الرئيسية / صوتي ومرئي متنوع / روح العبادة الآداب المعنوية للعبادات

روح العبادة الآداب المعنوية للعبادات

العبودية المطلقة هي الهدف من خلق الإنسان

هناك أسئلة تُطرح تلقائياً حول سرّ هذه الأهمية المعطاة للعبودية وعن سبب كونها تشريفاً لا ينال شرفها إلا الكمّل من أولياء الله تعالى والذين ارتضى من عباده المخلصين.

فلماذا العبودية لله وحده؟ ولماذا يجب أن تندكّ إرادة الإنسان وتذوب في إرادة الله؟

ولماذا يجب أن تتطابق إرادة الإنسان وسلوكه وأفعاله ومختلف توجّهاته مع هذه الإرادة الإلهية، ودونما تمرّدٍ أو اعتراض…؟

لا بد لنا من أن نستهدي بنور القرآن الكريم للإجابة عن هذه الأسئلة حيث تشير الآيات الشريفة: ﴿ وَمَا خَلَقتُ ٱلجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلَّا لِيَعبُدُونِ ٥٦ مَا أُرِيدُ مِنهُم مِّن رِّزق وَمَا أُرِيدُ أَن يُطعِمُونِ ٥٧ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلقُوَّةِ ٱلمَتِينُ[1] إلى جانبٍ مهمٍ من هذا السرّ فجعل الهدف من خلق الإنسان عبادته عزّ وجلّ. وليس ذلك لأنّ الله عزّ وجلّ يحتاج إلى عبادتنا من صلاة ودعاء وقراءة للقرآن، فهو غنيّ عنها كما ذكرنا، وإنّما أُمرنا بهذه الأعمال العباديّة لما فيه خيرنا وللوصول إلى السعادة الحقيقيّة. وقد ذكرنا سابقاً أن هذه الأعمال العبادية إنما تؤدّي إلى العبودية وإلى صيرورة الإنسان عبداً حقيقيّاً لله عز وجلّ.

ونقرأ في آيةٍ أخرى: ﴿ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلمَوتَ وَٱلحَيَوٰةَ لِيَبلُوَكُم أَيُّكُم أَحسَنُ عَمَلا[2]. فوجودنا في هذا العالم وتفضُّل الله علينا بنعمة الحياة هما ابتلاءٌ وامتحان. وإنّ الذي يبدو من هذه الآية أنّ الله تعالى خلق الإنسان وأحياه ثمّ أماته لأجل الابتلاء والامتحان. والامتحان يكون من خلال الأعمال: ﴿ أَيُّكُم أَحسَنُ عَمَلا ﴾.

وأفضل الأعمال المقرّبة إلى الله سبحانه وتعالى هي العبادة التي أمرنا بها وفرضها علينا، كما في الحديث المروي عن الإمام الصادق عليه السلام: “قال الله تبارك وتعالى ما

 

تحبّب إليّ عبدي بأحبّ ممّا افترضت عليه”[3]. وتفصيله ما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “قال الله عزّ وجلّ، من أهان لي وليّاً فقد أرصد لمُحارَبتي، وما تقرّب إليّ عبد بشي‏ء أحبّ إليّ ممّا افترضت عليه، وإنّه ليتقرّب إليّ بالنّافلة حتّى أُحِبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصِر به، ولسانه الّذي ينطق به ويده الّتي يَبطِش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته…”[4].

فهذا الحديث يُشير إلى هذه الحقيقة بشكلٍ واضح، وهي أنّ الله خلق الناس لهدف تكامليّ هيّأ له جميع وسائله التكوينيّة والتشريعيّة وجعلها في متناول الإنسان واختياره بشكلٍ ميسّرٍ.

وهكذا يتّضح أنّنا خُلقنا لعبادة الله الّتي تُربّي الناس وتهديهم فينالون مقام العبودية المطلقة لله تعالى، كما نقرأ في حديثٍ عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ الإمام الحسين خطب أصحابه فقال: “إنّ الله عزّ وجلّ ما خلق العباد إلا ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه”[5].

 

كمال الإنسان في العبودية لله

إن حقيقة الإنسان كما بات معلوماً، هي الفقر والاحتياج والنقص، فهو محتاجٌ في كل شيء، ولا يمكن تصوّر أي شيءٍ يمكن أن يكون الإنسان مستغنياً فيه ومستقلّاً بذاته في تدبير شؤونه.

