الرئيسية / صوتي ومرئي متنوع / روح العبادة الآداب المعنوية للعبادات

روح العبادة الآداب المعنوية للعبادات

 

                                 حضور القلب في العبادة

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

  1. يذكر أهمّية أدب حضور القلب ومحوريّته في العبادات والصلاة خاصّة.

  2. يبيّن الموانع التي تحول دون حضور القلب في العبادة والصلاة.

  3. يشرح كيفيّة إزالة الموانع لتحصيل حضور القلب في العبادة.

 

 

معنى حضور القلب

قال الامام الصادق عليه السلام: “اذا استقبلت القبلة، فآيس من الدنيا وما فيها، والخلق وما هم فيه، واستفرغ قلبك من كل شاغل يشغلك عن الله تعالى وعاين بسرك عظمة الله عز وجل واذكر وقوفك بين يديه، قال تعالى: هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت وردّوا الى الله مولاهم الحق… وقف على قدم الخوف والرجاء”[1]. فحضور القلب إذاً هو إفراغه من أي شيءٍ يشغله عن الله تعالى وعظمته.

وقد ورد في جامع السعادات: “حضور القلب: وهو أن يفرغ القلب عن غير ما هو ملابسٌ له ومتكلّمٌ به، حتى يكون العلم مقروناً بما يفعله وما يقوله، من غير جريان الفكر في غيرهما. فمهما انصرف الفكر عن غير ما هو فيه، وكان في قلبه ذكرٌ لما هو فيه من غير غفلةٍ عنه، فقد حصل حضور القلب. ثم حضور القلب قد يُعبّر عنه بالإقبال على الصلاة والتوجّه، وقد يُعبّر عنه بالخشوع بالقلب..”[2].

والمراد من حضور القلب في الصلاة هو أن يكون مشغولاً وملتفتاً إلى حال الصلاة ومتوجّهاً إلى الله في أفعاله وأقواله وغيرها ومفرّغاً فكره عما سوى الحق[3].

 

أهمّية حضور القلب في الروايات

قد يكون هذا الأدب هو لبّ الآداب المعنوية للصلاة وقطب الرّحى فيها، وعنوانه دليلٌ على ذلك فلطالما أشرنا في السابق إلى أن القلب هو المحور في العبادات، وأنّه هو الذي تبتغي العبادة تغييره والتأثير فيه وتشكيله على صورة العبودية وتحويله إلى عابدٍ حقيقي. فأيّ أهمّيّةٍ لهذا الأدب؟ وما هو السرّ في ذلك؟

إن رعاية حضور القلب في العبادات ولا سيّما في الصلاة، هو أحد أهم الآداب القلبية قاطبةً، إذ ليس للعبادة من دونه روحٌ أو معنىً. وهو مفتاح قفل الكمالات وباب أبواب السعادات وقلّما اهتُمّ بشيءٍ من الآداب كهذا الأدب في الأحاديث الشريفة.

ومثالٌ على ذلك ما ورد عن رسول الله محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم: “من صلّى ركعتين لم يحدّث فيهما نفسه بشيءٍ من الدنيا غفر الله له ذنوبه”[4].

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: “إن من الصلاة لما يُقبل نصفها وثلثها وربعها وخمسها إلى العشر وإن منها لما تلفّ كما يلفّ الثوب الخلق فيُضرب بها وجه صاحبها وإنما لك في صلاتك ما أقبلت عليه بقلبك[5]. وعنه أيضاً صلى الله عليه وآله وسلم قال: “لا يقبل الله صلاة عبد لا يَحضُر قلبه مع بدنه”[6].

وعن الإمام الباقر والإمام الصادق عليهم السلام أنهما قالا: “إن ما لك من صلاتك إلا ما أقبلت عليه فيها فإن أوهمها كلّها أو غفل عن آدابها لُفّت فضُرب بها وجه صاحبها”[7].

