جئت إليك يا ولدي عبر صحاري الحب العطشى إلى مطر الوصال، جئت إليك يا ياسين عبر ممرات الموت والأسلاك الشائكة والألغام والخنادق، جئت مهرولًا من لهف اللقاء أعبر حدود المستحيل قدمًا بعد قدم، حتى تمزق جسدي فوق تراب البصرة، واختلط دمي مع جذور النخيل المذبوحة، وتشظى قلبي المغموس في بحر حبك فوق الأعشاب الخضراء النامية على جداول شط العرب فتحول إلى وردة حمراء دائمة الحياة.
مازلت أتذكر ضحكتك الحبيبة المترقرقة مثل الموجات المتناغية على شفاه شط العرب، ومازال صوتك يداعب سمعي عندما كنت ترى البلابل التي كانت تعيش قبل سنوات في نخيل أبيالخصيب، قبل أن تأتي خفافيش الدم السوداء… جئت إليك مرة أخرى بعد سبع سنوات، أريد الوصول إليك ولكن جسدي تمزق وعبرت روحي تطوف حولك تقبل وجنتيك وتلامس شعر رأسك.
لا تحزن يا ياسين…
لا تحزن لقتلي أبدًا، فلقد بدأت الحياة في اللحظة التي قتلت فيها بيد الذئاب العاوية بين النخيل، ولا تقل أبدًا أن أبيقتل على تراب البصرة مقابل بيتنا المتواضع، فأنا مازلت حيًّا مثل هذا النهر الذي يعانق أبا الخصيب ويمنح الحياة لكل ما يحيط به ويمر عليه، مازلت حيًّا يدوي صوتي عبر بوابات الزمن الأحمر الواعد بعصر الخلاص المشرق المبشر بيوم لاظلم فيه ولا جور( ).
عبد الرحمن من مواليد محافظة ميسان، قضاء الكحلاء عام 1953م.
نشأ وسط أسرة فقيرة امتازت بالطيبة والسيرة الحسنة فتربى على تلك السجايا.
أكمل الدراسة المتوسطة ثم دخل الثانوية وبعد إكمال الرابع العام ترك الدراسة، وتطوع في السلك العسكري عام 1971م ظنًّا منه أن الجيش سيكون مدافعًا عن حقوق شعبه وأمته، وأصبح نائب ضابط آمر دبابة في الفرقة الخامسة، لواء عشرين.
كان يؤدي واجبه الرسالي بتوعية الجنود وضباط الصف لما يدور حولهم، يساعده في ذلك مجموعة من ضباط الصف والجنود في وحدته. وكانت ذروة ذلك النشاط حينما استلم صدام التكريتي الحكم في العراق وقام بحملة شعواء على المؤمنين فزج الآلاف منهم في السجون وأعدم أعدادا كبيرة منهم تمهيدًا لشن الحرب على الثورة الفتية في إيران بإيعاز من الدوائر الاستكبارية وبتشجيع ودعم من الدول العميلة في المنطقة.
بتاريخ 22/09/1980م شن صدام المقبور حربه على الجمهورية الإسلامية، وزج بعشرات الآلاف في أتونها، فأصبح أبوياسين وإخوته على المحك، فصاروا بين خيارين:
إما أن يطيعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد، وذلك يتطلب منهم الاعتداء على أراضي وأعراض وأموال الآخرين وسفك دمائهم بغير حق، وجزاء ذلك جهنم وبأس المصير…
وإما أن يتخذوا قرارًا حاسمًا قد يكلفهم المال والبنون وفقد الوطن، ففي قاموس حزب البعث من يترك الجيش أو يمتنع عن المشاركة في الحرب، تصادر أمواله وتسبى وتسجن وقد تعدم أسرته ويباح دمه، ولكن في ذلك رضى الله ورسوله والمؤمنين ومن له ذرة عقل.
قد يسأل ياسين وغيره “لماذا فعل أبوياسين ذلك، وعرض أسرته إلى تلك المأساة؟ ما الداعي وما المبرر لذلك؟”.
إلى كل أبناء الشهداء والمجاهدين، أضرب مثلًا قد يقرب لهم الصورة، ويحل لهم إشكالًا خالجهم طيلة تلك الفترة الحرجة التي عاشوها ويكون جوابًا لذلك.
كان الحر بن يزيد الرياحي في معسكر يزيد بن معاوية، يردد مع نفسه أنه في معسكر الباطل ولكن ما هي إلا سويعات حتى يعود إلى أهله منتصرًا ومحملًا بالغنائم والهدايا، ولكن على حساب من يكون ذلك؟ على حساب دينه وآخرته! إذن كان هو بين خيارين بين الحق والباطل، فترتعد فرائصه فيقول «إني أخير نفسي بين الجنة والنار، فوالله لاأختار على الجنة شيئًا.
فأصبحت مقولته أنشودة الأجيال ومثل الأحرار على مر العصور.
لعل ذلك مثلًا بسيطًا إلى ياسين وأمثاله ممن فقدوا الآباء وتعرضوا إلى السجن والحرمان، وكفاهم بذلك فخرًا أن آباءهم وقفوا بوجه مجرم ما عرف التاريخ المعاصر لإجرامه وقسوته مثيلًا( ).
نعم هاهو عبدالرحمن وأخوته فالح حسين العلي وجمال خماس( ) وعبدالكريم بشارة( ) وعامر ياسين( ) يتخذون موقفهم الحاسم في زمن قلت فيه مواقف الرجال ورجال المواقف، يتخذونه غير مبالين بالنتائج المادية التي قد تترتب عليه؛ فقد اجتمعوا على ترك ذلك الجيش الذي أصبح ألعوبة بيد صدام وحزبه، والالتحاق بالمجاهدين العراقيين، ونفذوا ما اتفقوا عليه ليلة 18/07/1982م عبر قاطع البصرة متخطين حقول الألغام وكل مخاطر الطريق.
