سلسلة الحياة الطيّبة – المهتدون 02
26 مارس,2017
الاسلام والحياة
2,948 زيارة
ساحة القناعة
“يُتابع الإمام الباقر عليه السلام حديثه الشريف الذي يوصي به جابر فيقول عليك بالنزول إلى ساحة القناعة عن طريق تجنّب الحرص، وأن تدفع عنك عظيم الحرص من خلال انتهاج القناعة والزهد، وتظفر بحلاوة الزهد بتقصير الأمل. وتطرح هذه الجمل الثلاث، المرتبطة مع بعضها البعض إلى حدٍّ ما، بضعة مفاهيم أخلاقيّة نعرفها جميعاً ألا وهي: القناعة في مقابل الحرص، والزهد في
مقابل التعلّق بالدنيا، وقصر الأمل في مقابل طول الأمل… ونجد أنّ الإمام الباقر عليه السلام يسوق تعبيراً حول القناعة هو غاية في البداعة والجمال. فالبحث أساساً كان يدور حول كون المؤمن في هذه الدنيا في حال صراع مع نفسه وهو عليه السلام في صدد أن يُبيّن له سبل تجنّب السقوط أرضاً والسعي للغلبة على خصمه، وإنّ أحد هذه السبل هو القناعة.
لكنّ الإمام عليه السلام يستخدم للقناعة هنا تعبيراً ملؤه الوقار والاحترام فيقول: “انزل ساحة القناعة“, فهو يرسم ساحة مباركة ثمّ يقول: حاول أن تلج هذه الساحة! وكأنّه يريد القول: إنّ مسألة القناعة مسألة بالغة الأهمّية وعليك أن تنظر إلى القناعة نظرة احترام وتبجيل وأن تبذل غاية الجهد للظفر بها. ثمّ يقول: “من أجل أن يتسنّى لك دخول هذه الساحة وأن تصبح إنساناً قانعاً يتحتّم عليك اتّقاء الحرص لأنّه عدوّ القناعة، بل وقد عُدّ في الخبر من دعائم الكفر, بمعنى أنّ الحرص سينتهي بالإنسان الحريص إلى الكفر شاء أم أبى”[1].
القناعة لغة ومفهوماً
هي الاجتزاء باليسير من الأعراض المحتاج إليها. يُقال: قنع يقنع قناعة وقنعانا: إذا رضي، وقنع يقنع قنوعاً: إذا سأل،… قال تعالى: ﴿وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ﴾[2].
قال بعضهم[3]: القانع هو السائل الذي لا يلحّ في السؤال، ويرضى بما يأتيه عفواً،.. وأقنع رأسه: رفعه. قال تعالى: ﴿مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ﴾[4]، وقال بعضهم: أصل هذه الكلمة من القناع، وهو ما يُغطي به الرأس، فقنع، أي: لبس القناع ساتراً لفقره كقولهم: خفي، أي: لبس الخفاء..[5].
وتوجد علاقة متينة بين القناعة وبين الزهد والرضى، ولذلك عرَّف بعض أهل اللغة القناعة بالرضى، والقانع بالراضي[6].
قال ابن فارس: “قنع قناعة: إذا رضي، وسُمّيت قناعة لأنّه يُقبل على الشيء الذي له راضياً”[7].
أغنى الناس وأعزّهم إلى الله
بيّن مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ حقيقة القناعة هي غنى القلب، وتلك حقيقة لا مرية فيها، فقد روى أبو ذرّ الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغنى؟” قُلتُ: نعم يا رسول الله، قال: “فترى قلّة المال هو الفقر؟” قُلتُ: نعم يا رسول الله. قال: “إنّما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب”[8].
وقالصلى الله عليه وآله وسلم: “ليس الغنى عن كثرة العَرَض[9]، ولكن الغنى غنى النفس“[10]. فكم من غنيّ عنده من المال ما يكفيه وولدَه ولو عُمِّر ألف سنة, يُخاطر بدينه وصحّته ويُضحّي بوقته يريد المزيد! وكم من فقير يرى بسبب قناعته أنّه أغنى الناس, وهو قد لا يجد قوت يومه! فالعلّة في القلوب: رضيً وجزعاً، واتساعاً وضيقاً، وليست في الفقر والغنى.