وعن الإمام الصادق عليه السلام: “إذا أحرمت في الصلاة فأقبل إليها، لأنك إن أقبلت أقبل الله إليك وإن أعرضت أعرض الله عنك، فربّما لا يرفع من الصلاة إلا ثلثها أو ربعها أو سدسها بقدر ما أقبل المصلّي إليها وإن الله لا يعطي الغافل شيئاً”[8].

 

نتائج حضور القلب وآثاره

وللإضاءة أكثر على أهمية هذا الأدب نذكّر بما مرّ سابقاً من أن العبادات والمناسك والأذكار والأوراد إنما تنتج نتيجةً كاملةً إذا صارت صورةً باطنيةً للقلب، وتخمّر باطن الإنسان بها، وتصوّر قلب الإنسان بصورة العبودية وخرج عن الهوى والعصيان. وكذلك ما ذكرناه من أن أسرار العبادات وفوائدها أن تتقوّى إرادة النفس وتتغلّب النفس على القوى الطبيعية فتصبح مسخّرةً لها ولسلطنتها.

ونضيف الآن وبشكلٍ أكثر تفصيلاً أن من نتائج العبادات المهمّة أن تصبح إرادة النفس الملكوتية نافذةً في ملك البدن بحيث تكون القوى الظاهرية بالنسبة إلى النفس كملائكة الله بالنسبة إلى الحق تعالى ﴿ لَّا يَعصُونَ ٱللَّهَ مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ[9].

ويعقب ذلك نتيجةٌ مهمّةٌ أخرى وهي أن تغدو مملكة البدن بجميعها، ظاهرها وباطنها، مسخّرةً تحت إرادة الله، وتكون القوى الملكوتية والملكية للنفس من جنود الله، وتكون كلها كملائكة الله. ويترتّب على هذه النتيجة أن تصبح النفس مرتاضةً بعبادة الله بالتدريج، وتنهزم جنود إبليس بشكل نهائي وتنقرض، ويكون القلب مع قواه مسلّمين للحق.

وجميع النتائج المذكورة لن تتمّ ما دام القلب غير حاضرٍ في محضر العبادة حضوراً كاملاً وقائماً فيه، وما دام يتقلّب غافلاً بعيداً عنه.

فإذا كان القلب في وقت العبادة غافلاً وساهياً لا تكون عبادته حقيقيةً بل تشبه اللهو واللعب، ولا يحصل لمثل هذه العبادة أثرٌ في النفس البتة، ولا تتجاوز العبادة من الصورة والظاهر إلى الباطن والملكوت. فتكون عبادتنا قشراً بلا لبٍّ وصورةً بلا باطن، فتزول مع زوال قشور هذه الدنيا الفانية ولا يتبقّى منها أي أثرٍ يصحب الإنسان لدى انتقاله من دار الفناء إلى دار البقاء حيث لا يبقى إلا ما كان حقيقياً[10].

 

موانع حضور القلب

بعد أن بيّننا أهمّية حضور القلب لتحصيل فوائد العبادة ينبغي أن نوضح سبيل تحصيله، ولكن لا بدّ أولاً من التعرّف إلى الموانع والعوائق التي تحول دون تحقّق حضور القلب، فإنّ إزالتها يجعل طريق إحراز هذا الأدب الفائق الأهمية سالكةً ومعبّدةً.

وموانع حضور القلب في العبادات هي كلّ ما يستدعي غفلة القلب عن محضر العبادة ويذهله عن معاني حركات وأذكار وطقوس العبادات ويسرح به بعيداً عن الحضور في موعد لقاء المعبود عزّ وجلّ.

وتنشأ الموانع إمّا من أمورٍ خارجيةٍ عن طريق الحواسّ الظاهرية، وإمّا من أمورٍ باطنيةٍ عمدتها عقبتان رئيستان، هما الخيال وحبّ الدنيا.

