الرئيسية / فقه الولاية / ثلاثون أدباً للمتعلّم

ثلاثون أدباً للمتعلّم

الفصل الثاني: آداب المتعلِّم مع معلِّمه

 

1- النظر فيمن يأخذ عنه العلم:

ليختر المتعلِّم من كمُلت أهليّته من المعلِّمين، وظهرت ديانته، وتحقّقت معرفته، وعُرفت عفْته، واشتُهرت صيانته، وسيادته، وظهرت مروّته، وحَسُن تعليمه، وجاد تفهيمه، ولا يغترّ الطالب بمن زاد علمه مع نقصٍ في ورعه، أو دينه، أو خُلُقه، فإنّ ضرره في خُلُق المتعلِّم ودينه أصعب من الجهل الذي يُطلب زواله، وأشدّ ضرراً.

وعن جماعة من السلف: هذا العلم دِينٌ، فانظروا عمّن تأخذون دينكم.

وليحذر ممن أخذ علمه من بطون الكتب وطالعها لوحده من دون دراستها عند العلماء، خوفاً من وقوعه في الغلط، والتحريف، والفهم الخاطئ.

قال بعض السلف: من تفقّه من بطون الكتب ضيّع الأحكام. وإذا استقرأت أحوال السابقين والمعاصرين لم تجد النفع غالباً إلّا إذا كان للشيخ من التقوى، والنصح، والشفقة للطلبة نصيب

وافر، وكذلك إذا قرأت المصنّفات وجدت الانتفاع بتصنيف الأتقى أوفر، والفلاح بالاشتغال به أكثر.

 

2- الاعتقاد أن المعلِّم الأب الحقيقيّ والوالد الروحانيّ:

أن يعتقد أنّ شيخه أبوه الحقيقيّ ووالده الروحانيّ، وهو أعظم من الوالد الجسماني، فيُبالغ، – بعد الأدب في حقّه -، في رعاية حقّ أبوّته، ووفاء حقّ تربيته، وقد سُئل الإسكندر: “ما بالك توقّر معلّمك أكثر من والدك؟، فقال: لأنّ المعلِّم سبب لحياتي الباقية، ووالدي لحياتي الفانية”[1].

وقد روي أنّ السيد الرضيّ الموسويّ قدّس الله روحه، – وقد كان عظيم النفس، عالي الهمّة، أبيّ الطبع، لا يقبل لأحد منة -، قال له بعض مشايخه يوماً: بلغني أن دارك ضيّقة لا تليق بحالك، ولي دار واسعة صالحة لك، قد وهبتها لك فانتقل إليها. فأبى الشريف الرضيّ، فأعاد عليه الكلام، فقال: يا شيخ أنا لم أقبل برَّ أبي قطّ، فكيف من غيره؟، فقال له الشيخ: إنّ حقّي عليك أعظم من حقّ أبيك: لأنّي أبوك الروحاني وهو أبوك الجسماني. فقال السيّد رحمه الله: قد قبلت الدار.

ومن هنا نَظَم بعض الفضلاء:

آباء أجسادنا هم سبب              لأن جعلنا عرائض التلف‏

من عَلَّم الناس كان خير أب        ذاك أبو الروح لا أبو النطف‏

 

 

3- احترام المعلم والتواضع له:

أن ينظر إلى أستاذه بعين الاحترام، والإجلال، والإكرام، ويتغاضى صفحاً عن عيوبه ونواقصه، فإن ذلك يجعله أكثر قدرة على الانتفاع به، وترسيخ ما يسمعه منه في ذهنه.

ولقد كان بعض السّلف إذا ذهب إلى شيخه تصدّق بشي‏ء، وقال: اللهم استر عيب معلِّمي عنّي، ولا تذهب ببركة علمه منّي.

وقال آخر: كنت أصفح الورقة بين يديّ شيخي صفحاً رفيقاً، هيبة له لئلّا يسمع وقعها.

وقال آخر: والله ما اجترأت أن أشرب الماء وشيخي ينظر إليّ، هيبة له.

