تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان سورة المائدة
28 يونيو,2018
القرآن الكريم
698 زيارة
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة المائدة
66
((وَلَوْ أَنَّهُمْ ))، أي أهل الكتاب ((أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ))، أي عملوا بما فيها بدون تحريف وزيادة ونقيصة ((وَ)) أقاموا ((مَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ ))، أي القرآن، وكونه مُنزَلاً إليهم باعتبار نزول بين أوساطهم وفي زمانهم ((لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ ))، أي السماء، فإنه سبحانه يُنزِل السماء مدراراً لمن آمن واتّقى ((وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم )) باعطاء الأرض خيرها وبركتها، كما قال سبحانه (ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) ((مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ))، أي من هؤلاء الكتاب جماعة معتدلون في العمل لا غلو عندهم ولا تقصير، كما نجد أنّ كلّ أمة بعضهم معتدلون وبعضهم متطرفون، أو المراد بهم الذين آمنوا بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وإطلاق (منهم) على أولئك باعتبار الماضي (( وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ))، أي أنّ أكثرهم متطرفون يعملون الأعمال السيئة .
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة المائدة
67
((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ )) هذه الآية نزلت بمناسبة إستخلاف الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) علياً خليفة من بعده -كما أجمع عليه المفسرون- وقد كان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يخشى المنافقين من ذلك فبيّن سبحانه عظم الأمر بقوله ((وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ ))، أي لم تبلّغ خلافة علي (عليه السلام) ((فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ )) حتى أنّ كل الرسالة رهن هذا التبليغ، وذلك واضح إذ عدم الإستخلاف معناه ذهاب جميع الأتعاب سُدى، وقد أمّنه الله سبحانه مما كان يخشى منه فقال ((وَاللّهُ يَعْصِمُكَ ))، أي يحفظك ((مِنَ النَّاسِ )) فلا يتمكنون من الفتنة والإنقلاب والإيذاء مما كان يخشاه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وحين ذاك وعند منصرف الرسول من حُجّة الوداع في وسط الصحراء أمَرَ بنصب منبر له وخطب خطبة طويلة بليغة، ثم أخذ بكف علي (عليه السلام) وقال : “مَن كُنتُ مولاه فهذا علي مولاه اللهمّ والِ مَن والاه وعادِ مَن عاداه وانصر مَن نصره واخذل مَن خذله ..(إلخ)” وأنشد حسّان :
يناديهم يوم الغدير نبيّهم بخُمٍّ وأسمِع بالرسول مناديا
(الأبيات)
((إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)) الذين يكفرون ببلاغك، ومعنى (لا يهديهم) أنه لا يلطف بهم اللُطف الزائد بعدما أعرضوا عن الحق عناداً واستكءاراً، ولعلّ الإرتباط بين الآية وطرفيها أنه كما أنّ الناس مأمورون بالقبول الرسول مأمور بالبلاغ، مع تلطيف جو الكلام، بتغيير الإسلوب في وسط المطلب، تفنّناً في البلاغ وتنشيطاً للأذهان كما تقدّم في آيات أُخر متشابهة .
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة المائدة
68
((قُلْ )) يارسول الله لأهل الكتاب ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ )) من الدين الصحيح الذي إرتضاه الله لعباده ((حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ )) بالعمل بما فيها بدون تحريف أو تحوير ((وَ)) تقيموا ((مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ )) يعني القرآن، وقد سبق وجه قوله (أنزل إليكم) وأنه لجهة نزول القرآن في أوساطهم ((وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا )) فعوض أن يهتدوا بالقرآن يزيدهم طغياناً حيث كلما رأوا القرآن تصمّموا على مقابلته وكفروا بكل ما ينزل منه، ولا يخفى أنّ نسبة الزيادة إلى القرآن مجاز وإلا فهوى نفسهم هو الذي يزيدهم كفراً ((فَلاَ تَأْسَ ))، أي فلا تحزن يارسول الله ((عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)) الذين كفروا بعدما علموا الحق وأعرضوا عن الهدى بعد أن رأوه وعرفوه .
