ما وراء حذف الحيعلة الثالثة
نصَّ التفتازاني والقوشجي وغيرهما على دافع الخليفة عمر بن الخطّاب إلى حذف هذا الفصل من الأذان، واتّفق الزيديّة والإسماعيليّة والإماميّة على ثبوت هذا الحذف عنه، في حين جرى التعتيم على هذه النقطة في أغلب كتب أهل السنّة، على الرغم من تأكيد كثير من النصوص التار يخيّة والحديثية المتناثرة في المصادر على حذف عمر لحيّ على خير العمل للدافع الذي أعلنه.
إنّ ما ذكر من تعليل لحذف الحيعلة الثالثة قد يكون وجيهاً عند عمر بن الخطّاب ; لانسجامه مع نفسيته ومنهجه في فهم النصوص، وللظروف التي كان يعيشها من غزوات وحروب وتوسيع لرقعة الدولة، وهو ممّا يستوجب بالطبع
الصفحة 325
جمع الطاقات وتوظيفها للغرض المنشود، وعدم السماح للمتقاعدين في التشبث بعلل قد تبعدهم عن الجهاد، من جملتها الاتكال على الصلاة أو الولاية باعتبارهما خير العمل.
لكنّ هذا السبب في منع عمر بن الخطاب ترد عليه عدة أمور:
أوّلها: إنّ الغزوات والحروب كانت أعظم وأكثر على عهد رسول الله، وكانت ظروف انبثاق الدولة الإسلاميّة الفتيّة وبداية انطلاقها لنشر دين الله أدعى إلى حذف هذه الحيعلة من قِبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ لو صحّ هذا التعليل ـ من الظروف التالية التي عاشها الخليفة بعد استقرار أمور الدولة بشكلها الذي كانت عليه. فلماذا لم يحذف رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) هذا الفصل وحذفها عمر(1)؟!
إنّ هذا لَيثير تساؤلاً حول صحّة هذا التعليل الذي فسّر به عمر حذفه هذا، أو يومئ إلى وجود سبب آخر غير معلن في هذا السياق.
ثانيها: لو قبلنا التعليل السابق تنزّلاً لصحَّت مشروعية الحذف لفترة معينة، لا أنّه يكون تشر يعاً لكلّ الأزمان، ذلك أن سريان المنع إلى يومنا هذا ربّما يشير إلى أمر آخر.
ثالثها: إنّ هذا التعليل من قبل الخليفة لا يتّفق مع ما جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قوله: ” اعلموا أنّ خير أعمالكم الصلاة ” وهو لا يتّفق أيضاً مع قوله (صلى الله عليه وآله) عن الصلاة: ” إنّها عمود الدين إن قُبلت قُبل ما سواها وإن رُدَّت رُدّ ما سواها “، فلو
____________
1- وهذا التعليل والرد، ورد نظيرهما في إتمام عثمان للصلاة بمنى، بحجّة خوفه أن يظن الناس أنّ صلاة القصر هي المفروضة، فأجابه الصحابة بأن النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان يقصر الصلاة وينبّه المسلمين على أنّ ذلك مخصوص بمنى. فلوصح تعليل عمر، لكان يمكنه أن يقر الحيعلة الثالثة في الأذان وينبّه المسلمين على ضرورة الجهاد، كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يفعل ذلك. وهذا التشابه في أدوار الخليفتين الثاني والثالث يوقفك على مسار تيار الحكّام المجتهدين.
الصفحة 326
صحّ تعليل الخليفة وأنّه أراد أن لا يتّكل الناس على الصلاة ويَدَعُوا الجهاد، للزم من ذلك تخطئة كلّ النصوص الدالة على أنّ الصلاة خيرُ موضوع وخير الأعمال، وأنّها وسيلة لقبول الأعمال وردّها.
