مسلم بن عقيل بن أبي طالب ( عليهم السلام )
أمه أم ولد تسمى علية ( 1 ) اشتراها عقيل من الشام .
روى المدائني قال : قال معاوية بن أبي سفيان لعقيل بن أبي طالب يوما : هل من
حاجة فأقضيها لك ؟ قال : نعم ، جارية عرضت علي وأبى أصحابها أن يبيعوها إلا
بأربعين ألفا ، فأحب معاوية أن يمازحه فقال : وما تصنع بجارية قيمتها أربعون ألفا
وأنت أعمى تجتزي بجارية قيمتها أربعون درهما ! قال : أرجو أن أطأها فتلد لي
غلاما إذا أغضبته ضرب عنقك بالسيف ، فضحك معاوية وقال : ما زحناك يا أبا يزيد !
وأمر فابتيعت له الجارية التي أولد منها مسلما ، فلما أتت على مسلم سنون ( 2 ) وقد
مات أبوه عقيل ، قال مسلم لمعاوية : إن لي أرضا بمكان كذا من المدينة وقد أعطيت
بها مائة ألف وقد أحببت أن أبيعك إياها ، فادفع لي ثمنها ، فأمر معاوية بقبض
الأرض ، ودفع الثمن إليه ، فبلغ ذلك الحسين ( عليه السلام ) فكتب إلى معاوية : ” أما بعد . . . فإنك
غررت غلاما من بني هاشم فابتعت منه أرضا لا يملكها ، فاقبض منه ما دفعته إليه ،
وأردد إلينا أرضنا ” .
فبعث معاوية إلى مسلم ، فأقرأة كتاب الحسين ( عليه السلام ) وقال له : أردد علينا مالنا وخذ
أرضك ، فإنك بعت ما لا تملك . فقال مسلم : أما دون أن أضرب رأسك بالسيف فلا .
فاستلقى معاوية ضاحكا يضرب برجليه ، ويقول له : يا بني هذا والله قاله لي أبوك
حين ابتعت له أمك .
ثم كتب إلى الحسين : إني قد رددت أرضكم وسوغت مسلما ما أخذ ( 1 ) .
وروى أبو مخنف وغيره : أن أهل الكوفة لما كتبوا إلى الحسين دعا مسلما
فسرحه مع قيس بن مسهر ، وعبد الرحمن بن عبد الله ، وجماعة من الرسل ، فأمره
بتقوى الله وكتمان أمره واللطف ، فإن رأى الناس مجتمعين عجل إليه بذلك ، وكتب
إليهم : ” أما بعد : فقد أرسلت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن
عقيل وأمرته أن يكتب لي إن رآكم مجتمعين ، فلعمري ما الإمام إلا من قام
بالحق ” ( 2 ) ، وما يشاكل هذا .
فخرج من مكة في أواخر شهر رمضان وأتى المدينة ، فصلى في مسجد رسول
الله ( صلى الله عليه وآله ) وودع أهله وخرج فاستأجر دليلين من قيس فجارا عن الطريق واشتد
عليهم العطش فلم يلبثا أن ماتا .
وأقبل مسلم ومن معه حتى انتهوا إلى الماء وقد أشار الدليلان إليهما عليه ، فكتب
مسلم مع قيس إلى الحسين ( عليه السلام ) من المضيق من بطن خبت ( 3 ) أما بعد : فإني خرجت
من المدينة ومعي دليلان فجارا عن الطريق وعطشنا ، فلم يلبثا أن مات وانتهينا إلى
الماء فلم ننج إلا بحشاشة أنفسنا ، وقد تطيرت من وجهي هذا ، فكتب إليه
الحسين ( عليه السلام ) ، أما بعد : ” فقد خشيت أن يكون ( 4 ) حملك على هذا غير ما تذكر
فامض لوجهك الذي وجهتك له والسلام ” .
فسار مسلم حتى مر بماء لطئ فنزل ، ثم
ارتحل فإذا رجل قد رمى ظبيا حين أشرف له فصرعه فقال مسلم : يقتل عدونا إن
شاء الله . وأقبل مسلم حتى دخل الكوفة فنزل دار المختار بن أبي عبيد فحضرته
الشيعة واجتمعت له ، فقرأ عليهم كتاب الحسين ( عليه السلام ) الذي أجابهم به ، فأخذوا يبكون
وخطبت بمحضره خطباؤهم كعابس الشاكري ، وحبيب الأسدي ، فبلغ ذلك النعمان
ابن بشير الأنصاري – وكان عامل يزيد على الكوفة – فخرج وخطب الناس
وتوعدهم ولان في كلامه ، فقام إليه عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي حليف بني
أمية فأنبه وخرج ، فكتب هو وعمارة بن عقبة إلى يزيد بأمر النعمان وأنه ضعيف أو
يتضاعف ، وأخذ الناس يبايعون مسلما حتى انتهى ديوانه إلى ثمانية عشر ألف مبايع
أو أكثر ، فكتب إلى الحسين ( عليه السلام ) بذلك مع عابس بن أبي شبيب الشاكري وسأله
الإعجال بالقدوم عليه ، لاشتياق الناس إليه .
