الميزان في تفسير القرآن سورة البقرة 142 – 151
24 أغسطس,2018
القرآن الكريم, صوتي ومرئي متنوع
1,262 زيارة
سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (151)
بيان
الآيات مترتبة متسقة منتظمة في سياقها على ما يعطيه التدبر فيها و هي تنبىء عن جعل الكعبة قبلة للمسلمين فلا يصغى إلى قول من يقول إن فيها تقدما و تأخرا أو إن فيها ناسخا و منسوخا، و ربما رووا فيها شيئا من الروايات، و لا يعبأ بشيء منها بعد مخالفتها لظاهر الآيات.
قوله تعالى: سيقول السفهاء من الناس ما وليهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، هذا تمهيد ثانيا لما سيأمر تعالى به من اتخاذ الكعبة قبلة و تعليم للجواب عما سيعترض به السفهاء من الناس و هم اليهود تعصبا لقبلتهم التي هي بيت المقدس و مشركوا العرب الراصدون لكل أمر جديد يحتمل الجدال و الخصام، و قد مهد لذلك أولا بما ذكره الله تعالى من قصص إبراهيم و أنواع كرامته على الله سبحانه و كرامة ابنه إسماعيل و دعوتهما للكعبة و مكة و للنبي و الأمة المسلمة و بنائهما البيت و الأمر بتطهيره للعبادة، و من المعلوم أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة من أعظم الحوادث الدينية و أهم التشريعات التي قوبل به الناس بعد هجرة النبي إلى المدينة و أخذ الإسلام في تحقيق أصوله و نشر معارفه و بث حقائقه، فما كانت اليهود و غيرهم تسكت و تستريح في مقابل هذا التشريع، لأنهم كانوا يرون أنه يبطل واحدا من أعظم مفاخرهم الدينية و هو القبلة و اتباع غيرهم لهم فيها و تقدمهم على من دونهم في هذا الشعار الديني، على أن ذلك تقدم باهر في دين المسلمين، لجمعه وجوههم في عباداتهم و مناسكهم الدينية إلى نقطة واحدة يخلصهم من تفرق الوجوه في الظاهر و شتات الكلمة في الباطن و استقبال الكعبة أشد تأثيرا و أقوى من أمثال الطهارة و الدعاء و غيرهما في نفوس المسلمين، عند اليهود و مشركي العرب و خاصة عند اليهود كما يشهد به قصصهم المقتصة في القرآن، فقد كانوا أمة لا يرون لغير المحسوس من عالم الطبيعة أصالة و لا لغير الحس وقعا، إذا جاءهم حكم من أحكام الله معنوي قبلوه من غير تكلم عليه و إذا جاءهم أمر من ربهم صوري متعلق بالمحسوس من الطبيعة كالقتال و الهجرة و السجدة و خضوع القول و غيرها قابلوه بالإنكار و قاوموا عليه و دونه أشد المقاومة.
و بالجملة فقد أخبر الله سبحانه عما سيعترضون به على تحويل القبلة و علم رسوله ما ينبغي أن يجابوا و يقطع به قولهم.
أما اعتراضهم: فهو أن التحول عن قبلة شرعها الله سبحانه للماضين من أنبيائه إلى بيت، ما كان به شيء من هذا الشرف الذاتي ما وجهه؟ فإن كان بأمر من الله فإن الله هو الذي جعل بيت المقدس قبلة فكيف ينقض حكمه و ينسخ ما شرعه، و اليهود ما كانت تعتقد النسخ كما تقدم في آية النسخ و إن كان بغير أمر الله ففيه الانحراف عن مستقيم الصراط و الخروج من الهداية إلى الضلال و هو تعالى و إن لم يذكر في كلامه هذا الاعتراض إلا أن ما أجاب به يلوح ذلك.
و أما الجواب: فهو أن جعل بيت من البيوت كالكعبة أو بناء من الأبنية أو الأجسام كبيت المقدس، أو الحجر الواقع فيه قبلة ليس لاقتضاء ذاتي منه يستحيل التعدي عنه أو عدم إجابة اقتضائه حتى يكون البيت المقدس في كونه قبلة لا يتغير حكمه و لا يجوز إلغاؤه، بل جميع الأجسام و الأبنية و جميع الجهات التي يمكن أن يتوجه إليه الإنسان في أنها لا تقتضي حكما و لا يستوجب تشريعا على السواء و كلها لله يحكم فيها ما يشاء و كيف يشاء و متى يشاء، و ما حكم به من حكم فهو لهداية الناس على حسب ما يريد من صلاحهم و كمالهم الفردي و النوعي، فلا يحكم إلا ليهدي به و لا يهدي إلا إلى ما هو صراط مستقيم إلى كمال القوم و صلاحهم.
قوله تعالى: سيقول السفهاء من الناس، أراد بهم اليهود و المشركين من العرب و لذلك عبر عنهم بالناس و إنما سفههم لعدم استقامة فطرتهم و ثقوب رأيهم في أمر التشريع، و السفاهة عدم استقامة العقل و تزلزل الرأي.
قوله تعالى: ما وليهم، تولية الشيء أو المكان جعله قدام الوجه و أمامه كالاستقبال، قال تعالى فلنولينك قبلة ترضيها، الآية و التولية عن الشيء صرف الوجه عنه كالاستدبار و نحوه، و المعنى ما الذي صرفهم أو صرف وجههم عن القبلة التي كانوا عليها و هو بيت المقدس الذي كان يصلي إليه النبي و المسلمون أيام إقامته بمكة و عدة شهور بعد هجرته إلى المدينة و إنما نسبوا القبلة إلى المسلمين مع أن اليهود أقدم في الصلاة إليها ليكون أوقع في إيجاد التعجب و أوجب للاعتراض، و إنما قيل ما وليهم عن قبلتهم و لم يقل ما ولى النبي و المسلمين لما ذكرنا من الوجه، فلو قيل ما ولى النبي و المسلمين عن قبلة اليهود لم يكن التعجب واقعا موقعه و كان الجواب عنه ظاهرا لكل سامع بأدنى تنبه.
