ليست بطويلة تلك المسافة الزمنية التي تفصل بين ولادتين مباركتين، كان فيهما مجد الأمة الإسلامية و عزتها و حياتها الخالدة بخلود رسالتها الإلهية و امتدادها؛ إنهما ولادتان لإنسان واحد جسّد الكمال الذي تصبو إليه الإنسانية، ذلك هو السبط الشهيد الحسين عليه السلام، و تلكما الولادتان هما الولادة الحقيقية في الثالث من شعبان العام الرابع للهجرة، يوم خرج سبط رسول الله صلى الله عليه وآله من رحم الراضية المرضية، رحم الطهارة والنور، فأنار الدنيا و من عليها بإطلالته، ثم الولادة المعنوية في العاشر من محرم الحرام عام 61 للهجرة، الولادة التي كتبت له الخلد في كل ضمير حي ينشد الصلاح والخير.
إنها لقصيرة تلك المسافة إذا ما قورنت بذلك الدور التاريخي العظيم الذي ينبغي أن يؤدّى في مثل هذا العمر الزمني.
لقد ولد أبو عبدالله الحسين عليه السلام، وفتح عينيه الشريفتين على نور الرسالة المباركة الذي ولد هو الآخر مع ولادته، فشاء الله تعالى أن يندمج نور الرسالة البهي بدم ولحم و روح هذا الوليد الطاهر، و أن يجعل بقاءها و خلودها في عمق الزمان رهن هذا الدم الزكي، و تلك الروح الطاهرة التي تجسدت بولادته و حياته الأبدية في يوم ذروة العطاء والتضحية، يوم كربلاء والشهادة.
و هنا يتبادر إلى أذهاننا السؤال المحوري التالي الذي يتضمن عدة تساؤلات: ما الذي جعل الإمام الحسين، نبراس الحق الشامخ الأبي؟
و ما السر الذي جعل أئمة العصمة الهداة أئمة وقادة لنا نحن المسلمين؟
ثم ما السر في وقوع الاختيار الإلهي على هذه العصبة الطيبة من الرجال الأفذاذ فأكرمهم بأنوار الرسالة بأن جعل منهم أئمة بعد أن اختار من أصولهم الأنبياء والرسل؟
هناك تفسير غيبي لا أريد تناوله لما فيه من عمق و اتساع و بحث طويل لا يتسع له بحثنا هذا.
فعلينا أن لا ننسى تلك الحقيقة الغيبية وهي أن لله سبحانه و تعالى في خلقه شؤوناً نحن قاصرون و عاجزون عن الوصول إليها إلا بمقدار معرفتها ظاهرياً، والتسليم المطلق لها، ولذلك فإن السؤال المحوري الذي طرحناه سيدور جوابه حول ما نفهمه و نعيه و نستفيد منه عملياً.
وأود أن أقدم لجواب هذا السؤال مقدمة هي عبارة عن ملاحظة استوحيتها واستلهمتها من مجمل آيات الذكر الحكيم، و آثار العترة الطاهرة التي هي عدل القرآن، هذه الملاحظة تتمثل في أن الله تعالى خلق الأشياء يوم فطر السماوات والأرض خلقاً واحداً، في حين أنه خلق الإنسان خلقين، فبأمره سبحانه خُلقت الأشياء و صارت و جوداً بتلك القوة الأزلية كما عبر عن ذلك جلت قدرته بقوله:(إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) (يس:82)
فهذا الكون الذي نحسه و نبصره إنما كان رهن (كاف) و(نون) إلهية، ثم كانت التطورات والأشياء الأخرى من صنع الله القدير بأسباب و عوامل وسنن خارجة عن الأشياء.
فتحولات الكون و تطوراته و مستجداته إنما وجدت بفعل تلك القوانين والسنن الكونية التي أودعها الله تعالى في الوجود، هذا في حين أنه تعالى عندما خلق الإنسان و فطره فإن إرادته شاءت أن يكون هذا الخلق الواعي والناطق مرة بيد قدرته و بصورة مباشرة، حيث قال جل وعلا:(إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ ) (ص:71)، و مرة أخرى بيد الإنسان نفسه بعد أن منحه تعالى ميزة الاختيار وسمة الحرية.
