02 توفيق صاحب الجواهر
قال صاحب (التكملة): كان للشيخ محمد حسن مؤلف الكتاب النفيس (الجواهر) من العمر خمسة وعشرون عاماً حين بدأ بتأليفه وقد نقل الشيخ الأجل فقيه العصر الشيخ محمد حسن آل ياسين الكاظمي عن صاحب (الجواهر) ما يرجع إلى سبب تأليف هذا الكتاب، قال: أمرني أستاذي صاحب (الجواهر) أن أسكن في الكاظمية مشغولاً بترويج الأحكام وتبليغ الإسلام، فعرضت على جنابه العالي أن يكتب برسالة إلى الحاج علي بن الحاج (محسن بوست فروش) التاجر المعروف في الكاظمية ليعيرني بعض مجلدات (الجواهر) التي بحوزته.
فلما سمع مني الشيخ هذا الكلام قال: سبحان الله! إن كتاب (الجواهر) بلغ إلى هذا الحد، وأن التجار يأخذون من نسخته ويراجعهم الناس؟ أقسم بالله يا ولدي! ما كنت أقصد في كتابي أن يكون يوماً بصورة كتاب، ولو كان لي قصد التصنيف والتأليف من الكتابة، أحببت أن يكون على غرار كتاب (رياض المسائل) للمير سيد علي الطباطبائي، وإنما كتبت (الجواهر) لنفسي.
يقول صاحب (التكملة): لما سمعت هذا الكلام من هذا الشيخ العظيم، قلت: سبحان الله كان تعجبي لما يرجع إلى كتاب (الجواهر) من جهتين، والآن قد زال تعجبي.
فقال الشيخ: ما كان تعجبكم وما هي العلة في إزالة هذا التعجب؟
قلت:
أولاً: كيف أن المرحوم صاحب (الجواهر) قد حالفه التوفيق في كتابة كتاب بهذه العظمة من أول الفقه إلى آخره، مع أن العادة تقتضي أن يكون من الصعب لشخص واحد أن ينهض بهذا العبء.
وثانياً: بالنسبة إلى محبوبية ومرغوبية الكتاب الذي راح بسرعة بين أهل العلم، فهم يطلبونه ويسعون وراءه، ولما سمعت هذا الكلام تبين لي أن الباعث في تأليفه لم يكن إلا رضى الله تعالى لا الرياء والتظاهر وطلب الدنيا وإبراز المرتبة العلمية والمقام، وهذا الخلوص في النية لهذا العالم الرباني كان السبب في موفقية هذا الكتاب ومحبوبيته.
يقول الشيخ الفقيه مهدي بن الشيخ علي:
عندما كان صاحب الجواهر مشغولاً بكتابة (الجواهر) كان هناك علماء آخرون يتجاوز عددهم خمسة وعشرين كلهم كانوا مشغولين بهذا الموضوع (شرح (الشرائع) ) ولكن لم ينتشر لأحد منهم شيء.
01 أسلوب حكيم
قال فضيلة السيد عبدالحميد ألأصفهاني (حفظه ألله) إبن السيد علي إبن آية ألله العظمى السيد أبي الحسن ألأصفهاني، المرجع المعروف الذي سادت رئاسته الدينية العالم الشيعي كله والمتوفى سنة 1365 هـ ـ أنه قبل عشرين عاما ذهبت مع السيد محمد حسين مير سجادي للإعتكاف والصيام في مسجد الكوفة خلال (ألأيام البيض من شهر رجب )، فكنا نبحث عن غرفة داخل المسجد، ولكن لم نحصل بسبب كثرة المعتكفين، فأخذنا غرفة عند الباب، حيث لم يرغب فيها المعتكفون لكثرة الحركة والضجيج قربها.أذكر أن الطقس كان باردا، وفي الليلة الثانية من ألإعتكاف دخل علينا إثنان من العرب، وكان يبدو عليهما الوقار، وعلمنا فيما بعد أنهما من وجهاء منطقة (العباسيات) ـ وهي منطقة زراعية تقع بين الحلة والكوفة-، تتبع محافظة الحلة إداريا، وقد كان خادم المسجد قد عرفنا عليهما وعرفني بأني حفيد المرجع الراحل السيد أبي الحسن ألأصفهاني.
فبعد شيء من ألأحاديث الودية قال أحدهما: إنني أود إخبارك عن قصة وقعت لنا في العباسيات تعتبر كرامة لجدك المرجع السيد أبي الحسن ألأصفهاني، والقضية هي كألآتي :
كان رئيس شرطة العباسية رجل من غير الشيعة ولم يتلزم بالصلاة ولا بأي واجب من الواجبات الدينية، ويشرب الخمر ويظلم الناس ولا يعرف لسلطته حدودا، فهو رئيس شرطة ولكنه يتصرف وكأنه رئيس دولة، ومن لم يخضع له كما يشتهي فإنه كان يخضعه بالقوة رغما على أنفه. لقد بلغ فساده وظلمه للناس والشيعة بالذات وهم ألأكثرية في تلك المنطقة حدا بحيث لم يجدوا سبيلا للخلاص، فلقد سدت ألأبواب كلها بوجهنا نحن (الوجهاء) الذين كنا موضع أمل المظلومين هناك.
وذات مرة كنت قادما إلى النجف ألأشرف لزيارة مرقد ألإمام علي عليه السلام أمير المؤمنين ومولى المتقين، فطرأت علي فكرة اللقاء بالسيد المرجع جدكم آية ألله العظمى ألأصفهاني لأشتكي عنده حالنا.
دخلت عليه وقبلت يده الكريمة، ثم شرحت له الوضع .
فسألني المرحوم: متى ترجعون إلى العباسيات؟
قلت: هذه الليلة.