رابعاً: من المعلوم أنّ المسلمين صاروا بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهجين: أحدهما: نهج الخلفاء، والآخر نهج أهل البيت. وكان هؤلاء على تخالف في كثير من القضايا السياسية والفقهية، فلمّا منع عمر الحيعلة الثالثة نَسَبَ نهجُ الخلفاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنعَ تأييداً للخليفة عمر بن الخطاب، حتّى إذا جاء الخلفاء اللاحقون منعوا هذا الفصل من الأذان واستقبحوه من الناس، ولأجله ترى انحسار الروايات الدالة على الحيعلة في كتب الجمهور، لكنّ الطالبيِّين أصرّوا على الإتيان بها على الرغم من هذا المنع.
وبذلك تحزّب أبناء السنّة والجماعة لمذهب عمر بن الخطاب وحكمّوا رأيه في مقابل موقف الإمام عليّ وأولاده الذين خالفوا هذا المنع وأصرّوا على الحيعلة الثالثة رغم كلّ الظروف والمشاكل، كما ستقف عليها لاحقاً.
خامساً: إنّ المطّلع على مجريات الأحداث في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثمّ مَن بعده يقف على حقيقة جلية، هي أنّ قر يشاً لم تكن ترضى باجتماع النبوة والخلافة في بني هاشم، وكانت تطمع في الخلافة من بعده (صلى الله عليه وآله)، فكانوا يشترطون على رسول الله أن يبايعوه بشرط أن يجعل لهم نصيباً في الخلافة من بعده، لكنّه (صلى الله عليه وآله) كان يقول: ” إن الأمر لله يجعله حيث يشاء “(1) وليس الأمر بيدي.
وجاء عن ابن عباس: إن عمر بن الخطاب قال له في أوائل عهده بالخلافة: يا
____________
1- انظر: حديث عامر بن صعصعة في سيرة ابن هشام 2: 289، وحديث قبيلة كندة في سيرة ابن كثير 2: 159، وهما يدلاّن على ما نقوله.
الصفحة 327
عبدالله، عليك دماء البُدن إن كتَمتَنيها…. هل بقي في نفسه [ يعني عليّ بن أبي طالب ]شيء من أمر الخلافة؟
قلت: نعم.
قال: أيزعم أن رسول الله نصَّ عليه؟
قلت: نعم. وأزيدك: سألتُ أبي عمّا يدّعيه، فقال: صَدَق.
قال عمر: لقد كان من رسول الله في أمره ذَرْوٌ من قول لا يثبت حجّة ولا يقطع عذراً، وكان يَرْبَعُ في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعتُ من ذلك إشفاقاً وحيطةً على الإسلام… فعلم رسول الله أنّي علمت ما في نفسه فأمسك(1).
وقال العيني في عمدة القاري: واختلف العلماء في الكتاب الذي هم بكتابته فقال الخطابي: يحتمل وجهين، احدهما انه اراد أن ينص على الإمامة بعده فترتفع تلك الفتن العظيمة كحرب الجمل وصفين(2).
ولو جمعنا ما جاء عن ابن عباس، مع ما قاله عمر لرسول الله (صلى الله عليه وآله) عند مرضه ـ حينما قال (صلى الله عليه وآله): ائتوني بدواة وقلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً، فقال عمر: إنّ الرجل لَيَهجُر(3) ـ مع ما قاله رسول الله لعمر لمّا أتاه بجوامع من التوراة: والذي نفسُ محمّد بيده لو بدا لكم موسى فاتّبعتموه وتركتموني لَضللتُم(4)، مع
____________
1- شرح ابن أبي الحديد 12: 21 وقال: ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسنداً.
2- عمدة القارئ 2: 171.
3- وفي نص البخاري ” إنّ الرجل قد غلب عليه الوجع “، وكلاهما إساءة للرسول المصطفى.
4- سنن الدارمي 1: 115 باب ما يتقي من تفسير حديث النبي (صلى الله عليه وآله)، مسند أحمد 4: 266، المصنف لعبد الرزاق 6: 113 باب مسألة أهل الكتاب، أسد الغابة 3: 127.