فهو يفتقر إلى من يعطيه هذا الجسد ليتحرّك به في هذا العالم ويحتاج لمن يعطيه الروح ليحيا بها، وهو بحاجةٍ إلى من يفيض عليه بالقدرة والقوة ليتمكّن من الحركة والعمل. وهذا الاحتياج لا ينفكّ عنه آناً من الآنات، بل هو ملازمٌ له طيلة وجوده في هذا العالم. وهذه الحقيقة هي المحرّك الأساس للإنسان في هذه الدنيا فهو لا يأتي بحركةٍ إلا من أجل سدّ نقصٍ لديه وجلب منفعةٍ مفترضةٍ إليه.

 

نعم قد يظنّ الإنسان بسبب غروره وانشغاله بملذّاته وشهواته أنه يحوز على القوة الكافية التي تخوّله امتلاك كلّ شيءٍ والسيطرة عليه، فهو ينظر إلى نفسه بعين الرضا، لما يرى فيها من القوّة والقدرة و… التي تمكّنه من فعل أي شيء. يمكن لهذا الإنسان الغافل عن حقيقته أن يدّعي مثل هذا الادّعاء وأن يقنع نفسه به أيضاً ولكن هذا لا يعني أنه صواب! فالحقيقة مغايرة لذلك تماماً، إن حقيقة الإنسان هي الفقر والاحتياج!

فالإنسان يفتقر إلى من يعطيه هذا الجسد لكي يتحرّك به في هذا العالم، كما أنه يحتاج إلى من يفيض عليه القدرة والقوة لكي يتمكّن من العمل. وهو بالأصل يحتاج إلى هذه الروح التي بها يحيا في هذه الدنيا ويكمل طريقه نحو العالم الآخر. وهذا هو معنى الآية المباركة التي تكشف لنا اللثام عن حقيقة الإنسان بقوله تعالى: ﴿ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلفُقَرَاءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلغَنِيُّ ٱلحَمِيدُ[6].

فالفقر والاحتياج والضعف، هي السمات البارزة في تكوين الإنسان. وهذا الفقر هو الذي يدفعه نحو الحركة والعمل لا لشيء سوى التخلّص منه. لذا فإنك ترى الإنسان دائماً في حركةٍ مستمرّةٍ وتوجّهٍ حثيثٍ للانتقال من النقص الذي هو فيه إلى الكمال الذي يطمح إليه، فترى الإنسان يفرّ دائماً من النقص إلى الكمال، هذا الكمال الذي تعشقه فطرته وتطلبه على الدوام.

هذا التوجّه الدائم نحو الكمال والفرار من النقص يترجمه الإنسان في الحقيقة بحالة الخضوع والطاعة لكلّ من يجد فيه هذا الكمال، فتراه يتوجّه دائماً إلى الأكمل والأقدر حتى يحطّ راحلته أمامه فيطيعه في كل ما يطلبه ويريده، لأنه يجد في الخضوع له وطاعته خلاصاً من فقره وضعفه. لأنه يأمل أن يحصل من خلال هذا الخضوع والطاعة – لمن هو أكمل منه – على ما يسدّ به نقصه وضعفه.

وهذا هو السبب الحقيقي الكامن وراء أمر الله بطاعته والخضوع له، فهو يريدنا أن نصل إلى أعلى درجات الكمال والقرب منه بطاعته والانقياد لأوامره، لأن هذا هو السبيل

 

الوحيد للوصول إلى السعادة الإنسانية المطلقة. فبالطاعة والانقياد يسلك الإنسان سبيل السعادة، ولكن ليس بطاعة المحدود والمحتاج والناقص كما يفعل أهل الدنيا حيث يقول الله تعالى: ﴿ وَيَعبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُم وَلَا يَنفَعُهُم[7]، بل ينبغي أن تكون الطاعة لله تعالى وحده لأنه الكمال المطلق الذي لا نقص فيه أبداً، لذا جاء الإنذار الإلهي: ﴿ أَلَّا تَعبُدُواْ إِلَّا ٱللَّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنهُ نَذِير وَبَشِير[8]. وهو عزّ وجلّ القائل في آية أخرى:

﴿ إِنِ ٱلحُكمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ[9].