ومنذ ذلك الوقت الذي أمضى فيه الصورة الثانية من الخلق، كانت هذه الميزة والسمة الجليلة مشتقة من اسمه المبارك، بل من أسمائه الحسنى وهي الحرية والاختيار والقدرة.
ولقد بلغت هذه القدرة درجة و عظمة مكنته من أن يسمو و يرتفع إلى مقام و منزلة من السمو والكمال تبلغ به قاب قوسين أو أدنى من الكمال إن شاء السمو والارتفاع و بلوغ الدرجات العلى؛ أما إذا شاء هذا الإنسان -والعياذ بالله- أن ينحدر و يهوي إلى أسفل سافلين، والدرك الذي لا يمكن لنا أن نتصوره فإن هذا بإمكانه أيضاً، لأن هذا يعود إلى حرية الاختيار والإرادة الممنوحة لهذا الإنسان بالفطرة.
إرادة الإنسان فوق كل قوة
إنني و حسب معرفتي ومعلوماتي لم أعثر على قوة ما يمكن أن تسيطر على ذات الإنسان الإرادية و تفرض وجودها عليها.
و بمعنى آخر؛ ليست هناك قوة تجبر الإنسان على تغيير سلوكه و تصرفاته من خارج ذاته، بل إن هذا التغيير لا يحصل إلا من ذات الإنسان، فالقوى الخارجية إنما تؤثر في الإنسان بصورة غير مباشرة، فهي تقصد التأثير على الذات أولاً و عندها تقرر الذات هذا التغيير، فيخرج إلى الفعل بقوتها؛ أي قوة الذات العقلية عند الإنسان.
لقد خُلق الإنسان حين خُلق من مزيج الطين والنور، و من قبضة التراب التي تغلغلت بين ذراته نفحة الروح فكان خلقاً من جنة في جانب منه، و من نار في جانب آخر، و يبقى مصيره حينئذ رهن اختياره و سلوكه، فإما أن يحوّل ذاته إلى السلب والنار؛ بأن يدس نفسه و يوغل ذاته في تراب الشهوات، و أوحال الأهواء الضالة، فيضيع في ركام التيه والخرافة فتصبح ذاته نارية بكل ما في الكلمة من معنى، فتحشر مع أهل جهنم و أصحاب السعير.
أما عندما تسلك الذات الطريق الموجب؛ طريق الارتفاع والعلوّ والتزكية والسمو نحو الكامل المطلق فإنها ستغدو حينئذ نوراً بإذن الله، فتنطلق مع أصحاب النور إلى المستقر الخالد والنعيم الأبدي في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار.
طريقان لا ثالث لهما
فلتنظر الذات الإنسانية ولتبصر، فالطريق طريقان لا ثالث لهما؛ فإما إلى الأعلى مع العلي الأعلى، و إما إلى الأسفل مع الشيطان الأدنى، ولينظر الإنسان حينئذ في حياته وكدحه وفي الطريق التي يسلكها: (يَآ أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ) (الإنشقاق:6).
إن كل ما في القرآن و آثار العترة الطاهرة، بل إن جميع الرسالات التي حملها رُسل الله و أنبياؤه و أوصياؤهم إنما تدور حول هذا المحور، فهي كلها تؤكد و تشير إشارات واضحة أن يا أيها الإنسان كن على يقظة و حذر، اصح من غفلتك، إبتعد عن مسالك الشيطان الكامنة في النفس الأمارة..
إن جميع الرسالات السماوية تصرخ بالإنسان أنْ عُدْ إلى ذاتك، فإنك وحدك القادر على أن تصنع تلك النفس و تُخرجها من حالة الأمر بالسوء إلى الأمر بالخير والكمال، فالحركة إنما تنطلق بالإرادة الكامنة في الذات الإنسانية.
و هذه الحقيقة هي التي تۆكدها المدرسة الحسينية، و تبثها من عمق الزمان منذ يوم مصرعه الدامي عليه السلام و حتى قيام الدولة الفاضلة المثلى على يد حفيده المهدي الموعود عليه السلام.
السيد محمد تقي المدرسي