الصفحة 328
قول رسول الله في حديث الثقلين ” ما إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا “، لو جمعنا كل ذلك لوقفنا على حقائق مذهلة، ولعرفنا موقف النهج الحاكم بعد رسول الله من أهل بيت الرسالة وموت الزهراء وهي واجدة على أبي بكر وعمر(1). ولعرفنا أيضاً مدى المفارقة بين ترك برّ فاطمة وترك الدعوة للولاية وبين تأكيدات الرسول على الاهتمام بالعترة تلو يحاً وتصر يحاً، مِن مِثل وقوفه (صلى الله عليه وآله) كلّ يوم ـ مدة ستة أشهر ـ على باب فاطمة بعد نزول آية التطهير يناديها للصلاة بقوله ” الصلاة الصلاة، إنّما ير يد الله ليذهبَ عنكم الرجسَ أهلَ البيت ويطهّركم تطهيرا “(2).
ومما يَحسُن بنا أن نتفطّن له هو أن هذا الموقف من رسول الله إنّما يُنبئ عن وجود ترابط عميق بين بر فاطمة وولدها ومسألة الصلاة، وبمعنى آخر بين الولاية والعبادة، إذ أنّ وقوف الرسول المصطفى على باب فاطمة لمدة ستة أشهر لا يمكن تصوّره لغواً بأيّ حال من الأحوال ; لأنّه (صلى الله عليه وآله) كان يقف داعياً المطهَّرين من عترته إلى الصلاة، مُعلِماً بوجود لون من التواشج بين الصلاة والعترة. ورسولُ الله حلقةُ الوصل والربط بين ركيزة التوحيد ” الصلاة،الصلاة ” وبين الولاية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ…}. ونلحظ في هذا النص: قول الله ” القران “، وفعل الرسول ” الوقوف “، ونتيجة لزوم الاعتقاد بمنزلة العترة والقربى وأن مودتهما وطاعتهما
____________
1- صحيح البخاري 5 ـ 6: 253، كتاب المغازي باب غزوة خيبر ح 704، صحيح مسلم 3: 1379، كتاب الجهاد باب قول النبي لا نورث إنما تركناه صدقة، تاريخ المدينة لابن شبة 1: 197.
2- مسند أحمد 3: 259، 285، سنن الترمذي 5: 351 ح 3205، كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة الاحزاب، المستدرك للحاكم 3: 158، مصنف ابن أبي شيبة 6: 391 ح 32262، كتاب الفضائل باب في فضل فاطمة (عليها السلام).
الصفحة 329
عبادة منجية.
سادساً: إن الخلفاء المتأخّر ين أيضاً أدركوا سرّ الحيعلة الثالثة فحرصوا أشدّ الحرص على حذفها، ولم يرضوا بها ممن خطب لهم ولَبِسَ خِلَعَهم وانضوى تحت لوائهمَ، بل أصرّوا على ضرورة حذفها ; لأنّها رمز يشير إلى بطلان حكوماتهم. وسيأتيك ذلك في الفصل الرابع لدى الكلام عن تاريخ الحيعلة في مكّة وحلب سنة 463 هـ. وحسبك منها ما كان من القائم بأمر الله العباسي، حين أخبره نقيب النقباء أبو الفوارس طرّاد بأنّ محمود بن صالح خطب له بحلب ولبس الخلع القائمية، حيث قال له: أيّ شيء تساوي خطبتهم وهم يؤذنون بـ ” حيّ على خير العمل “!!
كلّ هذه النصوص توكّد أنّ المراد الأساسي من ” خير العمل ” هو بر فاطمة وولدها، والولاية والإمامة التي بها قوام الصلاة والصوم والزكاة والحجّ وسواها… لا شيء آخر، فصار الخليفة ـ حسب كلام الإمام المعصوم، والاستقراء التاريخي ـ لا يرضى أن يقع (دعاء إليها وتحر يض عليها)، لأن ذلك يعني التشكيك بشرعيّة خلافته وخلافة مَن قبله، وهو المعنيّ من كلامه (عليه السلام) (ما نودي بشيء كالولاية).
