المتبقين في الموصل يتراوح بين ثلاثة آلاف واربعة الاف وخمسمائة ارهابي. وقد اسفرت الضربات الجوية التي تقودها اميركا عن القضاء على 12 من قياديي «داعش» في الموصل وحدها خلال الشهرين الاخيرين، كما يقول العقيد «جون دوريان John Dorrian» المتحدث باسم التحالف في تقرير له مؤخراً. ويضيف دوريان قائلاً: «هذه الضربات لها آثار مربكة لمنظومة القيادة والسيطرة لدى العدو، وهذا أمر مهم في تهيئة الظروف الملائمة لتحرير الموصل.» يقول بعض المسؤولين ان هناك اشخاصاً ممن تعاونوا مع «داعش» يحاولون الآن تغيير مواقعهم. يقول أبو بكر كبي رئيس الوقف السني في الموصل، وهو المسؤول الذي يمثل مساجد الموصل: «حتى اعضاء التنظيم باتوا يحاولون الانفضاض عنه الان.»
ويضيف أنه لا يزال على اتصال باشخاص من داخل المدينة، وان التقارير التي تصل اليه تفيد بأن هناك اعضاء في التنظيم الارهابي يسعون الان لتركه رغم سيطرة «داعش» على مساجد الموصل. تقول ساكنة الموصل السابقة ان الاعتقالات الآن تركز على استهداف قدامى الضباط الذين كانوا يخدمون في الجيش خلال فترة حكم صدام حسين. وتمضي مبينة: «تعلم عصابات «داعش» أن هؤلاء الضباط قد تكون لديهم صلات ببعض الاشخاص في الجيش وهم خائفون من أن يتعاونوا مع الجيش أو ينقلبوا ضدهم.» ارتباك الإرهابيين يؤكد آخر من اهالي الموصل الذين تمكنوا من الفرار ولكنه لا يزال على اتصال بأخيه الباقي في المدينة أن الضباط السابقين يستهدفون. إذ جرى اعتقال أحد أقربائه قبل خمسة ايام، وهو في الوقت نفسه قريب مباشر لاحد ضباط الجيش السابقين.
عصابات «داعش» لا تستهدف عوائل الضباط السابقين فقط بل اقاربهم ايضاً، على حد قول هذا الشخص. يقول النجيفي ان هناك دلالات ايضاً على شيوع حالة من التشوش والارتباك بين صفوف «داعش» وان الفساد يتصاعد داخل الجماعة. فبرغم الحظر المفروض على مغادرة المدينة يتمكن بعض السكان من الهرب بعد ان يدفعوا رشى باهظة. ولكن هناك كثيرون لا يملكون الوسائل الكافية لمثل ذلك وهؤلاء لا يبقى بايديهم سوى أن يلعبوا لعبة الانتظار. تقول المرأة من دهوك: «يقول من في الموصل ان الامر يستحق التضحية بأي شيء في نهاية المطاف، حتى لو كان معنى هذا دمار منازلهم. فعصابات «داعش» لا تزال لها يد قوية رغم كل الضعف الذي اصابها، وهي اليوم اقسى واعتى مما يمكن تصوره». ترجمة – أنيس الصفار * صحيفة واشنطن بوست