دور أهل البيت عليهم السلام في بناء الجماعة الصالحة
23 ديسمبر,2017
بحوث اسلامية
2,457 زيارة
الاجتهاد وحيوية الشريعة:
وقد كان الهدف من وراء هذه الحرية الفكرية الملتزمة تحقيق أمرين مهمين:
1 ـ إيجاد طبقة من المجتهدين القادرين على استنباط الحكم الشرعي من مصادره وينابيعه الاصلية، دون الوقوع في محذور (الانفلات) بالاعتماد على «الرأي» كما صنع أصحاب اتجاه الرأي، ودون الوقوع في محذور «الجمود» بالاعتماد على النص الواحد ـ كما صنع أهل الحديث ـ بعدم إخضاعه للفهم الكامل من خلال النصوص الاخرى; حيث أن مجموع كلام الله تعالى «القرآن»، وكلام النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)«السنّة النبوية»، وكلام الائمة الاطهار(عليهم السلام)«الاحاديث» المروية عنهم(عليهم السلام) كلام واحد يفسّر بعضه بعضاً، شأنه شأن كلام المتحدث الذي لم ينقطع، بحيث يمكن أن يكون أوله أو وسطه أو آخره قرينة على بقية الكلام.
2 ـ المحافظة على حيويّة الشريعة الاسلامية وقدرتها على مواكبة الظروف والتطورات، دون الوقوع في أخطار التحريف والتزييف، أو الاستجداء من المذاهب الاخرى أو تأويلها، أو ضياعها أو التمرد بسبب الفوضى السياسية والثقافية التي مرّ بها العالم الاسلامي جرّاء الفتن والحوادث المؤلمة.
ولقد علمنا في الكتاب الثالث أن أهل البيت(عليهم السلام) كان لهم فضل عظيم في حفظ التراث الاسلامي والشريعة الاسلامية، كما كان لهم فضل في حفظ الامة الاسلامية من الضياع والانحراف عندما خطّوا لها هذا المنهج، وسجّلوا هذه السابقة في تكوين هذا الاطار.
الخطّ الثاني: العلم والتعليم
الحث على طلب العلم وخصوصاً علم الشريعة، بحيث أصبح واجباً شرعياًفي مذهب أهل البيت، يتحمّل الانسان مسؤولية الاخلال به. وقد وردت عنهم(عليهم السلام) أحاديث كثيرة في تأكيد هذا الجانب، بحيث خصّص لها أصحاب كتب الحديث باباً مستقلاً ومنها:
روى الامام الرضا(عليه السلام) عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: «سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يقول: طلب العلم فريضة على كل مسلم… به يطاع الرب، وبه توصل الارحام، وبه يعرف الحلال والحرام. العلم إمام العمل والعمل تابعه، يلهمه السعداء ويحرمه الاشقياء»([1][93]).
وعن الصادق(عليه السلام): «لو علم الناس ما في العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج»([2][94]).
وعن زيد الزرّاد، عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) قال: «قال أبو جعفر الباقر(عليه السلام): يا بني، اعرف منازل الشيعة على قدر روايتهم ومعرفتهم، فإن المعرفة هي الدراية للرواية، وبالدرايات للروايات يعلو المؤمن إلى أقصى درجات الايمان. إني نظرت في كتاب لعلي(عليه السلام) فوجدت في الكتاب: إن قيمة كل امرئ وقدره معرفته…»([3][95]).
وعن الصادق(عليه السلام): «اعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون من رواياتهم عنا، فإنا لا نعدّ الفقيه منهم فقيها حتى يكون محدّثاً، فقيل له: أو يكون المؤمن محدّثاً؟ قال: يكون مفهّماً، والمفهّم محدّث»([4][96]).
وفي هذا المجال لم يكتف أهل البيت(عليهم السلام) بهذا الامر العام بل رسموا خطوات لذلك:
أ العلم والرأي:
ـ تأكيد المنهج العلمي القرآني في البحث، ودور العلم واليقين في المعرفة في مقابل اعتماد الظنون والاوهام في الحصول على المعرفة.
وقد ربط أهل البيت(عليهم السلام) العلم واليقين بالحكم الشرعي بالمصادر الصحيحة كما ذكرنا سابقاً، ولكنهم لم يكتفوا بذلك بل أكّدوا أن الاستفادة من هذه المصادر لابد أن تكون وفق المنهج العلمي الذي يعتمد على الدرس والتعليم والاخذ من العلماء وهم أهل البيت(عليهم السلام).