وجاء في الغَيبة للنعماني عن عبدالله بن سنان أنّه (عليه السلام) قال في معرض كلامه عن علامات ظهور القائم من آل محمّد عجل الله تعالى فرجه الشر يف: وأنّه سيكون في السماء نداء ” ألا إنّ الحقّ في عليّ وشيعته “.
قال (عليه السلام) فـ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} على الحق وهو النداء الأوّل(1)، ويرتاب يومئذ الذين في قلوبهم مرض، والمرضُ واللهِ عداوتُنا(2).
____________
1- دون النداء الثاني الذي ينادي به إبليس لعنه الله.
2- الغيبة للنعماني 173 ـ 174 باب ما جاء في العلامات التي تكون قبل قيام القائم.
الصفحة 330
ولو قرأنا تفسير الأئمّة لقوله تعالى {إليه يَصعَدُ الكلمُ الطيّبُ والعملُ الصالح يرفعه} لعرفنا المنزلة العظيمة للولاية وسبب معاقبة عمر للقائل بها، لأنّ الكلم الطيّب لو كان قد صعد إليه سبحانه وتعالى بنفسه، فما معنى العمل الصالح يرفعه إذن؟!
روى الكليني بسنده إلى الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى {إليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصالح يرفعه} قال: ولايتنا أهل البيت ـ وأهوى بيده إلى صدره ـ فمن لم يتولّنا لم يرفع الله له عملاً(1).
وعن الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى {إليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصالح يرفعه} قال: الكلم الطيب هو قول المؤمن: ” لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله، عليّ ولي الله وخليفة محمّد رسول الله حقاً حقا وخلفاؤه خلفاء الله “، والعمل الصالح يرفعه، فهو دليله، وعمله اعتقاده الذي في قلبه بأنّ هذا الكلام صحيحٌ كما قلته بلساني(2).
وعن فاطمة الزهراء بنت محمّد، قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لمّا عرج بي إلى السماء صرت إلى سدرة المنتهى {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْأَدْنَى} فأبصرته بقلبي ولم أره بعيني، فسمعت أذاناً مثنى مثنى، واقامة وتراً وتراً، فسمعت منادياً ينادي: يا ملائكتي وسكان سماواتي وارضي وحملة عرشي اشهدوا اني لا إله إلاّ انا وحدي لا شريك لي، قالوا: شهدنا وأقررنا، قال: اشهدوا يا ملائكتي وسكان سماواتي وارضي وحملة عرشي بأن محمّداً عبدى ورسولي، قالوا: شهدنا واقررنا، قال: اشهدوا يا ملائكتي وسكان سماواتي وارضي وحملة عرشي بأن عليّاً وليي وولي
____________
1- الكافي 1: 340.
2- تفسير الإمام العسكري 328 ح 184 وعنه في تأويل الآيات: 469 والنص عنه.
الصفحة 331
المؤمنين بعد رسولي، قالوا: شهدنا وأقررنا…(1)
وبهذا يفضي بنا البحث إلى أنّ التعليل الحقيقي لمنع عمر بن الخطاب للحيعلة الثالثة هو اطلاعه على المقصود من عبارة ” حيّ على خير العمل ” في الأذان، ودلالتها على ولاية أهل البيت، لصرف الانتباه عنها، وذلك بكتمانها وحذفها، فمَنَعها تحت غطاء الحفاظ على كيان الدولة الإسلامية وتوسيع رقعتها بالجهاد، لكن الطالبيين قد أدركوا هذا الأمر وأصرّوا على الإتيان بها رغم كلّ الظروف الحالكة، وهذا ما ستقرأه بعد قليل إن شاء الله تعالى.