ولما بلغ ذلك يزيد استشار ذويه فيمن
يوليه ، فأشار عليه سرجون مولى أبيه بعبيد الله بن زياد وأخرج إليه عهد أبيه فيه ،
فولاه وكتب إليه بولاية المصرين مع مسلم بن عمرو الباهلي . فسار مسلم حتى ورد
البصرة . وقد كان الحسين ( عليه السلام ) كتب إلى أهل البصرة مع مولاه سليمان ، فصلبه
عبيد الله وتهدد الناس ، وخلف مكانه أخاه عثمان وخرج إلى الكوفة ، وأخرج معه
شريك بن الأعور ، ومسلم بن عمرو وجماعة من خاصته ، فساروا فجعل شريك
يتساقط في الطريق ليعرج إليه عبيد الله فيقيم عليه فيبادر الحسين ( عليه السلام ) الكوفة قبل
دخولهم فيتمكن من الناس ، ولكن الحسين لم يكن خرج من مكة كما ظن شريك ،
وعبيد الله لم يعرج على شريك كلما سقط كما زعم ، فدخل الكوفة قبل أصحابه ،
فظن الناس أنه الحسين ( عليه السلام ) لتشبهه به لباسا وتلثمه ، فدخل القصر والنعمان يظنه
الحسين ، والناس تقول له مرحبا بابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتتبعه ، فسد النعمان باب
القصر ، فصاح به افتح لا فتحت ، فعرفه وفتح الباب وعرفها الناس كلمة عبيد الله
فانكفأوا وانكفوا ، وبات مسلم والناس حوله . فلما أصبح دخل شريك الكوفة فنزل
على هاني بن عروة فزاره مسلم وعاده ، فقال لمسلم : أرأيت لو عادني عبيد الله أكنت
قاتله ؟ قال : نعم ، فبقي عند هاني ، وأصبح عبيد الله فبعث عينا له من مواليه يتوصل
إلى مسلم ، وعاد شريك بن الأعور فلم يحب مسلم قتله حتى ظهر من تلويحات
شريك لعبيد الله ،
فنهض ومات شريك وأخبره عينه أن مسلما عند هاني فبعث على
هاني وحبسه ، فجمع مسلم أصحابه وعقد لعبيد الله بن عمرو بن عزيز الكندي على
ربع كندة وربيعة ، وقال له سر أمامي في الخيل . وعقد لمسلم بن عوسجة على ربع
مذحج وأسد وقال : انزل في الرجال ، وعقد لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم
وهمدان ، وعقد للعباس بن جعدة الجدلي على ربع المدينة ، ثم أقبل نحو القصر
فأحاطوا به حتى أمر عبيد الله بسد الأبواب ، فأشرف من القصر أشراف الكوفة
يخذلون الناس بالترغيب والترهيب ، فما أمسى المساء إلا وقد انفض الجمع من
حول مسلم ، وخرج شبث بن ربعي ، والقعقاع بن شور الذهلي ، وحجار بن أبجر
العجلي ، وشمر بن ذي الجوشن الكلابي يخذلون الناس ، وخرج كثير بن شهاب بن
الحصين الحارثي في عدد للقبض على من رآه يريد مسلما ، فقبض على جماعة
فحبسهم عبيد الله .