وبذلك أغلقوا الطريق أمام الاعتماد على الحدس أو الهوى أو الرأي وحتى الظنون مثل: الاستحسان والقياس والمصالح المرسلة وأمثالها; حيث أن الحقيقة الالهية والاحكام الشرعية والمصالح والمفاسد المرتبطة بها، لا يمكن إدراكها إلاّ عن طريق الوحي والالهام، كما هو حاصل بالنسبة إلى الانبياء والصفوة المختارة من الناس، أو عن طريق التعلّم والحفظ والكتابة والضبط والاخذ من العلماء الحقيقيين الذين هم أهل بيت الرسول الامناء على الوحي الالهي.
روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «من عمل على غير علم، كان ما يفسد أكثر مما يصلح»([5][97]).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنّ الناس آلوا بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ثلاثة: آلوا إلى عالم هدىً من الله قد أغناه الله بما علم عن غيره (ويقصد أهل البيت)، وجاهل مدّع للعلم لا علم له، معجب بما عنده، قد فتنته الدنيا وفتن غيره، ومتعلّم من عالم على سبيل هدىً من الله ونجاة، ثم هلك من ادّعى وخاب من افترى»([6][98]).
وقال ابو جعفر(عليه السلام): «من أفتى بغير علم ولا هدىً من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه»([7][99]).
وعن أحدهم قال: «قلت لابي عبد الله(عليه السلام): ما حق الله على خلقه؟ قال: أن يقولوا ما يعلمون، ويَكفّوا عما لا يعلمون، فإذا فعلوا أدّوا إلى الله حقّه»([8][100]).
ب ـ تدوين الحديث:
رواية الحديث وحفظه وتدوينه فضلاً عن حفظ القرآن والتأمّل فيه وفهمه. وقد سجل التاريخ في هذا المجال سابقة لاهل البيت وأتباعهم، حيث كانوا أوّل من دوّن الحديث واهتم بحفظه وتداوله. وذلك بعد أن واجهت السنّة النبويّة خطر الانقراض بسبب الموقف السلبي تجاه تدوينها في صدر الاسلام من قبل الخليفة الثاني، الذي طرحت عليه الفكرة فرفضها بادّعاء أن ذلك له تأثير سلبي على حفظ القرآن، وأنه يشغل الناس عن القرآن([9][101]).
ولذلك نجد أصحاب الائمة قد بلغوا درجة عالية في الفقه والمعرفة، بحيث أصبحوا متميزين على الناس بسبب هذا التوجيه([10][102]).
وعلى هذا الاساس نجد أن أصحاب الائمة في عصر متقدم يعمدون إلى كتابة الاحاديث وتدوينها بحيث تحولت إلى الاصول الاربعمائة المعروفة. ونجد إشارات إلى ذلك من بعض أصحاب الائمة أمثال أبان بن تغلب، وعبيد الله بن علي الحلبي([11][103]).
ونجد ائمة أهل البيت(عليهم السلام) يمجّدون أولئك الرجال من أصحابهم الذين تحمّلوا هذه المسؤولية الكبيرة في بداية الطريق أمثال: بريد بن معاوية العجلي، وأبي بصير ليث الراوي، ومحمد بن مسلم، وزرارة بن اعين([12][104]).
ج ـ بذل العلم والتعليم:
بذل الحديث وتعليمه، فإنه بمقدار ما يكون الحديث وكتابته مهماً، نجد التأكيد لبذل الحديث وتعليمه، بحيث يصبح موازياً في درجة الاهمية لذلك. وبهذا تمكن أهل البيت(عليهم السلام) أن يخطّوا الطريق لجعل العلم ميسّراً وسهلاً في أوساط هذه الجماعة الصالحة بالرغم من الظروف الصعبة السياسية والحيوية; حيث كان اتباعهم يواجهون عمليات المطاردة والحصار الاقتصادي والثقافي.
روى الكليني في الكافي، عن معاوية بن عمار قال: «قلت لابي عبد الله(عليه السلام): رجل راوية لحديثكم يبث ذلك في الناس ويسدده في قلوبهم وقلوب شيعتكم، ولعل عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرواية ايهما افضل؟ قال: الراوية لحديثنا يشدّ به قلوب شيعتنا أفضل من الف عابد»([13][105]).