قوله تعالى: قل لله المشرق و المغرب، اقتصر من بين الجهات بهاتين لكونهما هما المعنيتين لسائر الجهات الأصلية و الفرعية كالشمال و الجنوب و ما بين كل جهتين من الجهات الأربعة الأصلية، و المشرق و المغرب جهتان إضافيتان تتعينان بشروق الشمس أو النجوم و غروبهما، يعمان جميع نقاط الأرض غير نقطتين موهومتين هما نقطتا الشمال و الجنوب الحقيقيتان، و لعل هذا هو الوجه في وضع المشرق و المغرب موضع الجهات.
قوله تعالى: يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، تنكير الصراط لأن الصراط يختلف باختلاف الأمم في استعداداتها للهداية إلى الكمال و السعادة.
قوله تعالى: و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا، الظاهر أن المراد كما سنحول القبلة لكم لنهديكم إلى صراط مستقيم كذلك جعلناكم أمة وسطا، و قيل إن المعنى و مثل هذا الجعل العجيب جعلناكم أمة وسطا و هو كما ترى، و أما المراد بكونهم أمة وسطا شهداء على الناس فالوسط هو المتخلل بين الطرفين لا إلى هذا الطرف و لا إلى ذاك الطرف، و هذه الأمة بالنسبة إلى الناس – و هم أهل الكتاب و المشركون – على هذا الوصف فإن بعضهم – و هم المشركون و الوثنيون – إلى تقوية جانب الجسم محضا لا يريدون إلا الحياة الدنيا و الاستكمال بملاذها و زخارفها و زينتها، لا يرجون بعثا و لا نشورا، و لا يعبئون بشيء من الفضائل المعنوية و الروحية، و بعضهم كالنصارى إلى تقوية جانب الروح لا يدعون إلا إلى الرهبانية و رفض الكمالات الجسمية التي أظهرها الله تعالى في مظاهر هذه النشأة المادية لتكون ذريعة كاملة إلى نيل ما خلق لأجله الإنسان، فهؤلاء أصحاب الروح أبطلوا النتيجة بإبطال سببها و أولئك أصحاب الجسم أبطلوا النتيجة بالوقوف على سببها و الجمود عليها، لكن الله سبحانه جعل هذه الأمة وسطا بأن جعل لهم دينا يهدي منتحليه إلى سواء الطريق وسط الطرفين لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء بل يقوي كلا من الجانبين – جانب الجسم و جانب الروح – على ما يليق به و يندب إلى جمع الفضيلتين فإن الإنسان مجموع الروح و الجسم لا روح محضا و لا جسم محضا، و محتاج في حياته السعيدة إلى جمع كلا الكمالين و السعادتين المادية و المعنوية، فهذه الأمة هي الوسط العدل الذي به يقاس و يوزن كل من طرفي الإفراط و التفريط فهي الشهيدة على سائر الناس الواقعة في الأطراف و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو المثال الأكمل من هذه الأمة – هو شهيد على نفس الأمة فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) ميزان يوزن به حال الآحاد من الأمة، و الأمة ميزان يوزن به حال الناس و مرجع يرجع إليه طرفا الإفراط و التفريط، هذا ما قرره بعض المفسرين في معنى الآية، و هو في نفسه معنى صحيح لا يخلو عن دقة إلا أنه غير منطبق على لفظ الآية فإن كون الأمة وسطا إنما يصحح كونها مرجعا يرجع إليه الطرفان، و ميزانا يوزن به الجانبان لا كونها شاهدة تشهد على الطرفين، أو يشاهد الطرفين، فلا تناسب بين الوسطية بذاك المعنى و الشهادة و هو ظاهر، على أنه لا وجه حينئذ للتعرض بكون رسول الله شهيدا على الأمة إذ لا يترتب شهادة الرسول على الأمة على جعل الأمة وسطا، كما يترتب الغاية على المغيا و الغرض على ذيه.
على أن هذه الشهادة المذكورة في الآية، حقيقة من الحقائق القرآنية تكرر ذكرها في كلامه سبحانه، و اللائح من موارد ذكرها معنى غير هذا المعنى، قال تعالى «فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد و جئنا بك على هؤلاء شهيدا»: النساء – 41، و قال تعالى «و يوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا و لا هم يستعتبون»: النحل – 84 «و قال تعالى و وضع الكتاب و جيء بالنبيين و الشهداء»: الزمر – 69، و الشهادة فيها مطلقة، و ظاهر الجميع على إطلاقها هو الشهادة على أعمال الأمم، و على تبليغ الرسل أيضا، كما يومىء إليه قوله تعالى «و لنسألن الذين أرسل إليهم و لنسألن المرسلين»: الأعراف – 6، و هذه الشهادة و إن كانت في الآخرة يوم القيامة لكن تحملها في الدنيا على ما يعطيه قوله تعالى – حكاية عن عيسى (عليه السلام) – «و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم و أنت على كل شيء شهيد»: المائدة – 117 و قوله تعالى «و يوم القيمة يكون عليهم شهيدا»: النساء – 159، و من الواضح أن هذه الحواس العادية التي فينا، و القوى المتعلقة بها منا لا تتحمل إلا صور الأفعال و الأعمال فقط، و ذلك التحمل أيضا إنما يكون في شيء يكون موجودا حاضرا عند الحس لا معدوما و لا غائبا عنه و أما حقائق الأعمال و المعاني النفسانية من الكفر و الإيمان و الفوز و الخسران، و بالجملة كل خفي عن الحس و مستبطن عند الإنسان – و هي التي تكسب القلوب، و عليه يدور حساب رب العالمين يوم تبلى السرائر كما قال تعالى «و لكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم»: البقرة – 225 فهي مما ليس في وسع الإنسان إحصاؤها و الإحاطة بها و تشخيصها من الحاضرين فضلا عن الغائبين إلا رجل يتولى الله أمره و يكشف ذلك له بيده، و يمكن أن يستفاد ذلك من قوله تعالى «و لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق و هم يعلمون»: الزخرف – 86، فإن عيسى داخل في المستثنى في هذه الآية قطعا – و قد شهد الله تعالى في حقه بأنه من الشهداء – كما مر في الآيتين السابقتين، فهو شهيد بالحق و عالم بالحقيقة.
و الحاصل أن هذه الشهادة ليست هي كون الأمة على دين جامع للكمال الجسماني و الروحاني فإن ذلك على أنه ليس معنى الشهادة خلاف ظاهر الآيات الشريفة.