ثم إن مسلما خرج من المسجد منفردا لا يدري أين يتوجه ، فمر بدار امرأة يقال
لها ( طوعة ) كانت تحت الأشعث بن قيس ( 1 ) ثم تزوجها أسيد الحضرمي فولدت
منه بلالا ومات أسيد عنه ( 2 ) ، فاستسقاها فسقته وشرب فوقف ، فقالت له : ما
وقوفك ؟ فاستضافها فأضافته وعرفته فأخفته ببيت لها ، فاسترابها بلال ابنها بكثرة
الدخول والخروج لذلك البيت فاستخبرها فما كادت تخبره حتى استحلفته
وأخبرته ، فخرج صبحا للقصر ، فرأى ابن زياد وعنده أشراف الناس وهو يتفحص
عن مسلم فأسر لمحمد بن الأشعث بخبره ، فقال ابن زياد : وما قال لك ؟ فأخبره ،
فنخسه بالقضيب في جنبه ثم قال : قم فاتني به الساعة . فخرج ومعه عمرو بن
عبيد الله بن العباس السلمي في جماعة من قيس حتى أتوا الدار ، فسمع مسلم حوافر
الخيل فخرج وبيده سيفه ، فقاتل القوم قتلا شديدا ، وكان أيدا ، ربما أخذ الرجل
ورمى به على السطح ، فجعلوا يوقدون أطناب القصب ويرمونها عليه ويرضخونه
بالحجارة من السطوح ، وهو لا يزال يضرب فيهم بسيفه ويقول في خلال ذلك
متحمسا :
أقسمت لا أقتل إلا حرا * وإن رأيت الموت شيئا نكرا
كل امرء يوما ملاق شرا * أو يخلط البارد سخنا مرا
رد شعاع النفس فاستقرا * أخاف أن أكذب أو أغرا
ثم اختلف هو وبكير بن حمران الأحمري بضربتين فضرب بكير فم مسلم فقطع
شفته العليا ، وأسرع السيف في السفلى ، ونصلت لها ثنيتان ، فضربه مسلم ضربة
منكرة في رأسه وثنى بأخرى على حبل عاتقه كادت تأتي على جوفه فاستنقذه
أصحابه . وعاد مسلم ينشد شعره ، فقال له محمد بن الأشعث : لك الأمان يا فتى ، لا
تقتل نفسك ، إنك لا تكذب ولا تخدع ولا تغر ، إن القوم بنو عمك وليسوا بقاتليك ولا
ضاربيك ، فلما رأى مسلم أنه قد أثخن بالحجارة وأضرت به أطنان القصب المحرق
وأنه قد انبهر أسند ظهره إلى جنب تلك الدار فكرر عليه محمد الأمان ودنا منه ،
فقال : آمن أنا ؟ قال : نعم . وصاح القوم : أنت آمن .
سوى عمر وبن عبيد الله بن العباس
السلمي فإنه قال : لا ناقة لي في هذا ولا جمل وتنحى ، فقال مسلم : أما لو لم
تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم . ثم أتي ببغلة فحمل عليها وطافوا حوله
فانتزعوا سيفه من عنقه ، فكأنه آيس من نفسه فدمعت عيناه ، وقال : هذا أول الغدر ،
فقال محمد : أرجو أن لا يكون عليك بأس ، فقال : ما هو إلا الرجاء ، أين أمانكم ؟ ! إنا
لله وإنا إليه راجعون وبكى ، فقال عمرو السلمي : إن من يطلب مثل الذي تطلب إذا
نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك ، فقال : إني والله ما لنفسي أبكي ولا لها من القتل
أرثي ، وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفا ، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إلي ، أبكي
لحسين وآل حسين ، ثم قال لمحمد بن الأشعث : يا عبد الله إني أراك ستعجز عن
أماني ، فهل عندك خير ؟ أتستطيع أن تبعث من عندك رجلا على لساني يبلغ حسينا ،
فإني لأراه قد خرج إليكم اليوم مقبلا أو هو خارج غدا وأهل بيته معه ، وإن ما ترى
من جزعي لذلك ، فيقول : إن مسلما بعثني إليك وهو في أيدي القوم أسير لا يرى أن
يمسي حتى يقتل وهو يقول : إرجع بأهل بيتك ولا يغرك أهل الكوفة فإنهم أصحاب
أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل ، إن أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني ،
وليس لمكذوب رأي ، فقال محمد : والله لأفعلن ولأعلمن ابن زياد إني قد آمنتك .
قال جعفر بن حذيفة الطائي : فبعث محمد أياس بن العتل الطائي من بني مالك
ابن عمرو بن ثمامة وزوده وجهزه ومتع عياله ، وأرسله للحسين فاستقبله بزبالة ( 1 )
لأربع ليال بقين من الشهر ، وكان عبيد الله بن زياد بعث رئيس الشرطة الحصين بن
تميم التميمي في نحو من ألفي فارس فأطافوا بالطف ونظموا المسالح ومنعوا
الداخل والخارج ، فهم على خط واحد فلم تحصل له فرصة إلا ذلك الزمن .