قال: إذهب إلى هذا الرجل (رئيس الشرطة) وقل له أن السيد يسلم عليك ويطلب حضورك عنده.
: إنه إذا علم بأنني إشتكيت حالنا بحضرتكم فسوف يزداد لنا ظلما وعنادا.
قال: قل له ذلك، وسوف لا يعلم بانك أخبرتني عن حاله معكم.
وهكذا لما رجعت إلى العباسيات ذهبت إلى الرجل وقلت له: إنني كنت في زيارة لمرقد ألإمام علي عليه السلام ثم ذهبت لأسلم على السيد ألأصفهاني مرجع الشيعة في العالم، فسلم عليك وقال إنه يريد أن يتعرف عليك.
قال: لا علاقة لي به، ولا أعرفه، ولست أنا بهذا الوادي! مالي والدين والعلماء ومراجعكم!
ولكنه تأمل قليلا ثم قال: طيب أنا اليوم حالق لحيتي، إصبر حتى تخرج ثانية فنذهب معا، لأني لا أعرف طرق النجف ولا بيت مرجعكم فلابد لي من مرافقتك.
بعد أيام دخلت معه النجف ألأشرف، ورزنا أولا مرقد ألإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام وكان لأول مرة في حياته يرى ذلك المشهد العظيم، فلم يعرف كيف يدخل وماذا يقرأ!
علمته آداب الزيارة، فزرنا ثم خرجنا متجهين صوب منزل المرجع الكبير السيد أبي الحسن ألأصفهاني. وفي الطريق قلت له: إننا نحن المسلمون الشيعة من آدابنا أن نقبل يد مرجعنا إجلالا وإحتراما له.
وهكذا دخلنا على السيد فقبلت يده الشريفة، وكذلك فعل رئيس الشرطة، فرحب به السيد بحرارة وكأنه يعرفه منذ زمان.
جلست أنا بعيدا منهما ليسترسلا في الكلام، إلا أنني كنت أسمع مايدور بينهما، وكان رئيس الشرطة مرتبكا في كلامه وتصرفه، وأما أنا فكنت شديد القلق، لا أدري إلى اين سينتهي أللقاء وماذا يقدر ألله لي عندما نرجع إلى (العباسيات)، كنت أخشى أن يكلمه السيد ألأصفهاني بشيء فتأخذه العزة بألإثم، ولكن العجب أن السيد لم يلمح له بأنه يعلم ظلمه وفساده وطغيانه، فكان يقول: «إن الناس في العباسيات مسلمون، وأنا سمعت إنك رئيس الشرطة هناك».
قال الرجل: نعم، أنا رئيس الشرطة في العباسيات.
قال له السيد: كم تعطيك الحكومة شهريا.
أجاب: تعطيني أربعة عشر دينارا.
قال السيد: عجيب، أنت رئيس شرطة ولك مصاريف كثيرة بحكم مكانتك بين الناس أظن أن هذا الراتب لا يفي بجميع حاجاتك.
قال رئيس الشرطة: نعم أنه قليل، ولكن لا بد من القناعة.
فقال له السيد ألأصفهاني: كما تعلم أن العباسيات تابعة للحلة إداريا، وأنا عندي في الحلة وكيل يجمع لي أموالا من الحقوق الشرعية للمسلمين فيرسلها إلي، وسوف أكتب لك رسالة إليه ليعطيك من تلك ألأموال أربعة عشر دينارا كل شهر، وهذا سر بيني وبينك ولا تطلع أحدا عليه .
فرح رئيس الشرطة وكاد أن يصغر بين يدي السيد ألأصفهاني أكثر مما كان عليه في أول اللقاء. إلا أن السيد اضاف إليه القول: تعلم أن هناك فرق بين المال الذي تستلمه من الحكومة وبين الذي يوف تستلمه مني! الفرق هو أن المال الذي تأخذه مني مال حلال لا يعطى إلى للمصلين، أما المال الذي تأخذه من الحكومة فهو خليط بالحرام ولعله حرام كله!
فقال رئيس الشرطة مرتبكا: نعم سيدي، أنا أصلي!
وهكذا إنفضت الجلسة فقبلنا يد السيد ألأصفهاني وقمنا من عنده. فلما وصلنا لدى الباب ناداه السيد، رجعنا فهمس السيد في أذنه: لا تنس أن تواظب على صلاتك في أوقاتها، لأنهى تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتسعدك في الدنيا وألآخرة .خرجنا من عند السيد أبي الحسن ألأصفهاني ، ورئيس الشرطة يقول لي: كنت أشك أن الشيعة على حق، وألآن زال الشك، فتيقتنكم محقين، إعتبرني من اليوم واحدا منكم، إئتني إلى البيت كل يوم لتعلمني الصلاة. فذهبت معه فورا إلى السوق وإشتريت تربة ألإمام الحسين عليه السلام مع سبحة الزهراء عليها السلام، ولما رجعنا طلب مني أن أعلم عائلته أيضا ألأحكام الشرعية والتعاليم الدينية فصارت زوجته وبناته وأولاده يلتزمون بالصلاة والحجاب، فحسن سلوكهم وإرتاح الناس من أخلاقهم، وفتح مجلسه لعامة الناس، وأخذ يخدمهم ويحسن إلى المحتاجين، فلم يعد الى ظلمه وفساده قط. لقد حصل إنقلاب في نفسه وفكره وعمله مما لم يتوقع له أحد، في الحقيقة أن فضل هدايته وراحة الناس من شره يعود إلى حكمة هذا المرجع العظيم السيد أبي الحسن ألأصفهاني رحمه الله.
المصدر:قصص و خواطر من اخلاقيات علماء الدين-للعلامة الشيخ عبد العظيم المهتدي البحراني