ولذلك كان الإمام عليّ (عليه السلام) في أيّام خلافته يلمح ويشير إلى أنّ حذف ” حيّ على خير العمل ” كان جوراً عليه وعلى الإسلام، فكان إذا سمع مؤذّنه يقول ” حيّ على خير العمل، حيّ على خير العمل ” قال: مرحباً بالقائلين عدلاً(2)، معرّضاً بمن رفعها، لأنّ عليّاً هو خير العمل وهو العدل الذي يدور مع القرآن حيثما دار ويدور معه القرآن أيضاً.
والذين ظنوا أنّ الصلاة تقتصر على شكلها الظاهري دون المحتوى الذي هو الطاعة(3) سعوا إلى ترسيخ فكرة أن هل البيت ومودتهم ليست خير العمل، فكان لحذفها من الأذان مغزى عرفه أهل البيت فأنكروا حذفها، كما عرفه مخالفوهم فأصروا على حذفها.
____________
1- تفسير فرات الكوفي: 342 في آخر تفسير سورة الأحزاب.
2- الفقيه 1: 288/ ح 890.
3- أي طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة وليّه، والأخيران منتزعان من الأولى، وقد مرّ عليك قوله (صلى الله عليه وآله): من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع علياً فقد أطاعني ومن عصى علياً فقد عصاني، وقوله (صلى الله عليه وآله): فاطمة بضعة مني… فمن آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله جلّ وعلا.
الصفحة 332
ومن خلال هذه الدلائل العديدة استبان لنا أنّ ” خير العمل ” كناية عن إمامة عليّ (عليه السلام) التي هي امتداد لنبوّة النبيّ، وامتداد للتوحيد، وهذا ما رواه الباقر والصادق (عليهما السلام) من أئمّة أهل البيت في قوله تعالى {فطرةَ الله التي فَطَر الناسَ عليها} قالا: هو ” لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله، عليّ أمير المؤمنين وليّ الله “، إلى ها هنا التوحيد(1).
وقد سئل الشريف المرتضى: “هل يجب في الأذان بعد قول «حيّ على خير العمل» “محمّد وعلي خير البشر”؟ فأجاب قائلا: “إن قال: محمّد وعلي خير البشر ـ على أنّ
____________
1- تفسير القمّي 2: 155 عن الباقر، ونحوه عن الصادق (عليه السلام) في التوحيد وبصائر الدرجات.
ولا يخفى عليك أن للتوحيد مراتب، فهناك توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الطاعة، فانّه سبحانه وتعالى مع كونه {لم يكن له كفواً أحد} ـ و {هو الله الواحد القهار}، و{خالق كل شيء}، وهو الذي {يتوفى الأنفس حين موتها}، ـ فإنّ هذا المعنى غيرُ معارَض بمثل قوله تعالى: {حتى إذا جاء أحدكم الموتُ توفّته رُسُلنا}.
وإن قوله تعالى {وإذا مَرِضتُ فهو يشفين} لا يعارض ما جاء من الشفاء بالقرآن في قوله تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شِفاء} وبالعسل {فيه شفاء للناس}.
وكذا قوله: {قل لا يَعْلمُ من في السماوات والأرض الغيبَ إلاّ الله} فإنه لا يعارض قوله {وما كان الله ليُطلعكم على الغيب ولكنّ الله يجتبي من رُسُلِه مَن يَشاء} وإلى غيرها من عشرات الآيات.
فلا تخالُفَ إذاً بين نسبة الافعال إلى الله جل جلاله ونسبتها في الوقت نفسه إلى غيره، فلا يخالف قوله: {أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} مع قوله: {وارزقوهم فيها واكْسُوهُم} وكلاهما من كلام الباري. ومن هنا تأتي مسألة التوحيد، فتوحيد الطاعة هو يعني لزوم إطاعة من أمر الله بطاعته، ومن لا يطيع الرسول وأولي الأمر المفروض طاعتهم فانه لم يطع الله لقوله تعالى: {وما ارسلنا من رسول إلاّ ليطاع بإذن الله} وهذا لا يخالف قوله: {وما أُمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين له الدين} فطاعة من أمر الله بطاعته هي طاعة لله، ومن لم يطع الله ورسوله ومَن أَمر الله بطاعته لم يوحّد الله تعالى حق توحيده.