إذاً، لأن الله عزّ وجلّ هو الرب صاحب جميع الصفات الكمالية على الإطلاق فإن ما من نقصٍ يحتاج الإنسان إلى رأبه وما من حاجةٍ يضطرّ الإنسان إلى سدّها إلا وهي بيد الرب المتعال. وكل ما ينبغي للإنسان فعله من أجل سدّ نقائصه هو الاتصال بصاحب الفيض المطلق عزّ وجلّ اتصالاً صحيحاً ليحصل من خلاله على مرامه الذي يمكننا اختصاره بالسعي الدائم نحو الخروج من النقص والعجز نحو الكمال.

 

التمارين

ضع إشارة û أو ü في المكان المناسب:

 

1 – إنّ العبودية التكوينية تعني أنّ الإنسان المؤمن هو عبد لله تعالى، وأما غير المطيع فهو ليس عبداً لله 

2 – “العبد” هو الإنسان المملوك لهواه، الذي لا يملك لنفسه شيئاً، والذي تكون إرادته تابعةً لإرادة أهوائه، فلا يعصي لها أمراً ولا يتمرّد على حكمها 

3 – العبودية الاختيارية هي استطاعة الإنسان أن لا يختار الطريق الربّاني الموصل إلى مرضاة الله 

4 – أن أكون عبداً لله، يعني أن لا أقوم بأيّ فعل حتّى أعلم حكم الله فيه فأعمل وفقه، وأن لا تكون لي إرادة في مقابل إرادة الخالق 

5 – العبودية صفة تدلّ على فناء إرادة العبد في المعبود وانقياده له في كلّ شيء، فهي الطاعة والتسليم المطلق الذي لا يشوبه عصيان أو تمرّد سواء في الظاهر أم في الباطن 

6 – يؤكّد القرآن أنّ كلّ الناس هم عباد الله من حيث علاقتهم التشريعية به، سواء منهم المؤمن المطيع أم غيره، فالإنسان يدور في فلك العبودية التشريعية مرغماً، لأنه مملوك وتابع لله وخاضع لمشيئته تعالى 

7 – الأعمال العباديّة تُحقّق الخير وتؤمّن الوصول إلى السعادة الإنسانية والكمال الإنساني الحقيقي 

8 – إنّ المداومة على العبادات الشرعية له دورٌ كبيرٌ في ترسيخ العبودية في نفس الإنسان 

9 – إنّ أفضل ما يتقرّب به العبد إلى الله سبحانه وتعالى هي التزامه بالمستحبّات والمكروهات فقط 

10 – إنّ الله سبحانه وتعالى جعل كمال الإنسان في تحقّقه بالعبودية المطلقة لله عزّ وجلّ 

 

المفاهيم الرئيسة

  1. “العبوديّة” هي إظهار منتهى الخضوع للمعبود، والتسليم له، وامتثال الطاعة والانقياد له، بلا قيدٍ ولا شرط. والمعبود الوحيد الّذي له حقّ العبادة على الآخرين، هو الّذي بذل منتهى الإنعام والإكرام، وليس ذلك سوى الله سبحانه.

  2. عبادة الله تعالى هي الترجمة العملية لاعتراف الإنسان بالعبودية لله عزّ وجلّ، وهي تعبيرٌ عن إذعان الإنسان لحقيقة أنه عجزٌ مطلقٌ مفتقرٌ في تمام وجوده إلى الغني المطلق.

  3. عبادة الله بمعناها الخاص هي انخراطٌ طوعيٌّ في العبودية الاختيارية انسجاماً مع إذعان الإنسان واعترافه بالعبودية التكوينية لله عز وجل السارية في كل الكون.

  4. عبادة الله تعالى وحده هي طريق تحقق عبودية الإنسان لله عز وجل ورسوخها في باطنه بحيث يصبح الإنسان عبداً خاضعاً لأمر مولاه، مذعناً له دون أي اعتراضٍ على شيءٍ من إرادته وتدبيره عزّ وجلّ.

  5. كل الناس هم عباد الله من حيث علاقتهم التكوينية به، سواء منهم المؤمن المطيع، عن وعي وإرادة واختيار لأوامر الله ونواهيه، أو الكافر المتمرّد الذي يأبى الطاعة والالتزام، وهذه هي العبادة التكوينية التي يشترك بها الإنسان مع جميع المخلوقات الأخرى.

  6. في العبودية الاختيارية يستطيع الإنسان أن يختار الطريق الرباني الموصل إلى مرضاة الله – أي يختار طريق العبودية لله – كما يستطيع أن يختار طريق الضلال الذي هو طريق العبودية والخضوع لغير الله.