وقال حمدان الأصفهاني: كنت عند شريك بن عبد الله النخعي الكوفي المتوفى سنة 177ه ، فأتاه بعض أولاد الخليفة المهديّ (محمّد بن عبد الله المنصور بن محمّد بن عليّ العبّاسي، من خلفاء

الدولة العباسيّة، مات سنة 169هـ)، فاستند ابن الخليفة إلى الحائط وسأله عن حديث، فلم يلتفت إليه وأقبل علينا، ثمّ عاد، فعاد شريك لمثل ذلك، فقال: أتستخفّ بأولاد الخلفاء؟، قال: لا، ولكنّ العلم أجلُّ عند الله من أن أضيّعه، فجثا على ركبتيه، فقال شريك: هكذا يُطلب العلم.

 

* مع الإمام الخميني قدس سره:

عندما عاد الإمام قدس سره من باريس وجاء إلى قمّ، ذهب لزيارة مقبرة “شيخان”، وقد فتح عمامته عندما زار قبر أستاذه الشيخ الميرزا جواد الملكي التبريزيّ ومسح بذؤابتها صخرة القبر وجلس عنده وقرأ القرآن وسورة الفاتحة: وفي ذلك مظهرٌ من مظاهر تكريمه لأستاذه[2].

 

* مع الإمام الخميني قدس سره:‏

حظي آية اللَّه البروجرديّ في زيارته الأولى لقمّ بحفاوة بالغة، من علمائها خاصّة من الإمام الذي احتفى به كثيراً وإلى درجة، رأيتُهُ معها بنفسي يغسل عباءة السيّد البروجرديّ، فقد نزع عباءتَهُ ووضعها على كتفي آية اللَّه البروجرديّ وأخذ عباءة السيّد وغسلها بالماء ثمّ جاء بها إليه[3].

4- عدم الإنكار على المعلِّم وتبجيله في الخطاب:

أن يتواضع له زيادة على ما أُمر به من التواضع للعلماء وغيرهم، ويتواضع للعلم، فإنّه لا ينال العلم إلّا من تواضع له، ولا يظنُّ أنّ التواضع ذلٌّ بل هو في مثل هذه الأمور رفعة ، وتعظيم حرمته مثوبة، وخدمته شرف.

وقد روي عن النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: “تعلّموا العلم، وتعلّموا للعلم السكينة والوقار، وتواضعوا لمن تتعلّمون منه[4].

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: “من علَّم أحداً مسألة ملك رقّه. قيل: أيبيعه ويشتريه؟، قال: بل يأمره وينهاه[5].

 

5- تعظيم المعلّم وشكره:

أن يُبجِّله في خطابه وجوابه، وفي غيبته وحضوره، ولا يُخاطبه بتاء الخطاب وكافه، ولا يُناديه من بُعد، بل يقول: “يا سيّدي”، و“يا أستاذ” وما أشبه ذلك، ويُخاطبه بصيغ الجمع تعظيماً نحو: “ما تقولون في كذا”، و”ما رأيكم في كذا“، و”قلتم رضي الله عنكم“، أو “تقبّل الله منكم“، أو “رحمكم الله“. ولا يُسمّيه في غيبته باسمه إلّا مقروناً بما يشعر بتعظيمه، كقوله: قال الشيخ، أو الأستاذ، أو شيخنا… وهذا ما نجده

في تعامل الإمام قدس سره مع أساتذته حيث أورد بعض تلامذة الإمام الخميني قدس سره القصة التالية:

 

* مع الإمام الخميني قدس سره:

نقل لي بعض كبار فضلاء الحوزة، أنّ المرحوم السيّد البروجرديّ كان لا يرى جواز البقاء على تقليد الميّت ويعتقد بوجوب تقليد الإنسان للمجتهد الحيّ، فتصدّى للبحث العلمي معه, لإقناعه بالجواز، إثنان من الشخصيّات العلميّة المرموقة هما: المرحوم آية الله اليثربي، – وهو من علماء كاشان ومن تلامذة المرحوم آية اللَّه الشيخ آغا ضياء العراقي، وهو من أجلّاء علماء النجف-، أمّا العالم الثاني فهو الإمام قدس سره.