وعليه فطاعة أحدهما جاء على وجه الاستقلال، والآخر على أنّه مظهر أمره سبحانه، وليس هذا بشرك أو مغالاة كما يدّعون، بل هو عين الإيمان وكمال الدين.
الصفحة 333
ذلك من قوله خارج من لفظ الأذان ـ جاز”(1).
وهذا يعني أنّ هذا التفسير لحي على خير العمل كان سائداً في لسان المتشرعة منذ زمن أهل البيت وحتّى يومنا هذا.
وقد أفتى القاضي ابن البرّاج باستحباب ذكر هذا التفسير، فقال: ويستحب لمن أذّن أو أقام أن يقول في نفسه عند «حيّ على خير العمل»: “آل محمّد خير البرية”، مرتين(2).
وكون عليّ (عليه السلام) هو المراد من «حيّ على خير العمل»، والنبيّ من “حيّ على الفلاح”، وطاعة الرب وعبادته من “حيّ على الصلاة”، فيه من وجوه البلاغة ما لا يخفى، إذ فيه من انواع البديع ما يسمّى بالتلميح، وهو أن يشار في الكلام إلى آية من القرآن أو حديث مشهور أو شعر مشهور أو مثل سائر أو قصة أو معنى معروف، من غير ذكر شيء من ذلك صريحاً. وأحسنه وأبلغه ما حصل به زيادة في المعنى المقصود.
قال الطيبي في التبيان: ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْض وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} قال جارالله الزمخشري: قوله: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} فيه دلالة على تفضيل محمّد (صلى الله عليه وآله) وهو خاتم الأنبياء، وأنّ أمته خير الأمم، لأنّ ذلك مكتوب في الزبور، قال تعالى {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}،
____________
1- رسائل المرتضى 1: 279، مسأله 17، وجواهر الفقه لابن البراج: 257 مسألة 15.
2- المهذب لابن البراج 1: 90 باب الأذان والإقامة وأحكامهما.
الصفحة 334
قال: وهو محمّد (صلى الله عليه وآله) وأمته(1).
فهنا ألمح الله سبحانه وتعالى لعباده بأن الصلاة له لا لغيره، وأنّ الفلاح الذي قامت به الصلاة هو اتباع رسول الله محمّد (صلى الله عليه وآله)، لا الاجتهاد مقابل النص، وان خير العمل هو الإيمان بالإمامة والولاية لعلي (عليه السلام) التي هي امتداد للنبوة والتوحيد، وبها قوام العبادات التي عمودها الصلاة.
وهناك عشرات إن لم تكن مئات الأدلّة على أنّ خير العمل ولاية عليّ، وان ضربته يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين، وأنّ الاعمال لا تُقبل إلاّ بولايته، ومعان أخرى متّصلة بهذا الموضوع. وقولنا في الأذان «حيّ على خير العمل» فيه تلميح لكل تلك المعاني التي صدع بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حق عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه.
والواقع أن كون أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب هو خير البشر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنّما هو معنىً قرآني نطقت به آية من سورة “البيّنة” المباركة، وصرّح به النبيّ (صلى الله عليه وآله) في تفسير الآية، وتداولته المصادر السنيّة، وكان هذا المعنى ممّا آمن به كبار من الصحابة المعروفين، حتّى صار في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) جزءً من الثقافة الإيمانيّة القرآنية السائدة.
فقد روى الطبري بإسناده عن محمّد بن عليّ الباقر لما نزل قوله تعالى {أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيِّةِ} قال النبيّ: أنت يا عليّ وشيعتك(2).
____________
1- انوار الربيع 4: 266. ومن هذا الباب تلميح أبي العلاء المعري للشريف المرتضى بقصيدة المتنبي: لك يا منازل في القلوب منازل. انظر: أنوار الربيع 4: 292 ـ 293. هذا وقد أخذ الطيبي والزمخشري هذا عن تفسير النسفي 2: 290 سورة الاسراء.