  7. خلق الله تعالى الناس لهدف تكامليّ هيّأ له جميع وسائله التكوينيّة والتشريعيّة وجعلها في متناول الإنسان واختياره بشكلٍ ميسّرٍ، وهو عبادة الله الّتي تُربّي الناس وتهديهم فينالون مقام العبودية المطلقة لله تعالى وهي الغاية الأساسية للعبادة.

  8. بما أن الإنسان يتحرّك دوماً بحثاً عن الكمال لسد نقصه واحتياجه فليس عليه سوى الاتصال بصاحب الكمال المطلق الحقيقي اتصالاً صحيحاً، وهذا الاتصال يكون برابطة العبودية المطلقة لله تعالى.

 

للمطالعة

بالإنسان بفطرته يحب الكمال التّام المطلق

لا يخفى على كل ذي وجدان أن الإنسان، بحسب فطرته الأصيلة وجبلّته الذاتية، يعشق الكمال التام المطلق، ويتوجه قلبه شطر الجميل على الإطلاق والكامل من جميع الوجوه. وهذا من فطرة الله التي فطر الناس عليها وبهذا الحب للكمال، تتوفر إرادة المُلك والملكوت، وتتحقّق أسباب وصول عشّاق الجمال المطلق إلى معشوقهم.

غير أن كل امرئٍ يرى الكمال في شيء ما، حسب حاله ومقامه، فيتوجّه قلبه إليه. فأهل الآخرة يرون الكمال في مقامات الآخرة ودرجاتها، فقلوبهم متوجّهة إليها. وأهل الله يرون الكمال في جمال الحق، والجمال في كماله سبحانه، فيقولون ﴿ إِنِّي وَجَّهتُ وَجهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرضَ[10]. ويقولون: “لي مَعَ اللَّهِ حال”[11] وفيهم حب وصاله وعشق جماله. وأهل الدنيا عندما رأوا أن الكمال في لذائذها، وتبيّن لأعينهم جمالها، اتجهوا فطرياً نحوها. ولكن على الرغم من كل ذلك، فإنه لمّا كانَ التوجه الفطري والعشق الذاتي قد تعلّقا بالكمال المطلق، كان ما عدا ذلك من التعلّقات عرضياً ومن باب الخطأ في التطبيق. إن الإنسان مهما كثر مُلكه وملكوته، ومهما نال من الكمالات النفسية أو الكنوز الدنيوية أو الجاه والسلطان، ازداد اشتياقه شدّة، ونار عشقه التهاباً. فصاحب الشهوة، كلّما ازدادت أمامه المشتهيات، ازداد تعلّق قلبه بمشتهيات أخرى ليست في متناول يده، واشتدّت نار شوقه إليها. وكذلك النفس التي تطلب الرئاسة، فهي عندما تبسط لواء قدرتها على قطر من الأقطار، تتوجه بنظرة طامعة إلى آخر، بل لو أنها سيطرت على الكرة الأرضية برمّتها، لرغبت في التحليق نحو الكواكب الأخرى للاستيلاء عليها. إلاّ أن هذه النفس المسكينة لا تدري بأن الفطرة إنّما تتطلع إلى شيءٍ آخر[12].

[1]  سورة الذاريات، الآيات 56 – 58.

[2]  سورة الملك، الآية 2.

[3]  الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص82.

[4]  الشيخ الكليني، الكافي، ص352.

[5]  العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج5، ص312.

[6]  سورة فاطر، الآية 15.

[7]  سورة يونس، الآية 18.

[8]  سورة هود، الآية 2.

[9]  سورة يوسف، الآية 40.

[10]  سورة الأنعام، الآية 79.

[11]  إشارة إلى الحديث المشهور المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لي مع الله وقت لا يسعني ملك مقرَّب ولا نبيّ مرسل ولا عبد امتحن الله قلبه للإيمان العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج18، ص360.

[12]  الإمام الخميني، الأربعون حديثاً، الحديث السَادِس: من أصبح وأمسى والدنيا أو الآخِرة أكبر همّه.

شاهد أيضاً

عن الإسلام المتصهين ..

عن الإسلام المتصهين .. يكتب ابن البلد في ذكرى حرب عناقيد الغضب الاسرائيلية – العربية ...