قال أبو مخنف : ثم أقبل محمد بن الأشعث بمسلم إلى باب القصر فاستأذن فأذن
له ، فأخبر عبيد الله بخبر مسلم وضرب بكير إياه ، فقال : بعدا له ، فأخبره بأمانه ، فقال :
ما أرسلناك لتؤمنه إنما أرسلناك لتأتي به . فسكت . وانتهى مسلم إلى باب القصر وهو
عطشان ، وعلى باب القصر أناس ينتظرون الإذن منهم : عمارة بن عقبة بن أبي معيط ،
وعمرو بن حريث ، ومسلم بن عمرو الباهلي ، وكثير بن شهاب ، فاستسقى مسلم وقد
رأى قلة موضوعة على الباب ، فقال مسلم الباهلي : أتراها ما أبردها ! لا والله لا
تذوق منها قطرة حتى تذوق الحميم في نار جهنم ! فقال له : ويحك من أنت ؟ قال : أنا
ابن من عرف الحق إذ أنكرته ونصح لإمامه إذ عششته ، وسمع وأطاع إذ عصيته
وخالفته ، أنا مسلم بن عمرو الباهلي ، فقال : لأمك الثكل ! ما أجفاك وما أفظك ،
وأقسى قلبك وأغلظك ! أنت يا بن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم مني ، ثم
تساند وجلس إلى الحائط ، فبعث عمرو بن حريث مولاه سليمان فجاءه بقلة ، وبعث
عمارة غلامه قيسا فجاءه بقلة عليها منديل فصب له ماء بقدح ، فأخذ كلما شرب
امتلأ القدح دما من فمه ، حتى إذا كانت الثالثة سقطت ثنيتاه في القدح ، فقال : الحمد
لله لو كان من الرزق المقسوم لي لشربته .
ثم أدخل مسلم فلم يسلم بالإمرة على
عبيد الله ، فاعترضه الحرسي بذلك ، فقال عبيد الله : دعه فإنه مقتول ، فقال له مسلم :
أكذلك ؟ قال : نعم ، قال : فدعني أوص إلى بعض قومي . فنظر إلى جلساء عبيد الله فإذا
عمر بن سعد فيهم ، فقال : يا عمر ، إن بيني وبينك قرابة ، ولي إليك حاجة ، وقد يجب
عليك نجح حاجتي ، وهو سر . فأبى أن يمكنه من ذكرها ، فقال له عبيد الله : لا تمتنع
أن تنظر في حاجة ابن عمك ، فقام معه وجلس بحيث ينظر إليه ابن زياد ، فقال : إن
علي بالكوفة دينا استدنته منذ قدمت الكوفة سبعمأة درهم ، فاقضها عني ببيع
لأمتي واستوهب جثتي من ابن زياد فوارها ، وابعث إلى الحسين ( عليه السلام ) من يرده ، فإني
كتبت إليه أعلمه أن الناس معه ، ولا أراه إلا مقبلا .
فقال عمر لابن زياد : أتدري ما
قال لي ؟ أنه قال كذا وكذا ، فقال ابن زياد : ما خانك الأمين ولكن ائتمنت الخائن ، أما
ماله فهو لك فاصنع به ما شئت ، وأما جثته فلن نبالي إذا قتلناه ما يصنع بها ، أو قال :
فلن نشفعك فيها فإنه ليس بأهل منا لذلك قد جاهدنا وجهد على هلاكنا ، وأما
حسين فإن لم يردنا لم نرده وإن أرادنا فلن نكف عنه ، ثم قال : إيه يا بن عقيل أتيت
الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة ، لتشتتهم وتحمل بعضهم على بعض ؟ قال : كلا ،
ما أتيت لذلك ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم ، وسفك دماءهم ،
وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر ، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعوا إلى حكم الكتاب .