ونعني بالموانع الناشئة من أمورٍ خارجيةٍ كلّ ما يرد إلى ذهن الإنسان عن طريق الحواسّ الظاهرية كأن يسمع أو يرى في حال العبادة شيئاً فيتعلّق ذهنه به، فينشغل به خياله ويتشتّت خاطره فيذهل بالكلّية عن عبادته، وإن كان قائماً في الصلاة مثلاّ، فلا يلتفت إلّا وقد ختمها مسلّماً دون أن يعي ممّا قاله فيها حرفاً واحداً!

وقد نظنّ للوهلة الأولى أن حلّ هذه المشكلة يكمن في أن يعزل المصلّي نفسه عن كل ما يمكن أن يتسرّب إليه عن طريق الحواس، فيصلّي في غرفةٍ خاليةٍ من أيّ شيءٍ وأحدٍ، ولكن الواقع أن هذا حلٌّ جزئيٌّ وهو غير ذي فاعليةٍ حقيقية طالما أن المشكلة الأساسية هي في ما تولّده هذه المحسوسات في خيال الإنسان وتنتجه من تخيّلاتٍ وأوهام، وما تصرف الذهن إليه من أفكارٍ وليس فقط في استقبال الذهن لها، والذي قد يحدث في لحيظاتٍ قليلةٍ سرعان ما تنقضي.

بل ربما يقود خلوّ الغرفة المصلّي إلى خيالاتٍ من نوعٍ آخر أشدّ تشتيتاً له وإبعاداً للقلب من محضر الصلاة، فالحلّ إذاً يكمن في امتلاك القدرة للسيطرة على قوّة الخيال لدى الإنسان وهي في الواقع إحدى المانعين الباطنيين.

أما بالنسبة للموانع الناشئة من عوامل باطنيةٍ فهما كما ذكرنا قوّة الخيال لدى الإنسان وحبّ الدنيا المتمكّن من قلبه:

 

  1. 1. الخيال:

قوّة الخيال أو المتخيّلة، وهي قوّة موجودةٌ لدى كلّ إنسان بشكلٍ طبيعيٍّ ولها فوائدها العظمى بالنسبة إليه، فمن دونها مثلاً لا يتمكّن الإنسان من الذهاب إلى مكانٍ ما لأنه لا يمتلك القدرة على تخيّل وتصوّر الطريق إليه. ولكن المشكلة تقع عندما يعمل الخيال في غير مكانه ووقته المناسبين وهو ما يحدث تلقائياً وبشكلٍ دائمٍ، لأنه وكما يقال إن طائر الخيال بطبيعته فرّار.

فمن شدّة انتقالها من خيالٍ إلى آخر ومن صورةٍ إلى أخرى تمّ تشبيه هذه القوة بالطائر الذي لا يعرف استقراراً فتجده يطير باستمرارٍ من غصنٍ إلى آخر، ومن شجرةٍ إلى أخرى.

وكون الخيال مولّداً دائماً للخيالات والصور هو أمرٌ لا يُبتلى به أهل الدنيا فقط، بل حتى أولئك الذين تعلّقت قلوبهم بالآخرة، فهم لا ينجون من هذه المصيبة الناشئة من طبيعة وخصائص قوّة الخيال.

والذي ينجو من هذه المصيبة هو ذلك الذي يروّض هذه القوّة والتي كما سنبيّن لاحقاً، هي قوّةٌ قابلةٌ للترويض ويمكن لصاحبها السيطرة عليها بمجاهدةٍ خاصّةٍ.

ومن المهم أن نعلم أن تحصيل سكون الخاطر وطمأنينة النفس أثناء العبادة لن يحصل بغير التمكّن من السيطرة على الخيال وبذلك نكون قد قضينا على مانعٍ خطيرٍ يمنع من حضور القلب في العبادة.