بل هي تحمل حقائق أعمال الناس في الدنيا من سعادة أو شقاء و رد و قبول، و انقياد و تمرد، و أداء ذلك في الآخرة يوم يستشهد الله من كل شيء، حتى من أعضاء الإنسان، يوم يقول الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا.
و من المعلوم أن هذه الكرامة ليست تنالها جميع الأمة، إذ ليست إلا كرامة خاصة للأولياء الطاهرين منهم، و أما من دونهم من المتوسطين في السعادة، و العدول من أهل الإيمان فليس لهم ذلك، فضلا عن الأجلاف الجافية، و الفراعنة الطاغية من الأمة، و ستعرف في قوله تعالى «و من يطع الله و الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا»: النساء – 69، إن أقل ما يتصف به الشهداء – و هم شهداء الأعمال – أنهم تحت ولاية الله و نعمته و أصحاب الصراط المستقيم، و قد مر إجمالا في قوله تعالى «صراط الذين أنعمت عليهم»: فاتحة الكتاب – 7.
فالمراد بكون الأمة شهيدة أن هذه الشهادة فيهم، كما أن المراد بكون بني إسرائيل فضلوا على العالمين، أن هذه الفضيلة فيهم من غير أن يتصف به كل واحد منهم، بل نسب وصف البعض إلى الكل لكون البعض فيه و منه، فكون الأمة شهيدة هو أن فيهم من يشهد على الناس و يشهد الرسول عليهم.
فإن قلت: قوله تعالى «و الذين آمنوا بالله و رسله أولئك هم الصديقون و الشهداء عند ربهم»: الحديد – 19، يدل على كون عامة المؤمنين شهداء.
قلت: قوله عند ربهم، يدل على أنه تعالى سيلحقهم بالشهداء يوم القيامة، و لم ينالوه في الدنيا، نظير ذلك قوله تعالى «و الذين آمنوا و اتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم»: الطور – 21، على أن الآية مطلقة تدل على كون جميع المؤمنين من جميع الأمم شهداء عند الله من غير اختصاص بهذه الأمة فلا ينفع المستدل شيئا.
فإن قلت: جعل هذه الأمة أمة وسطا بهذا المعنى لا يستتبع كونهم أو كون بعضهم شهداء على الأعمال و لا كون الرسول شهيدا على هؤلاء الشهداء فالإشكال وارد على هذا التقريب كما كان واردا على التقريب السابق.
قلت: معنى الشهادة غاية متفرعة في الآية على جعل الأمة وسطا فلا محالة تكون الوسطية معنى يستتبع الشهادة و الشهداء، و قد قال الله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اركعوا و اسجدوا و اعبدوا ربكم و افعلوا الخير لعلكم تفلحون و جاهدوا في الله حق جهاده هو اجتبيكم و ما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سميكم المسلمين من قبل و في هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم و تكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلوة و آتوا الزكوة و اعتصموا بالله هو موليكم، فنعم المولى و نعم النصير»: الحج – 78، جعل تعالى كون الرسول شهيدا عليهم و كونهم شهداء على الناس غاية متفرعة على الاجتباء و نفي الحرج عنهم في الدين ثم عرف الدين بأنه هو الملة التي كانت لأبيكم إبراهيم الذي هو سماكم المسلمين من قبل، و ذلك حين دعا لكم ربه و قال: «و من ذريتنا أمة مسلمة لك» فاستجاب الله دعوته و جعلكم مسلمين، تسلمون له الحكم و الأمر من غير عصيان و استنكاف، و لذلك ارتفع الحرج عنكم في الدين، فلا يشق عليكم شيء منه و لا يحرج، فأنتم المجتبون المهديون إلى الصراط، المسلمون لربهم الحكم و الأمر، و قد جعلناكم كذلك ليكون الرسول شهيدا عليكم و تكونوا شهداء على الناس، أي تتوسطوا بين الرسول و بين الناس فتتصلوا من جهة إليهم، و عند ذلك يتحقق مصداق دعائه (عليه السلام) فيكم و في الرسول حيث قال «ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك و يعلمهم الكتاب و الحكمة و يزكيهم»: البقرة – 129، فتكونون أمة مسلمة أودع الرسول في قلوبكم علم الكتاب و الحكمة، و مزكين بتزكيته، و التزكية التطهير من قذرات القلوب، و تخليصها للعبودية، و هو معنى الإسلام كما مر بيانه، فتكونون مسلمين خالصين في عبوديتكم، و للرسول في ذلك القدم الأول و الهداية و التربية، فله التقدم على الجميع، و لكم التوسط باللحوق به، و الناس في جانب، و في أول الآية و آخرها قرائن تدل على المعنى الذي استفدناه منها غير خفية على المتدبر فيها سنبينها في محله إن شاء الله.
فقد تبين بما قدمناه: أولا، أن كون الأمة وسطا مستتبع للغايتين جميعا، و أن قوله تعالى: لتكونوا شهداء على الناس، و يكون الرسول عليكم شهيدا الآية جميعا لازم كونهم وسطا.
و ثانيا: أن كون الأمة وسطا إنما هو بتخللها بين الرسول و بين الناس، لا بتخللها بين طرفي الإفراط و التفريط، و جانبي تقوية الروح و تقوية الجسم في الناس.
و ثالثا: أن الآية بحسب المعنى مرتبطة بآيات دعوة إبراهيم (عليه السلام) و أن الشهادة من شئون الأمة المسلمة.
و اعلم: أن الشهادة على الأعمال على ما يفيده كلامه تعالى لا يختص بالشهداء من الناس، بل كل ما له تعلق ما بالعمل كالملائكة و الزمان و المكان و الدين و الكتاب و الجوارح و الحواس و القلب فله فيه شهادة.
و يستفاد منها أن الذي يحضر منها يوم القيامة هو الذي في هذه النشأة الدنيوية و أن لها نحوا من الحياة الشاعرة بها، تتحمل بها خصوصيات الأعمال، و ترتسم هي فيها، و ليس من اللازم أن تكون الحياة التي في كل شيء، سنخا واحدا كحياة جنس الحيوان، ذات خواص و آثار كخواصها و آثارها، حتى تدفعه الضرورة فلا دليل على انحصار أنحاء الحياة في نحو واحد، هذا إجمال القول في هذا المقام و أما تفصيل القول في كل واحد واحد منها فموكول إلى محله اللائق به.