بدأ البحث أوّلاً المرحوم الشيخ اليثربي لكن السيّد البروجرديّ لم يقتنع بما عرضه من أدلّة، وكان الإمام جالساً بحالة مؤدّبة للغاية، ملتزماً الصمت، وكانت هذه هي سيرته، لا يُجيب إلّا أن يُوجّه إليه سؤال، فالتفت إليه السيّد البروجرديّ وقال: ولماذا لا تقولون شيئاً أنتم؟، فأجاب: “أنتم لم تأمروني بالكلام” (!).

وهذا الموقف يُبيّنُ عمق الالتزام بالأدب – إذْ لم يتكلّم ابتداءً، كما ويُبيّنُ ثانياً تحليه بالتواضع – إذْ أجاب: “أنتم لم تأمروني“. وعلى أيّ حالٍ فقد قال له السيّد البروجرديّ: تفضّلوا، – أرجوكم -، بالكلام،

فبدأ الإمام البحث، وبعد أن عرض أدلّته، اقتنع السيّد البروجرديّ وغيّر فتواه، وأفتى بجواز البقاء على تقليد الميّت[6].

 

6- الاجتهاد في السبق للحضور في مجلس الدرس:

أن يجتهد على أن يسبق بالحضور إلى المجلس قبل حضور الشيخ، ولو انتظره على باب داره ليخرج ويمشي معه إلى المجلس، فهو أولى مع إمكانه. ويحذر عن أن يتأخّر في الحضور عن حضور الشيخ، فيدع الشيخ في انتظاره، فإنّ فاعلَ ذلك من غير ضرورة أكيدة معرِّضٌ نفسه للمقت والذمّ.

* مع الإمام الخميني قدس سره:‏

وممّا رواه حجة الإسلام والمسلمين الشيخ نصر الله الشاه آبادي:

كان الإمام قدس سره من بين الطلبة والمراجع الذين يحضرون دروس والدي، وكان الأكثر اجتهاداً في طلب العلّم، وأتذكر جيداً من بين الصور المبهمة لذكريات طفولتي، صورةً واضحة هي أن الإمام كان يسبق الآخرين في الحضور للدرس ويخرج آخرهم،

كما أتذكر أنّه كان مؤدباً للغاية، ونظيفاً، ومرتباً[7].

 

7- الدخول إلى مجلس الدرس بإذنه:

أن لا يدخل على الشيخ في غير المجلس العام بغير إذنه، سواء كان الشيخ وحده أم معه غيره، فإن استأذن بحيث يعلم الشيخ ولم يأذن، انصرف، ولا يُكرّر الاستئذان، وإن شكّ في علم الشيخ به كرّره ثلاثاً، ولا يزيد في الاستئذان عليها.

 

8- الإصغاء إلى الشيخ والنظر إليه عند تكلّمه:

أن يُصغي إلى الشيخ ناظراً إليه، ويُقبل بجميع حواسّه عليه، متعقّلاً لقوله: بحيث لا يحوجه إلى إعادة الكلام، ولا يلتفت من غير ضرورة بالنظر إلى يمينه أو شماله أو فوقه أو أمامه لغير حاجة، ولا سيّما عند بحثه معه أو كلامه له، فلا ينبغي أن ينظر إلّا إليه، ولا يضطرب لضجّة يسمعها، ولا يلتفت إليها سيما عند بحثه.

وعليه أن يُراعي الأدب في حركاته، والأنسب في تصرّفاته، فلا يومي بيده إلى وجه الشيخ أو صدره، ولا يمسّ بها شيئاً من بدنه أو ثيابه، ولا يعبث بيديه، أو رجليه، أو غيرهما من أعضائه، ولا يضع يده على لحيته،

أو فمه، أو يعبث بها في أنفه، ولا يفتح فاه، ولا يقرع سنّه، ولا يضرب الأرض براحته، أو يخطّ عليها بأصابعه، ولا يشبك بيديه، ولا يعبث بأزراره، ولا يُفرقع أصابعه، بل يلزم سكون بدنه، ولا يُكثر التنحنح من غير حاجة، ولا يبصق، ولا يمتخط، ولا يتنخّع ما أمكنه، ولا يلفظ النخامة من فيه بل يأخذها منه بمنديل أو نحو ذلك، ولا يتجشّأ، ولا يتمطّى، ولا يُكثر التثاؤب، وإذا اضُطر تثاءب بعد ستر فاه ، وإذا عطس حفظ صوته جهده، وستر وجهه بمنديل ونحوه، وكلّ ذلك ممّا يقتضيه الذوق السليم.

 

* مع الإمام الخميني قدس سره:

قال أحد أصدقاء الإمام قدس سره وزملائه في الدراسة: عندما ذهبنا مع الإمام من خمين إلى آراك للدراسة فيها، كان الإمام يكتفي بحُسن الإصغاء لما يقوله الأستاذ في جلسة الدرس، فلم يكن يُطالع، ولا يتباحث بشأن موضوع الدرس، في حين كان باقي الطلبة يتحمّلون المشاق لتعلّمه، ولكن كنّا نجد الإمام في اليوم التالي عند بدأ الدرس أفضل منهم جميعاً في الإحاطة بموضوعه، لقد كان يتمتّع بهذه المرتبة العالية من الاستعداد، والأهلية، والذكاء، وقوة الحافظة[8].

9- عدم رفع الصوت عنده:

أن لا يرفع صوته رفعاً بليغاً من غير حاجة، ولا يُكثر كلامه بغير ضرورة، ولا يحكي أموراً مُضحكة، أو يتلفّظ بما فيه بذاءة، أو يتضمّن سوء مخاطبة، أو سوء أدب، بل ولا يتكلّم بما لم يسأله. وإذا أراد الكلام فليستأذن أوّلاً، ولا يضحك لغير عجب، بل ولا لعجب إذا لم يضحك الشيخ أوّلاً، فإن غلبه الضحك تبسم تبسماً بغير صوت البتّة، وليحذر كلّ الحذر من أن يغتاب أحداً في مجلسه، أو يقع بالنميمة، أو يوقع بينه وبين أحد بنقل ما يسوؤه عنه كأن يستنقص به أو يتكلّم عنه بسوء.

 

10- عدم الأخذ على هفوات المعلم:

فإذا سبق لسان الشيخ إلى تحريف كلمة أو شرحها بشكل غير صحيح ومستغرب، فلا يضحك، ولا يستهزئ، ولا يُعيدها كأنّه يُعلّق بها عليه، ولا يغمز غيره، ولا يُشير إليه، بل ولا يتوقف عند ما صدر منه، ولا يُدخِله قلبه، ولا يصغي إليه سمعه، ولا يحكيه لأحد، فإن اللسان سبّاق، والإنسان غير معصوم، وفاعل شيء ممّا ذُكر مع شيخه معرض نفسه للحرمان، والبلاء، والخسران، مستحقّ للزجر، والتأديب، والهجر، والتأنيب، مع ما يستوجبه من مقت الله سبحانه له، وملائكته، وأنبيائه عليهم السلام، وخاصّته.

 

[1] الشهيد الثاني، منية المريد، ص 41.

[2] قبسات من سيرة الإمام الخميني “قدس سره” في ميدان التعليم الحوزوي والمرجعية، ص‏17.

[3] م.ن، ص30.

[4] الريشهري، العلم والحكمة، في الكتاب والسنّة، ص 378.

[5] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 108، ص 16.

[6] قبسات من سيرة الإمام الخميني في ميدان التعليم الحوزويّ والمرجعيّة، ص91.

[7] قبسات من سيرة الإمام الخميني في ميدان التعليم الحوزويّ والمرجعيّة، ص90.

[8] قبسات من سيرة الإمام الخميني في ميدان التعليم الحوزويّ والمرجعيّة، ص90.

شاهد أيضاً

ثلاثون أدباً للمتعلّم

الفصل الثالث: آداب المتعلِّم في درسه هناك آداب خاصّة بطريقة المطالعة، والدرس، والقراءة، يجب أن ...