 

  1. 2. تعلّق القلب بالدنيا:

المانع الثاني هو تعلّق القلب بالحيثيّات الدنيوية وحبّه للدنيا الذي هو رأس الخطايا والأمراض الباطنية، وهو شوك طريق أهل السلوك ومنبع المصيبات. وما دام القلب متعلّقاً، ومنغمساً في حب الدنيا فالطريق لإصلاح القلوب مسدودٌ، وباب جميع السعادات مغلقٌ في وجه الإنسان. والسبب في ذلك أن القلب يتوجّه إلى محبوبه بمقدار تمكّن حبّه منه:

 

فإن كانت الدنيا هي محبوبته وقد استحوذت عليه فإنها تأخذ بشغافه وعنايته في كافّة حالاته وهنيهاته، وتشغله بفتنتها في كل أوانٍ، فينصرف عن كلّ ما سواها بما في ذلك العبادة والحضور في الصلاة موعد الثناء على ربّ العزّة المتعال. وهذا الإنسان ليس له من العبادة والعبودية نصيب.

وإن كان حب الدنيا قد خالط قلبه ولكنه لم يستحوذ عليه بالكلّية فإنه قد ينشغل عن محبوبته بأمورٍ أخرى ولكن ما أن يزول الانشغال فإنه يطير إليها على عجلٍ، وفي أغلب الأحيان يكون وقت الصلاة بالنسبة لهذا الإنسان موعداً ليلتقي محبوبته الدنيا حيث يترك سائر انشغالاته وينصرف إليها، فلا يجني من صلاته غير الخسران لأن: “ما لك من صلاتك إلا ما أقبلت عليه فيها فإن أوهمها كلها أو غفل عن آدابها لفّت فضرب بها وجه صاحبها”[11].

أما أولئك الذين تذوّقت قلوبهم لذّة حب المحبوب المطلق، والذين يرون جمال محبوبهم عزّ وجلّ في كل شيء فإنهم ينتظرون موعد لقائهم به ويأتون بالصلاة بآدابها وتحضر قلوبهم فيها بلا كلفةٍ لأنها لا تروم سواه.

 

كيفية تحصيل حضور القلب

بعد أن عرفنا موانع حضور القلب أثناء العبادة وتبيّن لنا أن عمدتها عاملان رئيسان، هما تشتّت الخيال وحب الدنيا، ننتقل الآن لتوضيح كيفيّة إزالة هذين العاملين. وذلك لأن بقاءهما عني عدم إقبال القلب على الصلاة والعبادة واستمرار غفلته، ممّا يعني أن صلاة الإنسان لن تكون مقبولةً من جانب الحق المتعال، في الوقت الذي تعتبر فيه الصلاة الميزان في قبول أعمال الإنسان أو ردّها عليه، نعوذ بالله من ذلك وسوء عاقبته.

 

  1. السيطرة على قوة الخيال:

لا يمكن لنا الحديث عن إزالة قوة الخيال، فهو كما أصبح واضحاً قوّةٌ طبيعيةٌ ولازمةٌ للإنسان، ولكن علينا الحدّ من كونها مانعةً لحضور القلب في العبادة، ولذلك نكون بصدد

 

السيطرة على هذه القوّة. وقوّة الخيال هي كسائر قوى الإنسان الظاهرية والباطنية قابلةٌ للتربية والترويض والتهذيب والتدريب.

فعين الإنسان مثلاً قابلةٌ للتدريب حيث يمكن للمتدرّب بنحوٍ خاص أن ينظر إلى قرص الشمس ساعاتٍ عديدة دون أن يغمض جفنه، بينما لم يكن بمقدوره النظر سابقاً لثوانٍ قليلةٍ. كما يمكن برياضةٍ خاصّةٍ أيضاً لمرتاضٍ أن يحبس أنفاسه مدّةً طويلةً غير معتادةٍ، بل ويمكن وبرياضةٍ خاصّةٍ للبعض أن يتحكّم بدقّات قلبه فيبطئها مثلاً.