وعن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «تذاكروا وتلاقوا وتحدَّثوا; فإن الحديث جلاء للقلوب، إن القلوب لترين كما يرين السيف، جلاؤه الحديد»([14][106]).
وعن ابي عبد الله(عليه السلام) قال: «من أراد الحديث لمنفعة الدنيا لم يكن له في الاخرة نصيب، ومن اراد به خير الاخرة أعطاه الله خير الدنيا والاخرة»([15][107]).
وعن ابي عبد الله(عليه السلام) قال: «من حفظ من احاديثنا أربعين حديثاً بعثه الله يوم القيامة عالماً فقيهاً»([16][108]).
وعن محمد بن مسلم قال: «قلت لابي عبد الله(عليه السلام): أسمع الحديث منك فأزيد وأنقص، قال: إن كنت تريد معانيه فلا بأس»([17][109]).
وهذا المنهج هو الذي يفسّر لنا استمرار الزخم الثقافي، وبقاء مراكز العلم والثقافة، بالرغم من الظروف الصعبة التي أشرنا إليها. وكذلك مجانية التعليم في مدارس أهل البيت(عليهم السلام) العلمية، الذي يعتبر أحد المعالم والميزات الواضحة التي تتصف بها هذه المدارس، والتي تمكنت بها من الثبات أمام جميع الضغوط والمشكلات.
ففي الوقت الذي كانت الدولة تدعم بقوة وبإمكانات واسعة المدارس الرسمية للمذاهب الاسلامية الاخرى، كانت تطارد مدارس أتباع أهل البيت(عليهم السلام)فضلاً عن عدم إمدادها باي إمكانات ومساعدات. ومع ذلك استمرت مدارس أهل البيت(عليهم السلام) بوتيرة عالية، فاقت في بعض الاحيان المدارس الرسمية الاخرى التي كانت تتعرّض للانهيار والضمور عند انقطاع المساعدات عنها.
وكان أحد الاسباب المهمّة وراء ذلك هو أسلوب مجانية التعليم وبذله، واعتماد القربة إلى الله تعالى في التدريس. ولا زال ذلك هو الطابع العام لهذه المدارس، وطريقة التعامل مع عموم العمل الثقافي في هذه الاوساط سواء على مستوى التدريس أو التبليغ أو تعليم الحكم الشرعي، أو التأليف للكتب، أو غير ذلك من القضايا الثقافية.
الخط الثالث: التنوع في اساليب الثقافة
التنوّع في أساليب التثقيف والتعليم، حيث نجد مضافاً إلى أساليب الخطابة والسماع والشعر المعروفة في الصدر الاول للاسلام، ان الائمة(عليهم السلام)يهتمّون بأساليب أخرى لم تكن معروفة على مستوى التثقيف العام، بل كانت موجودة بهيئة ممارسات فردية محدودة أو سلوكية خاصة.
ومن هذه الاساليب: (الدعاء)، و (الوصيّة)، والرسائل والبيانات، مضافاً إلى أسلوب (الزيارة) و (المجالس) و (الاجتماعات) ومنها المجالس الحسينية.
الـدعاء:
وقد تحوّل الدعاء إلى مدرسة كاملة لثقافة أهل البيت(عليهم السلام) تدرس فيه العقائد والاخلاق والمفاهيم الاسلامية والاجتماعية والعلاقات الانسانية، والادب العالي، بالاضافة إلى التزكية والتربية العالية.
وقد اسس هذا الاسلوب أهل البيت(عليهم السلام) وعرّف عنه الامام علي(عليه السلام) في ادعيته ومناجاته المشهورة، ومنها دعاؤه المعروف الذي يرويه عنه كميل بن زياد النخعي.
ومن هذه الادعية المشهورة المتميزة لاهل البيت هو دعاء الامام الحسين(عليه السلام) في يوم عرفة.
وقد استفاد من هذا الاسلوب الامام زين العابدين علي بن الحسين(عليه السلام)إلى حد بعيد، وكان نتاجه في هذا المجال واسعاً ومتميّزاً; وتأثيره ودوره في المنهج الثقافي كبيراً، وذلك بسبب أن هذا الاسلوب كان أنجح الاساليب في معالجة التدهور الثقافي والاخلاقي في المجتمع الاسلامي من ناحية، وفي التغلّب على الظروف السياسية الصعبة التي كان يواجهها بعد استشهاد أبيه الحسين(عليه السلام)والحصار الذي ضربه الامويون عليه من ناحية أخرى([18][110]).