قال : وما أنت وذاك يا فاسق ، أولم نكن نعمل بذاك فيهم إذ أنت بالمدينة تشرب
الخمر ؟ قال : أنا أشرب الخمر ؟ ! والله إن الله يعلم أنك غير صادق ، وإنك قلت بغير
علم ، وأني لست كما ذكت ، وإن أحق بشرب الخمر مني من يلغ في دماء المسلمين
ولغا ، فيقتل النفس التي حرم الله قتلها ، ويقتل النفس بغير النفس ، ويسفك الدم
الحرام ، ويقتل على الغضب والعداوة وسوء الظن ، وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع
شيئا . فقال ابن زياد : يا فاسق إن نفسك تمنيك ما حال الله دونه ولم يرك أهله ، قال :
فمن أهله يا بن زياد ؟ قال : أمير المؤمنين يزيد . قال : الحمد لله رضينا بالله حكما بيننا
وبينكم . قال : كأنك تظن أن لكم في الأمر شيئا ؟ قال : ما هو الطن ولكنه اليقين ، قال :
قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام ! قال : أما إنك أحق من أحدث
في الإسلام حدثا لم يكن منه ، أما إنك لا تدع سوء القتلة ، وقبح المثلة ، وخبث
السريرة ، ولؤم الغلبة لأحد أحق بها منك ، فأخذ ابن زياد يشتمه ويشتم عليا وحسينا
وعقيلا ، وأخذ مسلم بالسكوت والإعراض عنه ، فقال ابن زياد ، اصعدوا به فوق
القصر ، وادعوا بكير بن حمران الأحمري الذي ضربه مسلم ، فصعدوا به ، وأحضر
بكير فأمره أن يضرب عنقه ويتبع برأسه جسده من أعلى القصر ، فصاح مسلم
بمحمد بن الأشعث :
قم بسيفك دوني فقد أخفرت ذمتك ، أما والله لولا أمانك ما
استسلمت . فأعرض محمد ، وجعل مسلم يسبح الله ويقدسه ويكبره ويستغفره ،
ويصلي على أنبياء الله وملائكته ويقول : اللهم احكم بيننا وبين قوم غرونا وكذبونا
وأذلونا ، فأشرف به من على القصر ، فضربت عنقه واتبع جسده رأسه ، ونزل بكير
فقال له ابن زياد : وما كان يقول ؟ قال : إنه كان يسبح ويستغفر ، فلما أدنيته قلت :
الحمد لله الذي أقادني منك . وضربته ضربة لم تغن شيئا ، فقال لي : أما ترى في
خدش تخدشنيه وفا من دمك أيها العبد ؟ فقال ابن زياد : أوفخرا عند الموت ؟ ثم
قال : إيه . قال : وضربته الثانية فقتلته ، ثم أمر ابن زياد فقتل هاني وجملة من
المحبوسين ، وجرت جثتا مسلم وهاني بحبلين في الأسواق ( 1 ) .
وقتل مسلم في اليوم الثامن من ذي الحجة يوم خروج الحسين ( عليه السلام ) من مكة .
قال أبو مخنف : وحدث عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين قالا :
لما قضينا حجنا لم يكن لنا همة إلا اللحاق بالحسين في الطريق لننظر ما يكون من
أمره وشأنه ، فأقبلنا ترقل بنا ناقتانا مسرعين حتى لحقناه بزرود ( 2 ) ، فلما دنونا منه
إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين ، قالا : فوقف
الحسين كأنه يريده ، ثم تركه ومضى ، فقال أحدنا لصاحبه : إمض بنا إليه لنسأله عن
خبر الكوفة ، فانتهينا إليه وسلمنا وانتسبنا ، فإذا هو بكير بن المثعبة الأسدي
فاستخبرناه عن الكوفة فقال : ما خرجت حتى رأيت مسلما وهانيا قتيلين يجران
بأرجلهما في السوق .
ففارقناه ولحقنا بالحسين ، فسلمنا عليه وسايرناه ، حتى نزل
الثعلبية ممسيا فدخلنا عليه وقلنا له : يرحمك الله إن عندنا خبرا إن شئت حدثناك به
علانية وإن شئت سرا . فنظر إلى أصحابه وقال : ما دون هؤلاء سر . فقلنا : أرأيت
الراكب الذي استقبلك عشاء أمس ؟ قال : نعم ، وقد أردت مسألته . فقلنا قد استبرأنا
لك خبره ، وكفيناك مسألته وهو امرؤ من أسد منا ذو رأى وصدق وفضل وعقل ، وإنه
حدثنا بكيت وكيت . فاسترجع وقال : رحمة الله عليهما وكررها مرارا . فقلنا ننشدك
الله في نفسك وأهل بيتك إلا انصرفت فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ، بل نتخوف أن
يكونوا عليك فاعترضته بنو عقيل بأننا لا نترك ثأرنا ، فالتفت إلينا الحسين وقال : ” لا
خير في العيش بعد هؤلاء ” ، فعلمنا أنه عزم على المسير ، فقلنا له : خار الله لك . فدعا
لنا ، فقال له أصحابه : إنك والله ما أنت مثل مسلم ، ولو قدمت الكوفة كان الناس إليك
أسرع ( 1 ) .