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة المائدة
69
وحيث تقدّم أنّ الله لا يهدي القوم الكافرين مما كان يوهم أنّ الكفار غير قابلين للهداية، ذَكَرَ سبحانه أنهم إن آمنوا -الملازم لإمكان الإيمان منهم- كان لهم ما لغيرهم من المؤمنين من الأجر والمثوبة ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ )) إيماناً ظاهراً بالشهادتين ((وَالَّذِينَ هَادُواْ ))، أي اليهود ((وَالصَّابِؤُونَ )) وهم قسم من المسيحيّين أو غيرهم -كما تقدّم في سورة البقرة- ورفع (الصابئون) مع أنه عطف على المنصوب بـ (إنّ) للإلفات إلى أنّ الصابئ الذي لا يُرجى فيه خير إن آمن قُبِل فكيف بغيره، فهو معطوف على محل إسم (إن) حيث كان مبتدءاً قبل دخول الناسخ ((وَالنَّصَارَى )) ليس إعتبار بأساميهم وصبغتهم العامة في النجاة والثواب بل ((مَنْ آمَنَ)) منهم ((بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ )) إيماناً حقيقياً من القلب لا يشوبه شرك ونحوه ((وعَمِلَ صَالِحًا ))، أي عمل عملاً صالحاً ((فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) لا في الدنيا ولا في الآخرة، أما في الآخرة فواضح، وأما في الدنيا فلأنّ الخوف الحقيقي والحزن الواقعي هو الذي لا يُرجى دفعه وتداركه، بينما خوف هؤلاء وحزنهم ليس كذلك فإنّ خوف المؤمن ليس كخوف الكافر وكذلك بالنسبة إلى الحزن .
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة المائدة
70
إنّ اليهود لم يكن لهم إيمان صادق من يومهم الأول، فكيف تأسَ عليهم يارسول الله إن لم يؤمنوا بك فـ ((لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ )) عهدهم الأكيد حول الإيمان بالله وأنبيائه وإتّباع أوامره ((وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً )) يهدوهم إلى الحق لكنهم نقضوا وخالفوا الأوامر وتجرّأوا على أبشع جريمة فـ ((كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ )) ولا تميل إلى ما جاء به بأن لم يكن يوافق مرادهم ((فَرِيقًا )) من الرُسُل ((كَذَّبُواْ )) كالمسيح (عليه السلام) حيث نسبوهم إلى الكذب وأنهم ليسوا من قِبَل الله سبحانه ((وَفَرِيقًا )) من الرسول ((يَقْتُلُونَ)) كزكريا (عليه السلام) .
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة المائدة
71
((وَحَسِبُواْ ))، أي ظنّ هؤلاء اليهود الذين كذّبوا الأنبياء وقتلوهم ((أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ ))، أي لا يسبّب قتل الأنبياء وتكذيبهم فتنة كما هو شأن كل من يُقدم على جُرم كبير أنه يظن أنّ الأوضاع تبقى على ما يشتهي منتهى الأمر صدّ عن بعض شهواته يُزال ويُمحى عن الوجود مع أنّ الأمر بالعكس، فإنّ بقاء الإجتماع سليماً عن الأخطار والآفات إنما هو بانتهاج تعاليم الأنبياء’ فإذا أُزيح النبي عن القيادة والتوجيه إما بقتله أو تكذيبه فإنه يحلّ بالمجتمع أشد الكوارث وتقع أعظم الفتن ((فَعَمُواْ وَصَمُّواْ )) عن مناهج الرُشد بقتلهم الأنبياء وتكذيبهم فإنّ الإنسان يبصر طريقه ويسمع الحق الذي ينفعه ما دام هناك نور يُضيء ومرشد يدعوا، أما إذا أزال النور وأزاح المرشد فإنه يعمى عن طريقه حتى يقع في المهلك، ويصم عن الحق حتى تحل به الكوارث ((ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ )) بإرسال أنبياء آخرين، والمراد التوبة على هذا الجنس لا خصوص من قتل منهم الأنبياء ((ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ )) أيضاً عن الحق بأن تركوا تعليم الأنبياء وأخذوا يتيهون في الضلالة ((كَثِيرٌ مِّنْهُمْ )) إذ بعضهم آمن واهتدى، ولفظة (كثير) بدل (بعض) عن كل لا فاعل ثانِ ((وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)) فيجازيهم على ما اقترفوا من الآثام واحتقبوا من الإجرام .
2018-06-28