ومن أُشرِبَ اليأسَ كان الغنِيَّ ومن أُشربَ الحرصَ كان الفقيرا
وبالقناعة يتحقّق شكر المنعم سبحانه وتعالى، وذلك أنّ من قنع برزقه شكر الله تعالى عليه، ومن لم يقنع قصَّر في الشكر، وربما جزع وتسخّط، والعياذ بالله، ولذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “كن ورعاً تكن أعبد الناس، وكن قنعاً تكن أشكر الناس”[11].
كما أنّ العزّ في القناعة، والذلّ في الطمع، وذلك أنّ القانع لا يحتاج إلى الناس، فلا يزال عزيزاً بينهم باستغنائه عنهم، والطمّاع يُذلّ نفسه من أجل المزيد, ومن حديث جبرائيل عليه السلام للنبي الأكرمصلى الله عليه وآله وسلم: “.. واعلم أنّ شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزّه استغناؤه عن الناس”[12].
الحياة الطيّبة
قال الله العظيم في مُحكم كتابه وجليل خطابه: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾[13].
سُئل مولانا أمير المؤمنين عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾، فقال: “هي القناعة“[14]، وروى الطبري في تفسيره عنه عليه السلام ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ قال: “القنوع“[15].
وقال بعد أن ساق أقوال جملة من المفسّرين: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: تأويل ذلك: فلنُحيينه حياة طيبة بالقناعة، وذلك أنّ من قنعه الله بما قسم له من رزق لم يكثر للدنيا تعبه، ولم يعظم فيها نَصَبه ولم يتكدّر فيها عيشه باتباعه بغية ما فاته منها، وحرصه على ما لعلّه لا يُدركه فيها[16].
خذ القناعة من دنياك وارضى بها لو لم يكن لك فيها إلا راحة البدنِ
وانظُر إلى من حوى الدنيا بأجمعِها هل راحَ منها بغير الحنط والكفنِ[17].
إيثار القناعة
إذن ما الذي نصنع كي لا نسقط في فخّ الحرص العظيم؟ يُجيبنا الإمام عليه السلام على هذا السؤال بالقول: “ادْفَعْ عَظِيمَ الحِرْصِ بِإِيثَارِ القَنَاعَةِ”.
“ومن أجل محاربة الحرص يتعيّن على المرء أن يُفكّر ويسأل نفسه: إلى أيّ مدى أنا متيقّن من بقائي على قيد الحياة؟ إنّني أستطيع، في كلّ لحظة من لحظات عمري، أن أجني ما لا نفاد له ولا حدّ يحدّه من الربح والفائدة, فإن قلتُ: “سبحان الله” مرّة واحدة غُرست لي في الجنّة شجرة تبقى إلى أبد الآبدين. إذن فإنفاق لحظة واحدة في قول: “سبحان الله” له مثل هذا النفع الأبديّ.
فإن كانت الحال هذه فهل من اللائق أن يُمضي الإنسان هذا العمر القيّم في اقتناء اللباس الأجمل، وشراء البيت الأوسع، وجمع الدخل الأكثر، وما إلى ذلك؟! فقد يندم المرء ويعتصره الغمّ الشديد حتّى في هذه الدنيا على الأوقات التي أنفقها في جمع بعض الأموال عندما يُشاهد أنّه قد آن أوان رحيله عن هذه الدنيا وستقع أمواله بأيدي ورثته، ولن يُصيب منها شيئاً على الإطلاق، بل وقد تُصبح سبباً للنزاع والشقاق بين الورثة أيضاً.
فما الذي يرمي إليه الإنسان من جمعه لكلّ هذه الثروة؟ وما الذي سيحصل إذا جمعها؟ إنّ غفلة الإنسان الحريص ورزوحه تحت وطأة أوهامه وتخيّلاته في أثناء جمع ثروته يبلغان من الشدّة بحيث إنّه يستمرّ في اللهث وراء جمع الثروة على الرغم من كونه غارقاً فيها”[18].
قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: “خير الناس من أخرج الحرص من قلبه، وعصى هواه في طاعة ربّه“[19]، ولا يكون ذلك إلا عبر إيثار القناعة لأنّها واقية من الذنوب التي تفتك بالقلب كالحسد، والغيبة، والنميمة، والكذب، وغيرها من الخصال الذميمة والآثام العظيمة, ذلك أنّ الحامل على الوقوع في كثير من تلك الرذائل غالبًا ما يكون استجلاب دنيا أو دفع نقصها، فمن قنع برزقه لا يحتاج إلى ذلك الإثم، ولا يُداخل قلبه حسد لإخوانه على ما أوتو, لأنّه راضي قانع بما قسم له.
روى مولانا الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي عليه السلام: “يا علي إنّ من اليقين أن لا تُرضي أحداً بسخط الله، ولا تحمد أحداً بما آتاك الله، ولا تذمّ أحداً على ما لم يؤتك الله، فإنّ الرزق لا يجرّه حرص حريص ولا تصرفه كراهة كاره، إنّ الله بعدله وقسطه جعل الروح والراحة في اليقين والرضا، وجعل الهمّ والحزن في الشكّ والسخط”[20].
قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: “كيف يتخلّص من عناء الحرص من لم يصدق توكّله“[21].
نعم إنّ الإنسان إذا لم يّتقِ الحرص ويدفعه بإيثار القناعة وصدق التوكّل على الله تعالى، فإنّه سيبقى حريصاً متطلّعاً إلى المزيد من متاع الحياة الدنيا حتّى يُدفن تحت التراب، فالتراب وحده هو الذي يقطع طموحات الإنسان في الحياة الدنيا، ويحدّ من حرصه فيها.
اللهم صلِّ على مُحمد وآل مُحمد وتفضّل على الأغنياء بالتواضع والسعة، وعلى الفقراء بالصبر والقناعة، وعلى الغزاة بالنصر والغلبة، وعلى الأسراء بالخلاص والراحة بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
[1] من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 12 آب، 2011 م.
[2] سورة الحج، الآية 36.
[3] الزجاج في معاني القرآن، ج 3 ص 428.
[4] سورة إبراهيم، الآية 43.
[5] الحسين بن محمد، “الراغب الأصفهاني” مفردات ألفاظ القرآن، ج 2، ص 263 ــ 264، ط: دار القلم.
[6] محمد بن مكرم بن منظور، لسان العرب، ج 11، ص 321، مادة (قنع).
[7] أحمد بن فارس بن زكريا، مقاييس اللغة، ج 5، ص 23، مادة (قنع).
[8] محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج 3، ص 47، حديث (7929 ) طبعة 1: دار الكتب العلمية.
[9] كثرة العَرَض: ما يصيبه الإنسان من حظوظ الدنيا وحطامها.
[10] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 74، ص 160.
[11] العلامة حسين بن محمد تقي النوري، مستدرك الوسائل، ج 11 ص 175، طبعة 1: مؤسسة آل البيت: نقلاً عن القطب الرواندي في لب الألباب، وأخرجه ابن ماجة في سننه برقم 4217، باب الورع والتقوى، طبعة: دار الفكر.
[12] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج 1 ص 472، باب ثواب صلاة الليل.
[13] سورة النحل، الآية 97.
[14] عز الدين عبد الحميد بن هبة الله ابن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج 19، ص 55، طبعة 1: مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم.
[15] أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن، ج 17، ص 290، ط 1: مؤسسة الرسالة.
[16] م.ن. ص 291 – 292.
[17] من قصيدة تُنسب للإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام مطلعها: لَيْسَ الغَريبُ غَريبَ الشام واليَمَنِ..
[18] من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 12 آب، 2011م.
[19] التميمي الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ج 1، ص 241.
[20] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 74، ص 61.
[21] التميمي الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم ، ج 1، ص 197.
2017-03-26