وكذلك القوى الباطنية هي قابلةٌ للتربية وللتدريب وكمثالٍ عليها التدريبات الذهنية لامتلاك الكثير من القدرات المختلفة كتقوية الشخصية أو الطلاقة في الكلام أو تنمية الذاكرة…

ومن ضمن هذه القوى الباطنية القابلة للتدريب قوّة الخيال، بحيث يصبح طائر الخيال إثر الرياضة الخاصّة طيّعاً في قبضة صاحبه لا يتحرّك إلا بإرادته واختياره. والرياضة الخاصّة لهذا التطويع هو مبدأ العمل بالخلاف. وتطبيق هذا المبدأ في الصلاة يقتضي:

أولاً: أن يقرّر الإنسان أن يحفظ خياله أثناء صلاته ويسيطر عليه، ويجعل تحقيق هذه السيطرة هدفاً له.

ثانياً: أن يبقى المصلّي مركّزاً على هدفه أثناء الصلاة، وبمجرّد أن يلحظ تحرّكاً لخياله خارج أذكار الصلاة ومعانيها يوقفه فوراً ويردّه إلى الصلاة.

ثالثاً: أن يبقى ملتفتاً إلى حال خياله في جميع حركات الصلاة وسكناتها وأذكارها وأعمالها، ويترصّده ولا يدعه بحاله أبداً.

رابعاً: أن يدرك أن السيطرة على الخيال لن تتمّ بتدريبٍ واحدٍ بل يلزم المواظبة كما هو شأن كل تدريبٍ من أي نوعٍ كان. كما عليه أن لا يتوقّع أن يتمكّن في بداية الأمر من حفظ خياله تماماً في كامل الصلاة بل عليه أن يدرك أنه سيحقّق هذا الهدف بالتدريج، فيمكن أن يحفظه أولاً في عشر الصلاة مثلاً ثم تزداد هذه النسبة شيئاً فشيئاً حتى يحفظه فيها كاملةً آخر المطاف.

 

 

خامساً: ينبغي للإنسان أن لا ييأس في كل أحواله، فإن اليأس هو منبع كلّ ضعفٍ ووهنٍ ومكمنٍ للشيطان والوهم. بل عليه أن يجعل كلّ اعتماده على الله عزّ وجلّ، وأن يرفع يده تماماً أثناء مجاهدته وسلوكه عن الاعتماد على نفسه، ويتوجّه إلى مسبّب الأسباب، ويتضرّع إليه في خلواته، ويطلب إصلاح حاله منه تعالى، فإنه لا ملجأ دون ذاته المقدسة.

وتبقى الإشارة إلى أن المنشأ الأساسي والمغذّي الأساسي لقوّة الخيال هو حب الدنيا والانشغال بزينتها وسفاسفها، لذا ينبغي قطع هذه الشجرة الملعونة وتجفيف هذا النبع الملوّث، السامّة مياهه.

 

  1. 2. علاج حب الدنيا:

عندما يكون قلب الإنسان مختلطاً بحب الدنيا، وليس له مقصدٌ ولا مقصودٌ غير تعميرها، فلا محالة أن يكون هذا الحب مانعاً من فراغ القلب وحضوره في ذلك المحضر القدسيّ، وعلاج هذا المرض المهلك والفساد المبيد هو العلم والعمل النافعان:

 

أ. العلم النافع:

التفكّر في ثمرات هذا المرض الذي هو مصدر الأمراض والمفاسد الأخلاقية، وفي نتائجه والمقارنة بينها وبين مضارّه ومهالكه الحاصلة منه. فكم هي محدودةٌ ومحكومةٌ بالفناء والزوال الفوائد الدنيوية التي قد يجنيها الإنسان المحب للدنيا؟ في مقابل ما يسببه حبّها من ضررٍ له!! ويكفي لتبيان فداحة هذا الضرر ما ورد في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام: “رأس كل خطيئة حب الدنيا”[12].