الوصية:
كما أن الوصية ذات الابعاد الشاملة التي بدأها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في وصاياه السياسية الثقافية التربويّة لعلي(عليه السلام)، ثم استمر عليها الامام علي(عليه السلام)لولده الامام الحسن(عليه السلام) ولاولاده الاخرين، وأصبحت بعد ذلك منهجاً متميزاً لائمة أهل البيت(عليهم السلام)، بحيث يمكن أن نجمع كتاباً كبيراً كاملاً لوصاياهم التي تشتمل على مختلف المعالم الثقافية([19][111]).
الرسائل:
وهكذا يمكن أن نلاحظ الامر في الرسائل والبيانات ذات الطابع التوجيهي التعليمي التي يتضمنها نهج البلاغة للامام علي(عليه السلام)، وكذلك في الرسائل التي يبعثها الائمة كالامام الباقر والامام الصادق والامام الكاظم وغيرهم من أئمة أهل البيت(عليهم السلام) لشيعتهم واتباعهم. التي كانت تتضمن تفاصيل كثيرة ودقيقة ومتنوعة في التوجيه الثقافي([20][112]).
اساليب اخرى:
وسوف نتناول في بحوث آتية ـ بشيء من التفصيل ـ الحديث عن أساليب الزيارة في (الشعائر) و (المجالس الحسينية) في المؤسسات الثقافية والاجتماعات في نظام العلاقات. ونرى عندئذ العمل المتطور العظيم الذي قام به أهل البيت في مجال التنوع في أساليب الثقافة بحيث تحول بعض هذه الاساليب إلى مؤسسات عظيمة ومشاريع مهمة ومتميزة.
([1][93]) بحار الانوار 1: 171، ح24.
([2][94]) بحار الانوار 1: 177، ح53.
([3][95]) بحار الانوار 2: 184، ح4.
([4][96]) بحار الانوار 2: 82 ، ح1.
([5][97]) وسائل الشيعة 18: 12، ب4، ح13.
([6][98]) المصدر السابق: 7، باب: 3، حديث: 4.
([7][99]) المصدر السابق: 9، باب: 4، حديث: 1، 11، 14.
([8][100]) وسائل الشيعة 18: 12 ب 4، ح: 10. وراجع صفات القاضي ب 6، حول حرمة القياس والظنون ح: 14، 15، 20، 21.
([9][101]) يراجع طبقات ابن سعد 5: 140، وجامع بيان العلم لابن عبد البر 2: 147، وتذكرة الحفاظ 1: 4 ـ 5، وكنز العمال 5: 239 ح4865.
([10][102]) المصدر السابق: 61، صفات القاضي ب: 8 ، ح: 35.
([11][103]) المصدر السابق: 72 ـ 73، ب8 ، ح80 ـ 81 .
([12][104]) وسائل الشيعة 18 : 59 ـ 57، ح14، 16، 21.
([13][105]) المصدر السابق : 52، ب8، ح1.
([14][106]) المصدر السابق، ح3.
([15][107]) المصدر السابق، ح4.
([16][108]) المصدر السابق، ح5.
([17][109]) المصدر السابق، ح9.
([18][110]) الصحيفة السجادية للامام زين العابدين(عليه السلام).
([19][111]) وصية النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لامير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، (تحف العقول: 13)، ووصية أمير المؤمنين إلى ولده الحسن(عليهما السلام)، (تحف العقول: 46) و (نهج البلاغة 3: 42)، من ذلك وصية الامام الباقر(عليه السلام)لجابر الجعفي، (تحف العقول: 206)، ووصية الامام الصادق(عليه السلام) لابي جعفر محمد بن النعمان، (تحف العقول: 227)، ووصية الامام الكاظم(عليه السلام) لهشام بن الحكم، (تحف العقول: 286).
([20][112]) رسالة الامام الصادق(عليه السلام) إلى شيعته، (الكافي 8 : 397)، ورسالة الامام الباقر(عليه السلام) إلى جماعة الشيعة وأصحابه، (الكافي 8 : 230)، ورسالة الامام علي الهادي(عليه السلام) في الرد على أهل الجبر والتفويض، (تحف العقول: 341)، وآداب الامام أمير المؤمنين(عليه السلام) لاصحابه، وهي أربعمائة باب، (تحف العقول : 66 ـ 83 ط . النجف).
2017-12-23