قوله تعالى: و ما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، المراد بقوله لنعلم: إما علم الرسل و الأنبياء مثلا، لأن العظماء يتكلمون عنهم و عن أتباعهم، كقول الأمير، قتلنا فلانا و سجنا فلانا، و إنما قتله و سجنه أتباعه لا نفسه، و إما العلم العيني الفعلي منه تعالى الحاصل مع الخلقة و الإيجاد، دون العلم قبل الإيجاد.
و الانقلاب على العقبين كناية عن الإعراض، فإن الإنسان – و هو منتصب على عقبيه – إذا انقلب من جهة، إلى جهة انقلب على عقبيه، فجعل كناية عن الإعراض نظير قوله «و من يولهم يومئذ دبره»: الأنفال – 16، و ظاهر الآية أنه دفع لما يختلج في صدور المؤمنين: من تغيير القبلة و نسخها، و من جهة الصلوات التي صلوها إلى القبلة، ما شأنها؟ و يظهر من ذلك أن المراد بالقبلة التي كان رسول الله عليها، هو بيت المقدس الكعبة، فلا دليل على جعل بيت المقدس قبلة مرتين، و جعل الكعبة قبلة مرتين، إذ لو كان المراد من القبلة في الآية الكعبة كان لازم ذلك ما ذكر.
و بالجملة كان من المترقب أن يختلج في صدور المؤمنين: أولا، أنه لما كان من المقدر أن يستقر القبلة بالآخرة على الكعبة فما هو السبب، أولا: في جعل بيت المقدس قبلة؟ فبين سبحانه أن هذه الأحكام و التشريعات ليست إلا لأجل مصالح تعود إلى تربية الناس و تكميلهم، و تمحيص المؤمنين من غيرهم، و تمييز المطيعين من العاصين، و المنقادين من المتمردين، و السبب الداعي إلى جعل القبلة السابقة في حقكم أيضا هذا السبب بعينه، فالمراد بقوله إلا لنعلم من يتبع الرسول، إلا لنميز من يتبعك، و العدول من لفظ الخطاب إلى الغيبة لدخالة صفة الرسالة في هذا التميز، و المراد بجعل القبلة السابقة: جعلها في حق المسلمين، و إن كان المراد أصل جعل بيت المقدس قبلة فالمراد مطلق الرسول، و الكلام على رسله من غير التفات، غير أنه بعيد من الكلام بعض البعد.
و ثانيا: أن الصلوات التي كان المسلمون صلوها إلى بيت المقدس كيف حالها، و قد صليت إلى غير القبلة؟ و الجواب: أن القبلة قبلة ما لم تنسخ، و أن الله سبحانه إذا نسخ حكما رفعه من حين النسخ، لا من أصله، لرأفته و رحمته بالمؤمنين، و هذا ما أشار إليه بقوله: و ما كان الله ليضيع إيمانكم، إن الله بالناس لرءوف رحيم.
و الفرق بين الرأفة و الرحمة، بعد اشتراكهما في أصل المعنى، أن الرأفة يختص بالمبتلى المفتاق، و الرحمة أعم.
قوله تعالى: قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضيها، الآية تدل على أن رسول الله قبل نزول آية القبلة – و هي هذه الآية – كان يقلب وجهه في آفاق السماء، و أن ذلك كان انتظارا منه، أو توقعا لنزول الوحي في أمر القبلة، لما كان يحب أن يكرمه الله تعالى بقبلة تختص به، لا أنه كان لا يرتضي بيت المقدس قبلة، و حاشا رسول الله من ذلك، كما قال تعالى: فلنولينك قبلة ترضيها، فإن الرضا بشيء لا يوجب السخط بخلافه بل اليهود على ما في الروايات الواردة في شأن نزول الآية كانوا يعيرون المسلمين في تبعية قبلتهم، و يتفاخرون بذلك عليهم، فحزن رسول الله ذلك، فخرج في سواد الليل يقلب وجهه إلى السماء ينتظر الوحي من الله سبحانه، و كشف همه فنزلت الآية، و لو نزلت على البقاء بالقبلة السابقة لكانت حجة له (صلى الله عليه وآله وسلم) على اليهود، و ليس و لم يكن لرسول الله و لا للمسلمين عار في استقبال قبلتهم، إذ ليس للعبد إلا الإطاعة و القبول، لكن نزلت بقبلة جديدة، فقطع تعييرهم و تفاخرهم، مضافا إلى تعيين التكليف، فكانت حجة و رضى.
قوله تعالى: فول وجهك شطر المسجد الحرام و حيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره.
الشطر البعض، و شطر المسجد الحرام هو الكعبة، و في قوله تعالى شطر المسجد الحرام دون أن يقال: فول وجهك الكعبة، أو يقال: فول وجهك البيت الحرام، محاذاة للحكم في القبلة السابقة، فإنها كانت شطر المسجد الأقصى، و هي الصخرة المعروفة هناك، فبدلت من شطر المسجد الحرام – و هي الكعبة – على أن إضافة الشطر إلى المسجد، و توصيف المسجد بالحرام يعطي مزايا للحكم، تفوت لو قيل: الكعبة أو البيت الحرام.
و تخصيص رسول الله بالحكم أولا بقوله فول وجهك، ثم تعميم الحكم له و لغيره من المؤمنين بقوله و حيث ما كنتم يؤيد أن القبلة حولت، و رسول الله قائم يصلي في المسجد – و المسلمون معه – فاختص الأمر به، أولا في شخص صلاته ثم عقب الحكم العام الشامل له و لغيره، و لجميع الأوقات و الأمكنة قوله تعالى: و إن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم، و ذلك لاشتمال كتابهم على صدق نبوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو كون قبلة هذا النبي الصادق هو شطر المسجد الحرام، و أيا ما كان فقوله: أوتوا الكتاب، يدل على اشتمال كتابهم على حقية هذا التشريع، إما مطابقة أو تضمنا، و ما الله بغافل عما يعملون من كتمان الحق، و احتكار ما عندهم من العلم.