2- تفسير الطبري 30: 264، ورواه السيوطي في الدر المنثور 6: 379، والحسكاني في شواهد التنزيل 2: 459 ـ 473 ح 1125 ـ 1148 بأسانيد وطرق كثيرة.
الصفحة 335
والديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب بإسناده عن جابر بن عبدالله مرفوعاً عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: عليّ خير البشر من شك فيه فقد كفر(1).
وغيرها من عشرات الطرق والأسانيد عن الصحابة والتابعين.
وبعد كلّ هذا تعلم أنّ قول “محمّد وآل محمّد خير البرية” أو “محمّد وعليّ خير البشر” عند الحيعلة الثالثة أو بعدها إنّما هو توضيح لمعناها الذي حاول الحكام كتمه، وأن هذا التوضيح والتفسير ما هو إلاّ استلهام من نصوص القرآن والسنّة، وسيرٌ على الخطوات الصحيحة التي رسمها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأمته.
وستعلم بما لا مزيد عليه ـ في الباب الثالث من هذه الدراسة “اشهد أن عليّاً ولي الله بين الشرعية والابتداع” ـ أن إتيان الأئمّة: وأتباعهم بهذه العبارات ما هو إلاّ تفسير لمعنى الحيعلة الثالثة، وهو من قبيل الإتيان بتفسـير بعض الآيات تفسـيراً مرتبطاً بنصّ الآية ونسقها، وهذا النوع من التفسير ممّا تحفل به كتب الفريقين بلا أدنى ريـب(2)، وهو التفسير المقبول الذي اصطلح على تسميته البعض بـ “التفسير السِّياقي”.
____________
1- الفردوس 3: 62 ح 4175، وانظر ترجمة الإمام عليّ لابن عساكر 2: 457 ح 989 بأسناده عن عائشة.
2- انظر: قراءه عائشة، وحفصة، وأم سلمة للآية {حافظوا على الصلوات والصلاةِ الوُسْطى} هكذا (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين).
وحديث عائشة موجود في صحيح مسلم، كتاب المساجد، باب الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وسنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب وقت صلاة العصر، وسنن الترمذي، كتاب التفسير، تفسير سورة البقرة، وسنن النسائي، كتاب الصلاة، باب المحافظة على صلاة العصر، وموطأ مالك، كتاب الصلاة، باب صلاة الوسطى، وتفسير الآية في الدر المنثور 1: 302 و303، وفي فتح الباري 9: 265، ومسند أحمد 6: 73 و878 منه.
أما حديث حفصة فانظر فيه: موطأ مالك كتاب الصلاة، باب الصلاة الوسطى، ومصنف عبدالرزاق، كتاب الطهارة، باب صلاة الوسطى ح 2202، وتفسير الطبري 2: 343، والدر المنثور 1: 302، والمصاحف لابن أبي داود: 85 ـ 86.
أما حديث أُم سلمة، فانظر فيه: الدر المنثور 1: 303، والمصاحف لابن أبي داود: 87.
وقد قرأ ابن عباس وابن مسعود وأبيّ بن كعب وعلي بن أبي طالب قوله تعالى {فما استمتعتم به منهنّ فاتوهنّ أجورهنّ إلى أجل مسمى}.
وانظر: قراءة ابن عباس في المعجم الكبير 10: 320، والسنن الكبرى 7: 205، والمستدرك للحاكم 2: 305، والجامع لاحكام القرآن للقرطبي 5: 130، والكشاف 1: 519.
وفي قراءة ابن مسعود. انظر نيل الأوطار 6: 274، وشرح النووي على صحيح مسلم 6: 118.
وفي قراءة أبي بن كعب. انظر جامع البيان للطبري 5: 19، والدر المنثور 2: 139. وهي قراءة علي كذلك.