فيكفي لهذه الخطيئة العظيمة المهلكة أنها منبع جميع الخطايا وأساس جميع المفاسد. فبقليلٍ من التأمّل يدرك الإنسان أن جميع المفاسد الخُلقية والعملية توشك أن تكون من ثمرات هذه الشجرة الخبيثة. فما يحدث في هذه الدنيا من فسادٍ كالقتل والنهب والظلم والفجور والفحشاء والسرقة، إلا وهو بواسطة هذه الموبقة العظيمة. كما أن الفقر والذلّة

 

 

 

 

والطمع والحرص والاستعباد والتملّق والبغض والحقد والجور وقطع الرحم والنفاق وسائر الأخلاق الفاسدة وليدة أم الأمراض هذه.

وحب الدنيا مانعٌ من الفضائل المعنوية، فالشجاعة والعفّة والسخاء والعدالة وطمأنينة النفس وسكون الخاطر وسلامة القلب والكرامة والحرية وعزّة النفس، وكذلك المعارف الإلهية والتوحيد في الأسماء والصفات والأفعال والذات وطلب الحق ورؤية الحق، جميعها متضادّةٌ مع حب الدنيا.

فعن الإمام الصادق عليه السلام “الدنيا بمنزلة صورةٍ رأسها الكبر وعينها الحرص وأذنها الطمع ولسانها الرياء ويدها الشهوة ورجلها العجب وقلبها الغفلة وكونها الفناء وحاصلها الزوال، فمن أحبّها أورثته الكبر، ومن استحسنها أورثته الحرص، ومن طلبها أوردته إلى الطمع، ومن مدحها ألبسته الرياء، ومن أرادها مكّنته من العجب، ومن اطمأنّ إليها أولته الغفلة، ومن أعجبته متاعها أفنته، ومن جمعها وبخل بها ردّته إلى مستقرّها وهي النار[13].

والأحاديث في ذمّ حب الدنيا كثيرةٌ، فإذا ما أدرك المُبتلى به هول مخاطره، عليه أن ينهض بهمّةٍ ليعمل على اقتلاع جذور هذا الحب من قلبه بالعمل النافع.

 

ب. العمل النافع:

إن طريق علاج حب الدنيا هو مبدأ العمل بالضدّ. فكلّ محبٍّ للدنيا لديه نمطٌ من التعلّق بها، فالبعض يحبّ المال والثروة وتكديس الخيرات وادّخار النفائس، وعلاج هذا الشخص يكون بأداء الحقوق المالية الشرعية الواجبة وبالصدقة المستحبّة، فيعطي ممّا يحبّ ﴿ لَن تَنَالُواْ ٱلبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [14]. فإن من أسرار الصدقات تقليل التعلّق بالدنيا.

 

وإن كان هذا الأمر ثقيلاً على نفسه بادئ الأمر فليعلم أن السبب هو استحكام حب المال في قلبه، وليستمرّ في إنفاقه حتى يقضي على هذا الحب شيئاً فشيئاً.. وقد يصبح العطاء لديه لذّة كما كانت لذّة التملّك وجمع الأموال.

وهكذا، على كلّ إنسان أن يشخّص مورد ابتلائه بحب الدنيا، وفي أيّ الأمور يتجلّى هذا الحب في حياته ويقوم على العمل بخلاف هواه ومضادّة مشتهيات نفسه والثبات على هذه المجاهدة الفترة الكافية من الزمن للتخلّص من أمّ الأمراض هذه واقتلاعها من جذورها، وأن يحرص على مراقبة نفسه دائماً لئلّا يتسلّل هذا المرض الخبيث إليها مجدّداً.[15]

 

التمارين

ضع إشارة û أو ü في المكان المناسب:

 

1 – أحد أهم الآداب القلبية في الصلاة رعاية حضور القلب فيها 

2 – حضور القلب في الصلاة هو أن يكون المصلي مشغولاً وملتفتاً إلى حال الصلاة، ومتوجّهاً إلى الله في أفعاله وأقواله ومفرّغاً فكره عمّا سوى الحق 

3 – من نتائج العبادات المهمّة أن تُصبح إرادة النفس الملكوتية غير نافذة في ملك البدن بحيث تكون القوى الظاهرية بالنسبة إلى النفس كملائكة الله بالنسبة إلى الحق تعالى 

4 – إذا أصبحت النفس مرتاضة بعبادة الله تعالى انهزمت جنود إبليس وصار القلب مسلِّماً قواه للحقّ تعالى 

5 – أكّدت الأحاديث الشريفة على أهمّية حضور القلب في العبادات فهو قفل الكمالات وباب أبواب السعادات 

6 – موانع حضور القلب هي كلّ ما يستدعي غفلة القلب عن محضر العبادة وانشغاله عن معانيها الحقيقية 

7 – تنشأ الموانع إمّا من أمورٍ خارجةٍ عن طريق الحواسّ الظاهرية، وإمّا من أمورٍ باطنيةٍ عمدتها عقبتان رئيستان، هما الخيال وحبّ الدنيا 

8 – حبّ الدنيا هو تعلّق القلب بالحيثيّات الدنيوية الموصلة إلى الآخرة ورغبة القلب فيها 

9 – من العوامل المؤثّرة في السيطرة على قوّة الخيال هي التركيز على الهدف من عبادة الله سبحانه وتعالى 

10 – علاج مرض حبّ الدنيا يكمن في العلم والعمل النافعين والتفكّر في آثاره السلبية والمهلكة 

 

المفاهيم الرئيسة

  1. إن رعاية حضور القلب في العبادات ولا سيّما في الصلاة، هو أحد أهم الآداب القلبية قاطبةً، إذ ليس للعبادة من دونه روحٌ أو معنىً.

  2. من نتائج العبادات المهمّة أن تغدو مملكة البدن بجميعها، ظاهرها وباطنها، مسخّرةً تحت إرادة الله، ويترتّب على هذه النتيجة أن تصبح النفس مرتاضةً بعبادة الله بالتدريج.

  3. ما دام القلب غير حاضرٍ في محضر العبادة حضوراً كاملاً وقائماً فيه، وما دام يتقلّب غافلاً عن الله. فستكون العبادة قشراً بلا لبٍّ وصورةً بلا باطن.

  4. موانع حضور القلب تنشأ إمّا من أمورٍ خارجيةٍ عن طريق الحواسّ الظاهرية، وإمّا من أمورٍ باطنيةٍ عمدتها عقبتان رئيستان، هما الخيال وحبّ الدنيا. وينبغي إزالتهما لتحصيل حضور القلب.

  5. للسيطرة على قوّة الخيال لا بد من تدريبها من خلال: جعل تحقيق هذه السيطرة هدفاً للإنسان، التركيز على الهدف أثناء الصلاة، الالتفات إلى حال خياله في الصلاة بأكملها، المواظبة على التدريب والسعي للهدف بالتدريج، عدم اليأس، وجعل كلّ اعتماده على الله عزّ وجلّ.

  6. علاج مرض حب الدنيا يكمن في العلم والعمل النافعين:

أ. التفكّر في ثمرات هذا المرض الذي هو مصدر الأمراض والمفاسد الأخلاقية، وفي نتائجه والمقارنة بينها وبين مضارّه ومهالكه الحاصلة منه.

ب. العمل النافع: وهو مبدأ العمل بالضدّ.

 

للمطالعة

بيان بعض أسرار العبادة وتجسيم الأعمال

اعلم أنّ لكلٍّ من الأعمال الحسنة والأفعال العبادية صورةً باطنيةً ملكوتية، وأثراً في قلب العابد. أما الصورة الباطنية فهي التي تعمّر العوالم البرزخية والجنة الجسمانية، لأن أرض الجنة قاعٌ خاليةٌ من كلّ شيء كما ورد في الحديث، وأن الأذكار والأعمال موادّ إنشاءٍ وبناءٍ لها. كما ورد في الحديث أيضاً. وإنّ الآيات الكثيرة من الكتاب الشريف الإلهي، تدلّ على تجسّم الأعمال مثل قوله تعالى: ﴿ فَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ خَيرا يَرَهُۥ ٧ وَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّة شَرّا يَرَهُۥ[16] ومثل قوله تعالى: ﴿ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرا[17]. والأخبار الدالّة على تجسّم الأعمال والصور الغيبية الملكوتية مذكورة في أبواب مختلفة. ونحن نكتفي بذكر بعضها:

روى الصدوقُ رحمه الله بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: “مَنْ صَلّى الصَّلَواتِ المَفْروضاتِ في أَوَّلِ وَقْتِهَا وَأَقَامَ حُدودَها، رَفَعَهَا المَلَكُ إِلَى السَّماءِ بَيْضاءَ نَقِيَّهً تَقولُ: حَفِظَكَ اللهُ كَمَا حَفِظْتَنِي، اسْتَوْدَعَنِي مَلَكٌ كَرِيمٌ. وَمَنْ صَلاّها بَعْدَ وَقْتِهَا مِنْ غَيْرٍ عِلَّةٍ وَلَمْ يُقِمْ حُدودَها، رَفَعَهَا المَلَكُ سَوْداءَ مُظْلِمَةً وَهِيَ تَهْتِفُ بِهِ ضَيَّعْتَنِي ضَيَّعَك اللهُ كَمَا ضَيَّعْتَنِي وَلاَ رَعَاكَ اللهُ كَمَا لَمْ تَرْعَنِي”[18].

ويُستفاد من هذا الحديث الشريف مضافاً إلى تحقّق الصورة الملكوتية للعمل، حياة الصورة الملكوتية وشؤونها الحياتية أيضاً، وهذا ضربٌ من البرهان على تجسّم الأعمال. والأخبار تدلّ على أنّ لجميع الموجودات حياة ملكوتية، وأنّ عالم الملكوت كلّه حياة وعلم. ﴿ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلأخِرَةَ لَهِيَ ٱلحَيَوَانُ[19] [20].

[1]  منسوب إلى الإمام الصادق عليه السلام، مصباح الشريعة، الباب التاسع والثلاثون، في افتتاح الصلاة، ص87.

[2]  ملا محمد مهدي النراقي، جامع السعادات، ج3، ص259، تحقيق وتعليق: السيد محمد كلانتر / تقديم: الشيخ محمد رضا المظفر، دار النعمان للطباعة والنشر، لا.ت، لا.ط.

[3]  راجع السيد عبد الحسين دستغيب، صلاة الخاشعين، دار التعارف، ص 35.

[4]  العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج81، ص249.

[5]  م. ن، ص260.

[6]  م. ن، ص 242.

[7]  الشيخ الكليني، الكافي، ج3، ص363.

[8]  م. ن، ص 266.

[9]  سورة التحريم، الآية 6.

[10]  راجع الإمام الخميني، الآداب المعنوية للصلاة، المقالة الأولى، الفصل الثامن في بيان حضور القلب.

[11]  الشيخ الكليني، الكافي، ج3، ص363.

[12]  الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص315.

[13]  العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج70، ص105.

[14]  سورة آل عمران، الآية 92.

[15]  راجع الإمام الخميني، الآداب المعنوية للصلاة، المقالة الأولى، الفصل الثامن في بيان حضور القلب.

[16]  سورة الزلزلة، الآيتان 7 – 8.

[17]  سورة الكهف، الآية 49.

[18]  الصدوق، الأمالي، ص256.

[19]  سورة العنكبوت، الآية 64.

[20]  الإمام الخميني، الأربعون حديثاً، الحَديث السَابع وَالعشرون: حضور القلب.

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...