قوله تعالى: و لئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية، تقريع لهم بالعناد و اللجاج، و أن إباءهم عن القبول ليس لخفاء الحق عليهم، و عدم تبينه لهم، فإنهم عالمون بأنه حق علما لا يخالطه شك، بل الباعث لهم على بث الاعتراض و إثارة الفتنة عنادهم في الدين و جحودهم للحق، فلا ينفعهم حجة، و لا يقطع إنكارهم آية، فلو أتيتهم بكل آية ما تبعوا قبلتك لعنادهم و جحودهم، و ما أنت بتابع قبلتهم، لأنك على بينة من ربك، و يمكن أن يكون قوله: و ما أنت نهيا في صورة خبر، و ما بعضهم بتابع قبلة بعض، و هم اليهود يستقبلون صخرة بيت المقدس أينما كانوا، و النصارى يستقبلون المشرق أينما كانوا، فلا هذا البعض يقبل قبلة ذاك البعض، و لا ذاك يقبل قبلة هذا اتباعا للهوى.
قوله تعالى: و لئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم، تهديد للنبي، و المعنى متوجه إلى أمته، و إشارة إلى أنهم في هذا التمرد إنما يتبعون أهواءهم و أنهم بذلك ظالمون.
قوله تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، الضمير في قوله يعرفونه، راجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دون الكتاب، و الدليل عليه تشبيه هذه المعرفة بمعرفة الأبناء، فإن ذلك إنما يحسن في الإنسان، و لا يقال في الكتاب، أن فلانا يعرفه أو يعلمه، كما يعرف ابنه، على أن سياق الكلام – و هو في رسول الله، و ما أوحي إليه من أمر القبلة، أجنبي عن موضوع الكتاب الذي أوتيه أهل الكتاب، فالمعنى أن أهل الكتاب يعرفون رسول الله بما عندهم من بشارات الكتب كما يعرفون أبناءهم، و إن فريقا منهم ليكتمون الحق و هم يعلمون.
و على هذا ففي الكلام التفات من الحضور إلى الغيبة في قوله يعرفونه، فقد أخذ رسول الله غائبا، و وجه الخطاب إلى المؤمنين بعد ما كان (صلى الله عليه وآله وسلم) حاضرا، و الخطاب معه، و ذلك لتوضيح: أن أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) واضح ظاهر عند أهل الكتاب، و مثل هذا النظم كمثل كلام من يكلم جماعة لكنه يخص واحدا منهم بالمخاطبة إظهارا لفضله، فيخاطبه و يسمع غيره، فإذا بلغ إلى ما يخص شخص المخاطب من الفضل و الكرامة، عدل عن خطابه إلى مخاطبة الجماعة، ثم بعد الفراغ عن بيان فضله عدل ثانيا إلى ما كان فيه أولا من توجيه الخطاب إليه و بهذا يظهر نكتة الالتفات.
قوله تعالى: الحق من ربك فلا تكونن من الممترين، تأكيد للبيان السابق و تشديد في النهي عن الامتراء، و هو الشك و الارتياب، و ظاهر الخطاب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و معناه للأمة.
قوله تعالى: و لكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات، الوجهة ما يتوجه إليه كالقبلة، و هذا رجوع إلى تلخيص البيان السابق، و تبديل له من بيان آخر يهدي الناس إلى ترك تعقيب أمر القبلة، و الإكثار من الكلام فيه، و المعنى أن كل قوم فلهم قبلة مشرعة على حسب ما يقتضيه مصالحهم و ليس حكما تكوينيا ذاتيا لا يقبل التغيير و التحويل، فلا يهم لكم البحث و المشاجرة، فيه فاتركوا ذلك و استبقوا الخيرات و سارعوا إليها بالاستباق، فإن الله سيجمعكم إلى يوم لا ريب فيه، و أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير.
و اعلم أن الآية كما أنها قابلة الانطباق على أمر القبلة لوقوعها بين آياتها كذلك تقبل الانطباق على أمر التكوين، و فيها إشارة إلى القدر و القضاء، و جعل الأحكام و الآداب لتحقيقها و سيجيء تمام بيانه فيما يخص به من المقام إن شاء الله.
قوله تعالى: و من حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام، ذكر بعض المفسرين أن المعنى و من أي مكان خرجت، و في أي بقعة حللت فول وجهك و ذكر بعضهم أن المعنى و من حيث خرجت من البلاد، و يمكن أن يكون المراد بقوله و من حيث خرجت مكة، التي خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منها كما قال تعالى «من قريتك التي أخرجتك»: محمد – 13 و يكون المعنى أن استقبال البيت حكم ثابت لك في مكة و غيرها من البلاد و البقاع، و في قوله و إنه للحق من ربك و ما الله بغافل عما تعملون تأكيد و تشديد.
قوله تعالى: و من حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام و حيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره، تكرار الجملة الأولى بلفظها لعله للدلالة على ثبوت حكمها على أي حال، فهو كقول القائل، اتق الله إذا قمت و اتق الله إذا قعدت، و اتق الله إذا نطقت، و اتق الله إذا سكت، يريد: التزم التقوى عند كل واحدة من هذه الأحوال و لتكن معك، و لو قيل اتق الله إذا قمت و إذا قعدت و إذا نطقت و إذا سكت فاتت هذه النكتة، و المعنى استقبل شطر المسجد الحرام من التي خرجت منها و حيث ما كنتم من الأرض فولوا وجوهكم شطره.
قوله تعالى: لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم و اخشوني، بيان لفوائد ثلاث في هذا الحكم الذي فيه أشد التأكيد على ملازمة الامتثال و التحذر عن الخلاف: إحداها: أن اليهود كانوا يعلمون من كتبهم أن النبي الموعود تكون قبلته الكعبة دون بيت المقدس، كما قال تعالى: و إن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم الآية، و في ترك هذا الحكم الحجة لليهود على المسلمين بأن النبي ليس هو النبي الموعود لكن التزام هذا الحكم و العمل به يقطع حجتهم إلا الذين ظلموا منهم، و هو استثناء منقطع، أي لكن الذين ظلموا منهم باتباع الأهواء لا ينقطعون بذلك فلا تخشوهم لأنهم ظالمون باتباع الأهواء، و الله لا يهدي القوم الظالمين و اخشوني.
و ثانيتها: أن ملازمة هذا الحكم يسوق المسلمين إلى تمام النعمة عليهم بكمال دينهم، و سنبين معنى تمام النعمة في الكلام على قوله تعالى «اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي»: المائدة – 4.
و ثالثتها: رجاء الاهتداء إلى الصراط المستقيم، و قد مر معنى الاهتداء في الكلام على معنى قوله تعالى «اهدنا الصراط المستقيم»: فاتحة الكتاب – 6.
و ذكر بعض المفسرين أن اشتمال هذه الآية و هي آية – تحويل القبلة – على قوله و ليتم نعمته عليكم و لعلكم تهتدون، مع اشتمال قوله تعالى في سورة الفتح في ذكر فتح مكة على هاتين الجملتين، إذ قال تعالى «إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر و يتم نعمته عليك و يهديك صراطا مستقيما»: الفتح – 2 يدل على كونها مشتملة على البشارة بفتح مكة.
بيان ذلك أن الكعبة كانت مشغولة في صدر الإسلام بأصنام المشركين و أوثانهم و كان السلطان معهم، و الإسلام لم يقو بعد بحيث يظهر قهره و قدرته، فهدى الله رسوله إلى استقبال بيت المقدس، لكونه قبلة لليهود، الذين هم أقرب في دينهم من المشركين إلى الإسلام، ثم لما ظهر أمر الإسلام بهجرة رسول الله إلى المدينة، و قرب زمان الفتح و توقع تطهير البيت من أرجاس الأصنام جاء الأمر بتحويل القبلة و هي النعمة العظيمة التي اختص به المسلمون، و وعد في آية التحويل إتمام النعمة و الهداية و هو خلوص الكعبة من أدناس الأوثان، و تعينها لأن تكون قبلة يعبد الله إليها، و يكون المسلمون هم المختصون بها، و هي المختصة بهم، فهي بشارة بفتح مكة، ثم لما ذكر فتح مكة حين فتحت أشار إلى ما وعدهم به من إتمام النعمة و البشارة بقوله و يتم نعمته عليك و يهديك صراطا مستقيما الآية.
و هذا الكلام و إن كان بظاهره وجيها لكنه خال عن التدبر، فإن ظاهر الآيات لا يساعد عليه، إذ الدال على وعد إتمام النعمة في هذه الآية: و لأتم نعمتي عليكم و لعلكم تهتدون، الآية إنما هو لام الغاية، و آية سورة الفتح التي أخذها إنجازا لهذا الوعد و مصداقا لهذه البشارة أعني قوله تعالى: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر و يتم نعمته عليك و يهديك صراطا مستقيما، مشتملة على هذه اللام بعينها، فالآيتان جميعا مشتملتان على الوعد الجميل بإتمام النعمة، على أن آية الحج مشتملة على وعد إتمام النعمة لجميع المسلمين، و آية الفتح على ذلك لرسول الله خاصة فالسياق في الآيتين مختلف.
و لو كان هناك آية تحكي عن إنجاز الوعد الذي تشتمل عليه الآيتان لكان هو قوله تعالى «اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا»: المائدة – 4، و سيجيء الكلام في معنى النعمة و تشخيص هذه النعمة التي يمتن بها الله سبحانه في الآية.
و نظير هاتين الآيتين في الاشتمال على عدة إتمام النعمة قوله تعالى «و لكن يريد ليطهركم و ليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون»: المائدة – 6، و قوله تعالى «كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون»: النحل – 81، و سيجيء إن شاء الله شيء من الكلام المناسب لهذا المقام في ذيل هذه الآيات.
قوله تعالى: كما أرسلنا فيكم رسولا منكم، ظاهر الآية أن الكاف للتشبيه و ما مصدرية، فالمعنى: أنعمنا عليكم بأن جعلنا لكم البيت الذي بناه إبراهيم، و دعا له بما دعا من الخيرات و البركات قبلة كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا و يعلمكم الكتاب و الحكمة و يزكيكم مستجيبين لدعوة إبراهيم، إذ قال هو و ابنه إسماعيل ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك و يعلمهم الكتاب و الحكمة و يزكيهم، و فيهم امتنان عليهم بالإرسال كالامتنان بجعل الكعبة قبلة، و من هنا يظهر أن المخاطب بقوله فيكم رسولا منكم، هو الأمة المسلمة، و هو أولياء الدين من الأمة خاصة بحسب الحقيقة، و المسلمون جميعا من آل إسماعيل – و هم عرب مضر – بحسب الظاهر، و جميع العرب بل جميع المسلمين بحسب الحكم.
قوله تعالى: يتلوا عليكم آياتنا، ظاهره آيات القرآن لمكان قوله يتلوا، فإن العناية في التلاوة إلى اللفظ دون المعنى، و التزكية هي التطهير، و هو إزالة الأدناس و القذارات، فيشمل إزالة الاعتقادات الفاسدة كالشرك و الكفر، و إزالة الملكات الرذيلة من الأخلاق كالكبر و الشح، و إزالة الأعمال و الأفعال الشنيعة كالقتل و الزنا و شرب الخمر و تعليم الكتاب و الحكمة، و تعليم ما لم يكونوا يعلمونه يشمل جميع المعارف الأصلية و الفرعية.
و اعلم: أن الآيات الشريفة تشتمل على موارد من الالتفات، فيه تعالى بالغيبة و التكلم وحده و مع الغير، و في غيره تعالى أيضا بالغيبة و الخطاب و التكلم، و النكتة فيها غير خفية على المتدبر البصير.
بحث روائي
في المجمع، عن القمي: في تفسيره في قوله تعالى سيقول السفهاء الآية عن الصادق (عليه السلام) قال تحولت القبلة إلى الكعبة بعد ما صلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس و بعد مهاجرته إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس سبعة أشهر قال ثم وجهه الله إلى مكة و ذلك أن اليهود كانوا يعيرون على رسول الله يقولون أنت تابع لنا تصلي إلى قبلتنا فاغتم رسول الله من ذلك غما شديدا و خرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء ينتظر من الله في ذلك أمرا فلما أصبح و حضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بني سالم و قد صلى من الظهر ركعتين فنزل جبرئيل فأخذ بعضديه و حوله إلى الكعبة و أنزل عليه قد نرى تقلب وجهك في السماء – فلنولينك قبلة ترضيها – فول وجهك شطر المسجد الحرام فكان قد صلى ركعتين إلى بيت المقدس و ركعتين إلى الكعبة فقالت اليهود و السفهاء ما وليهم عن قبلتهم التي كانوا عليها أقول و الروايات الواردة من طرق العامة و الخاصة كثيرة مودعة في جوامع الحديث قريبة المضامين و قد اختلف في تاريخ الواقعة و أكثرها و هو الأصح أنها كانت في رجب السنة الثانية من الهجرة الشهر السابع عشر منها و سيجيء بعض ما يتعلق بالمقام في بحث على حدة إن شاء الله.
و عن طرق أهل السنة و الجماعة: في شهادة هذه الأمة على الناس و شهادة النبي عليهم أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا و هو أعلم فيؤتى بأمة محمد فيشهدون فتقول الأمم من أين عرفتم فيقولون عرفنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق فيؤتى بمحمد و يسأل عن حال أمته فيزكيهم و يشهد بعدالتهم و ذلك قوله تعالى فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد.
أقول ما يشتمل عليه هذا الخبر و هو مؤيد بأخبار أخر نقلها السيوطي في الدر المنثور، و غيره من تزكية رسول الله لأمته و تعديله إياهم لعله يراد به تعديله لبعضهم دون جميعهم و إلا فهو مدفوع بالضرورة الثابتة من الكتاب و السنة و كيف تصحح أو تصوب هذه الفجائع التي لا تكاد، توجد و لا أنموذجة منها في واحدة من الأمم الماضية؟ و كيف يزكي و يعدل فراعنة هذه الأمة و طواغيتها؟ فهل ذلك إلا طعن في الدين الحنيف و لعب بحقائق هذه الملة البيضاء، على أن الحديث مشتمل على إمضاء الشهادة النظرية دون شهادة التحمل.
و في المناقب، في هذا المعنى عن الباقر (عليه السلام): و لا يكون شهداء على الناس إلا الأئمة و الرسل، و أما الأمة فغير جائز أن يستشهدها الله و فيهم من لا تجوز شهادته على حزمة بقل.
و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: لتكونوا شهداء على الناس – و يكون الرسول عليكم شهيدا الآية، فإن ظننت أن الله عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين أ فترى أن من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب الله شهادته يوم القيامة، و يقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية؟ كلا! لم يعن الله مثل هذا من خلقه، يعني الأمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم كنتم خير أمة أخرجت للناس و هم الأمة الوسطى و هم خير أمة أخرجت للناس.
أقول: و قد مر بيان ذلك في ذيل الآية بالاستفادة من الكتاب.
و في قرب الإسناد، عن الصادق (عليه السلام) عن أبيه عن النبي قال: مما أعطى الله أمتي و فضلهم على سائر الأمم أعطاهم ثلاث خصال لم يعطها إلا نبيا إلى أن قال و كان إذا بعث نبيا جعله شهيدا على قومه، و إن الله تبارك و تعالى جعل أمتي شهيدا على الخلق، حيث يقول ليكون الرسول شهيدا عليكم و تكونوا شهداء على الناس الحديث.
أقول: و الحديث لا ينافي ما مر، فإن المراد بالأمة الأمة المسلمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم.
و في تفسير العياشي، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): في حديث يصف فيه يوم القيامة، قال (عليه السلام) يجتمعون في موطن يستنطق فيه جميع الخلق، فلا يتكلم أحد إلا من أذن له الرحمن و قال صوابا، فيقام الرسول فيسأل فذلك قوله لمحمد فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد – و جئنا بك على هؤلاء شهيدا، و هو الشهيد على الشهداء، و الشهداء هم الرسل و في التهذيب، عن أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام) قال،: قلت له أمره أن يصلي إلى بيت المقدس؟ قال نعم أ لا ترى أن الله تبارك و تعالى يقول و ما جعلنا القبلة التي كنت عليها – إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه الآية.
أقول: مقتضى الحديث كون قوله تعالى التي كنت عليها وصفا للقبلة، و المراد بها بيت المقدس، و أنه القبلة التي كان رسول الله عليها، و هو الذي يؤيده سياق الآيات كما تقدم.
و من هنا يتأيد ما في بعض الأخبار عن العسكري (عليه السلام): أن هوى أهل مكة كان في الكعبة فأراد الله أن يبين متبع محمد من مخالفيه باتباع القبلة التي كرهها، و محمد يأمر بها، و لما كان هوى أهل المدينة في بيت المقدس أمرهم بمخالفتها و التوجه إلى الكعبة ليبين من يتبع محمدا فيما يكرهه فهو مصدقه و موافقه الحديث، و به يتضح أيضا فساد ما قيل: إن قوله تعالى التي كنت عليها مفعول ثان لجعلنا، و المعنى: و ما جعلنا القبلة، هي الكعبة التي كنت عليها قبل بيت المقدس، و استدل عليها بقوله تعالى إلا لنعلم من يتبع الرسول، و هو فاسد، ظهر فساده مما تقدم.
و في تفسير العياشي، عن الزبيري عن الصادق (عليه السلام) قال: قلت له أ لا تخبرني عن الإيمان، أ قول هو و عمل أم قول بلا عمل؟ فقال الإيمان عمل كله و القول بعض ذلك العمل، مفروض من الله، مبين في كتابه، واضح نوره ثابت حجته، يشهد له بها الكتاب و يدعو إليه، و لما أن صرف الله نبيه إلى الكعبة عن بيت المقدس قال المسلمون: للنبي أ رأيت صلاتنا التي كنا نصلي إلى بيت المقدس، ما حالنا فيها و ما حال من مضى من أمواتنا، و هم كانوا يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله و ما كان الله ليضيع إيمانكم – إن الله بالناس لرءوف رحيم، فسمى الصلاة إيمانا، فمن اتقى الله حافظا لجوارحه موفيا كل جارحة من جوارحه بما فرض الله عليه لقي الله مستكملا لإيمانه من أهل الجنة، و من خان في شيء منها أو تعدى ما أمر الله فيها لقي الله ناقص الإيمان: أقول: و رواه الكليني أيضا، و اشتماله على نزول قوله و ما كان الله ليضيع إيمانكم الآية، بعد تغيير القبلة لا ينافي ما تقدم من البيان.
و في الفقيه،: أن النبي صلى إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة بمكة و تسعة عشر شهرا بالمدينة، ثم عيرته اليهود فقالوا إنك تابع لقبلتنا، فاغتم لذلك غما شديدا، فلما كان في بعض الليل خرج يقلب وجهه في آفاق السماء، فلما أصبح صلى الغداة، فلما صلى من الظهر ركعتين جاء جبرئيل فقال له قد نرى تقلب وجهك في السماء – فلنولينك قبلة ترضيها فول وجهك شطر المسجد الحرام الآية، ثم أخذ بيد النبي فحول وجهه إلى الكعبة، و حول من خلفه وجوههم حتى قام الرجال مقام النساء و النساء مقام الرجال، فكان أول صلاته إلى بيت المقدس و آخرها إلى الكعبة فبلغ الخبر مسجدا بالمدينة و قد صلى أهله من العصر ركعتين فحولوا نحو القبلة، فكان أول صلاتهم إلى بيت المقدس و آخرها إلى الكعبة فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين: أقول: و روى القمي نحوا من ذلك، و أن النبي كان في مسجد بني سالم.
و في تفسير العياشي، عن الباقر (عليه السلام): في قوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام الآية، قال استقبل القبلة، و لا تقلب وجهك عن القبلة فتفسد صلاتك، فإن الله يقول لنبيه في الفريضة فول وجهك شطر المسجد الحرام – و حيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره.
أقول: و الأخبار في نزول الآية في الفريضة و اختصاصها بها كثيرة مستفيضة.
و في تفسير القمي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه، الآية قال نزلت هذه الآية في اليهود و النصارى، يقول الله تبارك و تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه يعني يعرفون رسول الله كما يعرفون أبناءهم لأن الله عز و جل قد أنزل عليهم في التوراة و الإنجيل و الزبور صفة محمد و صفة أصحابه و مهاجرته، و هو قوله تعالى: محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار – رحماء بينهم تريهم ركعا سجدا – يبتغون فضلا من الله و رضوانا – سيماهم في وجوههم من أثر السجود – ذلك مثلهم في التوراة و مثلهم في الإنجيل، و هذه صفة رسول الله في التوراة و صفة أصحابه، فلما بعثه الله عز و جل عرفه أهل الكتاب كما قال جل جلاله: فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به: أقول: و روى نحوا منه في الكافي، عن علي (عليه السلام) و في أخبار كثيرة من طرق الشيعة: أن قوله تعالى، أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا الآية في أصحاب القائم، و في بعضها أنه من التطبيق و الجري.
و في الحديث من طرق العامة: في قوله تعالى: و لأتم نعمتي عليكم، عن علي تمام النعمة الموت على الإسلام.
و في الحديث، من طرقهم أيضا: تمام النعمة دخول الجنة
بحث علمي
تشريع القبلة في الإسلام، و اعتبار الاستقبال في الصلاة – و هي عبادة عامة بين المسلمين – و كذا في الذبائح، و غير ذلك مما يبتلي به عموم الناس أحوج الناس إلى البحث عن جهة القبلة و تعيينها و قد كان ذلك منهم في أول الأمر بالظن و الحسبان و نوع من التخمين، ثم استنهض الحاجة العمومية الرياضيين من علمائهم أن يقربوه من التحقيق، فاستفادوا من الجداول الموضوعة في الزيجات لبيان عرض البلاد و طولها، و استخرجوا انحراف مكة عن نقطة الجنوب في البلد، أي انحراف الخط الموصول بين البلد و مكة عن الخط الموصول بين البلد و نقطة الجنوب خط نصف النهار بحساب الجيوب و المثلثات، ثم عينوا ذلك في كل بلدة من بلاد الإسلام، بالدائرة الهندية المعروفة المعينة لخط نصف النهار، ثم درجات الانحراف و خط القبلة.
ثم استعملوا لتسريع العمل و سهولته الآله المغناطيسية المعروفة بالحك، فإنها بعقربتها تعين جهة الشمال و الجنوب، فتنوب عن الدائرة الهندية في تعيين نقطة الجنوب و بالعلم بدرجة انحراف البلد يمكن للمستعمل أن يشخص جهة القبلة.
لكن هذا السعي منهم – شكر الله تعالى سعيهم – لم يخل من النقص و الاشتباه من الجهتين جميعا.
أما من جهة الأولى: فإن المتأخرين من الرياضيين عثروا على أن المتقدمين اشتبه عليهم الأمر في تشخيص الطول، و اختل بذلك حساب الانحراف فتشخيص جهة الكعبة، و ذلك أن طريقهم إلى تشخيص عرض البلاد – و هو ضبط ارتفاع القطب الشمالي – كان أقرب إلى التحقيق، بخلاف الطريق إلى تشخيص الطول، و هو ضبط المسافة بين النقطتين المشتركتين في حادثة سماوية مشتركة كالخسوف بمقدار سير الشمس حسا عندهم، و هو التقدير بالساعة، فقد كان هذا بالوسائل القديمة عسيرا و على غير دقة لكن توفر الوسائل و قرب الروابط اليوم سهل الأمر كل التسهيل، فلم تزل الحاجة قائمة على ساق، حتى قام الشيخ الفاضل البارع الشهير بالسردار الكابلي – رحمة الله عليه – في هذه الأواخر بهذا الشأن، فاستخرج الانحراف القبلي بالأصول الحديثة، و عمل فيه رسالته المعروفة بتحفة الأجلة في معرفة القبلة و هي رسالة ظريفة بين فيها طريق عمل استخراج القبلة بالبيان الرياضي و وضع فيها جداول لتعيين قبلة البلاد.
و من ألطف ما وفق له في سعيه – شكر الله سعيه – ما أظهر به كرامة باهرة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في محرابه المحفوظ في مسجد النبي بالمدينة 25 – 75 – 20 و ذلك: أن المدينة على ما حاسبه القدماء كانت ذات عرض 25 درجة و طول 75 درجة 20 دقيقة، و كانت لا توافقه قبلة محراب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مسجده، و لذلك كان العلماء لا يزالون باحثين في أمر قبلة المحراب و ربما ذكروا في انحرافه وجوها لا تصدقها حقيقة الأمر لكنه – رحمه الله – أوضح أن المدينة على عرض 24 درجة 57 دقيقة و طول 39 درجة 59 دقيقة و انحراف درجة 45 دقيقة تقريبا.
يتبع…
2018-08-24