وصلوا بسلام إلى قوات الجمهورية الإسلامية وأرادوا الالتحاق بالمجاهدين لكنهم تأخروا لأسباب فصلناها في الجزء الأول من الموسوعة صفحة98.
التحق بالدورة الرابعة لقوات بدر — دورة الشهيد أبيرحيم دلو— بتاريخ 30/10/1983 والتي بدأت بشقيها العسكري والعقائدي في معسكر الشهيد الصدر جنوب شرق الأهواز، وتحقق الحلم الذي طالما راوده بحمل السلاح بوجه البعثيين البغاة، مع أخوته المجاهدين العراقيين الذين تركوا الأهل والوطن واجتمعت كلمتهم على الجهاد حتى النصر أو الشهادة.
انتهت تدريبات الدورة الرابعة التي كانت تضم نخبة من المجاهدين رفدت القوات بكادر أخذ على عهدته مسؤولية العديد من الوحدات فيما بعد.
كلفت الدورة بأول واجب على أطراف مدينة البصرة وكان لأبيياسين دور فاعل فيها لشجاعته وخبرته العسكرية.
في بداية عام 1984م، دخلت قوات بدر إلى هور الحويزة من أجل بسط سيطرتها عليه، وتأمين طرق الارتباط بالمجاهدين في داخل العراق وتسهيل عبور الأسر المهاجرة والفارّة من ظلم النظام وقساوة أجهزته القمعية، والممارسات اللاإنسانية التي كانوا يتعرضون لها.
استلم أبوياسين إمرة أحد فصائل فوج الشهيد الصدر ثم إمرة أحد سراياه، واشترك معه في كل الواجبات والعمليات الجهادية التي نفذها، منها عملية السيطرة على مخفر الترابة وعمليات القدس وعاشوراء والتي نفذها المجاهدون للسيطرة على بحيرة أم النعاج والمناطق والممرات المائية المحيطة بها. فكان أبوياسين مضرب مثل في صبره وتحمله وهدوئه وشجاعته.
لقد أحب المجاهدين وأحبوه لما وجدوا فيه من الأخلاق والنفس الكريمة لهذا أصبح قدوة يقتدون بها ويكنون لها كل الاحترام، ففي هور الحويزة كان يستيقظ صباحًا يعد الفطور لمقر سريته، وكان يتفقدهم ويسعى في حل مشاكلهم.
عندما شرح له الطفل فراس مصطفى( ) وضع زوجته وأبنائه في سجن البصرة، حزن كثيرًا ولكنه احتسب ذلك في سبيل الله، ودعا لياسين وأمه وأخواته والمظلومين بالخلاص من ظلم صدام وحزبه اللعين، لكن لم يثنه ذلك عن الاستمرار في خطه الجهادي بل زاده إصرارًا على مواصلة طريق الجهاد حتى النصر أو الشهادة.
شارك أبوياسين في عمليات جهادية في قاطعي الوسط والشمال وكان آمرًا لإحدى سرايا فوج الشهيد الصدر، وكان أهمها عمليات حاج عمران التي اقتحم فيها أبوياسين وسريته مواقع العدو وتهاوت حصونه في ملحمة قل نظيرها، وفيها فقد أبوياسين أعز أخوة الجهاد أمثال فالح حسين العلي — رفيقه في الهجرة— وأبيحيدر الكرار وأبيمصطفى النقيب( ) وعشرات الشهداء الآخرين، فعاهد تلك الدماء الطاهرة التي سالت على مرتفعات گردمند ان يستمر في الطريق داعيًا الباري عز وجل أن يرزقه الشهادة في سبيله.
كانت المحطة الأخيرة في حياة أبيياسين على مشارف مدينة البصرة، وفي الجانب الآخر لشط العرب، نظر إلى بساتين النخيل في الجانب الآخر، فطارت به الذكريات إلى هناك إلى أبيالخصيب إلى أم ياسين وأبنائها، إلى ذلك البيت المتواضع الذي تحيطه النخيل من كل جوانبه، فدمعت عيناه، وتمنى أن يكون ياسين وأمه وإخوانه قد أفرج عنهم ليحتضنهم ويشمهم ويقبل أياد تلك المرأة التي كانت تكدح ليل نهار لسد رمق أبنائها؛ قاطعه أحد المجاهدين سائلا «ما بك ياأباياسين؟»، فانتبه وكأنه كان في عالم آخر، لم يسمع هدير المدافع وأصوات البنادق وأزيز الرصاص.
بتاريخ 21/01/1987م، تقدم أبوياسين بسريته يصول على الأعداء ويلقنهم دروسًا في البطولة والشجاعة؛ وعن تلك اللحظات يقول الحاج أبومحمد الطيب( ): «كان أبوياسين يوزع قواته وهو منهمك في توجيههم، ويشير لهم بيده فأصابته قذيفة مدفع، لكن يده ظلت ممدودة حتى سقط إلى الأرض شهيدًا.
هكذا ذهب أبوياسين شهيدًا مدافعًا عن المظلومين من أبناء شعبه، وانطوت باستشهاده صفحة من صفحات الجهاد المشرقة، ولكنها ستبقى خالدة يستلهم منها الثوار والمجاهدون دروس الهجرة والجهاد والشهادة.
بقي جسده مفقودًا حتى عثر على رفاته في عام 1996م فشيع ودفن في مدينة الأهواز.
سلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيًّا