الرئيسية / صوتي ومرئي متنوع / شبهات و ردود – المحقق السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

شبهات و ردود – المحقق السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

الشريعة الاسلامية من معين السنة النبوية بين حماية العلماء و تزييف العلمانيين

القسم السابع

7 ـ السنّة الفعليّة و حجيّتها على حساب القوليّة

اُطلقت « السنّة » في المصطلح الإسلامي على ما جاء عن النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) خارج النصّ القرآني ، وقد عبّر عن كلّ تشريع كان مصدره الرسول بالسنّة ، وعمّم هذا المصطلح على ما قاله الرسول ، وما فلعه ، وما قرّر عليه الآخرين بسكوته الكاشف عن رضاه ، وأجمع المسلمون أنّ ما قاله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) هو سنّة ، وعارض بعض في كون ما فعله كذلك ، باعتبار أنّه بشر تصدر منه الأفعال العادية من دون أن تكون لها صفة التشريع! لكن ذلك غير صحيح ، فمضافاً إلى أنّ اسم « السنّة »

 

يطلق على الطريقة التي وضع للاقتداء والاتّباع ، وما أتى به الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) من فعل لا يكون إلاّ حسناً قابلا لذلك ، فإنّ الفعل والعمل أقوى دلالة على الإرادة من مجرّد القول ، فإذا فعل شيئاً فإنّه قد أحبّه لنفسه ، ونسبته إليه أوضح من مجرّد القول من دون العمل ، فالسنّة الفعليّة أيضاً حجّة ، يجب اتّباعها والاستنان بها . أمّا المؤلّف فقد أبدى رأياً غريباً حين جعل السنّة الفعليّة حجّة قطعيّة ، وشكّك في القولية ، حيث قال في ص20 : « أمّا العبادات فقد تعلّمها الناس من النبي ( صلى الله عليه وآله )حال حياته وتناقلوها عنه بالتواتر جيلا بعد جيل ، ولم يتعلّموها من الكتب ، ولم يكن في بداية الإسلام ثمّة حاجة لتدوينها ، فقد كانت الممارسة الفعليّة تقوم مقام كتابتها ، ولذلك لم يقع الكذب فيها ، ولم يقع خلاف على صحّتها إلاّ ما ندر » . وأضاف : « أمّا المعاملات فقد جاءت على لسان النبي ( صلى الله عليه وآله ) بشكل أحاديث أفاردية أطلقوا عليها اسم ( أحاديث الآحاد ) » . وهكذا حاول فوزي التأكيد على السنّة الفعليّة وحجيّتها على حساب السنّة القوليّة .

 

8 ـ أخبار الآحاد

ويؤكّد المؤلّف على أنّ التشريعات المعاملاتية تبتني على « أحاديث الآحاد » وهي غير قابلة لإثبات التشريع بها فيقول في ص23 : « إنّ أحاديث الآحاد . . لا تشكّل من وجهة القواعد التشريعيّة تشريعاً عامّاً لجميع المسلمين ، لأنّ من أبسط الشروط في كلّ تشريع ـ قديماً وحديثاً ـ هو إعلانه على الناس لكي يلتزموا به ويعملوا بأحكامه ، وإنّ الإسرار به إلى شخص أو شخصين على انفراد لا يعطيه صفة التشريع العامّ الملزم لجميع الناس ، ولذلك كانت أحاديث الآحاد ، وحول جواز الأخذ بها منذ عهد الصحابة موضع خلاف بين الفقهاء ، وتعتبر أحاديث ( الآحاد ) عند أغلب الفقهاء أحاديث ظنّية ، وهي لا ترقى إلى مرتبة اليقين بصحّتها » .

 

إنّ البحث عن حجيّة أحاديث الآحاد قد وقع في علم اُصول الفقه ـ المعدّ للبحث عن مصادر التشريع ـ بشكل واسع ومستوعب لكلّ جوانبه ، وليس في ما أورده جديد يذكر ، وقد التزم الشيعة منذ القدم بعدم حجيّة الخبر الواحد ، وأنّه لا يفيد علماً ولا يوجب عملا ، والمحقّقون من أعلام الشيعة الاُصوليون إنّما يلتزمون بالأخبار المتواترة ، ثمّ المعتضدة بالشهرة العمليّة على طبقها ، وبهذا تخرج أخبار الآحاد إلى مرحلة الإعلان العامّ الذي هو ضروري في كلّ تشريع . وأمّا الأخبار الواردة حول التشريعات ـ سواء في العبادات أو المعاملات ـ فلم تخرج عن هذا الأصل إلاّ نادراً ، فلم يدوّن في المصادر الحديثيّة إلاّ ما كان عليه العمل العاضد لكونه مصدراً للتشريع ، بعكس ما يريد أن يصوّره المؤلّف تماماً .

 

9 ـ نقد المتن

وممّا ذكره المؤلّف من السلبيّات على السنّة هو « نقد الحديث من جهة المتن » ففي ص241 أورد ما أثاره أحمد أمين المصري في « فجر الإسلام » من : « أنّ العلماء اعتنوا بنقد الإسناد أكثر ممّا عنوا بنقد المتن ، فقلّ [حسب تعبيره] أن تظفر بنقد من ناحية ما نسب إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) . . . ولم نظفر منهم في هذا الباب بعشر معشار ما عنوا به في جرح الرجال وتعديلهم » . وعلى الرغم من إشارة أحمد أمين إلى وجود نقد المتن عند علماء الحديث ـ ولو أنّه قلّل من شأنه ـ إلاّ أنّ المؤلّف لم يحاول أن يبحث عن قواعد ذلك ، بل ركّز على تشويه صورة السنّة باعتبار توجّه هذا النقد إليها ، وسرد أمثلة للنقد العقلي لمتون أحاديث ، وليس هو منفرداً في ذكرها ونقدها ، بل قد نقد العلماء هذه المجموعة واُخرى أكبر منها عند بحثهم عن نقد المتن ،

 

ولكنّ هذه المجموعة لا تشكّل عقبة أمام الحديث ، ولا تؤدّي إلى تضعيف موقع السنّة في الحجيّة والمصدرية للتشريع كما يحاول أن يوحي المؤلّف . وأمّا نقد المتن فقد تعرّض له العلماء في علوم عديدة وتحت عناوين منها علم الدراية ومصطلح الحديث بعنوان ( الحديث المعلّل ) وفي ( علم الحديث ) بعنوان ( إختلاف الحديث ) وفي علم اُصول الفقه بعنوان ( تعارض الأدلّة والحديثين المتعارضين ) . ويبذل الفقهاء جهوداً واسعة في الجمع بين الأخبار المختلفة الدلالة ، للتخلّص من التنافي بينها ، أو الترجيح حسب الطرق المقرّرة في اُصول الفقه ، ومن خلال هذه البحوث يمكن إستخلاص القواعد المضبوطة لنقد المتن ، والتوثيق الداخلي للأحاديث ، بعد الفراغ من البحوث السندية . فأيّن أحمد أمين ومن لفّ لفّه من هذه الذخيرة العلمية ، وهذه الجهود الجبّارة المبذولة من أجل صيانة السنّة ممّا يشينها؟! حتّى يخوضوا في تيّارها الزاخر ، ويحاولوا بدراساتهم الضحلة ، القدح فيها؟!!

 

10 ـ بين العبادات و المعاملات

وممّا أثاره السلبيّات التي ذكرها للشريعة ، وكرّره في مناسبات عديدة قوله في ص16 : « إنّ رجال الفقه الإسلامي جمعوا بين العبادات و المعاملات ، و كوّنوا منهما شريعة واحدة ، هي الشريعة الإسلامية ، وصبغوها بصبغة دينيّة ضيّقة ، ذات أبعاد محدودة ، غير قابلة للتغيير والتبديل حسب مقتضى تطوّر المجتمع و نموّه » . وجعل السبب في إختلاف التشريع بين المذاهب : « إنّ السنّة شملت العبادات والمعاملات على حدّ سواء » . وأضاف : « أمّا العبادات فقد تعلّمها الناس من النبي ( صلى الله عليه وآله ) حال حياته ، وتناقلوها عنه بالتواتر ، جيلا بعد جيل ، ولم يتعلّموها من الكتب ، ولم تكن في بداية الإسلام ثمّة حاجة لتدوينها ، فقد كانت الممارسة الفعليّة تقوم مقام كتابتها ، ولذلك لم يقع الكذب فيها ، ولم يقع خلاف على صحّتها إلاّ ما ندر » . وأضاف : « أمّا المعاملات فقد جاءت على لسان النبي ( صلى الله عليه وآله ) بشكل أحاديث أفرادية أطلقوا عليها أحاديث الآحاد ، وهي التي رواها صحابي واحد ، قال إنّه سمعها من النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) على انفراد ،

 

ولم يرو على لسان صحابي آخر إلاّ القليل منها ، ولم يأمر النبي ( صلى الله عليه وآله )بكتابتها مثلما كتب القرآن من قبل كُتّاب الوحي ، ولم يعلن النبي ( صلى الله عليه وآله ) هذا القسم من الشريعة على عامّة المسلمين مثلما كانت تعلين آيات القرآن » . و يقول في ص21 : « ولم تنشر هذه الأحاديث بين الناس في حياته ، فقد رويت معظم أحكام المعاملات بعد وفاته ، وبعضها روي بعد وفاة الصحابي الذي سمعها من النبي ( صلى الله عليه وآله ) » . و يقول في ص124 : « المعاملات هي الأحكام أو التشريعات التي تنظّم العلاقات بين الناس وهي علاقات متغيّرة ومتبدّلة تبعاً لتغيّر المجتمع وتبدّل المصالح » . ومع وضوح خطئه في أصل دعواه بالنسبة إلى العبادات ، وعدم وقوع الخلاف في صحّة أحكامها ، وعدم وقوع الكذب في أخبارها ، فإنّ وقوع الخلاف في العبادات بين المذاهب ، بل بين المذهب الواحد أمر لا ينكر ، فهذه « البسملة » قد وقع النزاع في قرآنيّتها ، وجزئيّتها للسور كلّها ، أو للحمد فقط ، وجواز قراءتها في الصلاة أو وجوبها ، وفي جهريّتها أو أخفاتها ، مع وضوح كتابتها في المصحف وإجماع المسلمين على تلاوتها .

 
وهذا الوضوء ، مع أنّه عمل يقام به في اليوم أكثر من مرّة ، فقد اختلفوا في كيفيّته ، و في المسح للأرجل أو غسلها ، وفي مقدار مسح الرأس ، وللأحاديث المختلقة والمختلفة دور كبير في وقوع ذلك . فإنّ مجمل ما ذكره المؤلّف في التفرقة بين العبادة والمعاملة ، وما ذكره من أمثلة الأحكام المعاملية والإشكاليات التي تصوّرها فيها ، يدلّ على أنّه بعيد كلّ البعد عن مصادر الفقه الإسلامي ، وبالأخصّ الفقه الشيعي ، فليس من الفقهاء المسلمين من لم يفرّق بين العبادات والمعاملات ، فالشهيد الأوّل من علماء الشيعة الاثني عشرية ، فرّق بينهما بأنّ الغرض من العبادة هي الآخرة ، بينما الغرض من المعاملة هي الدنيا . لكنّ الشرع قد حدّد لكلّ منهما اُصولا وقواعد وتراتيب وشروطاً ، ومعرفة كلّ ذلك متوقّف على البلوغ بالطرق الشرعيّة المعتمدة المقرّرة كأدلّة في اُصول الفقه ، ولا فرق بين العبادة والمعاملة في ذلك ، إلاّ أنّ الأحكام والاُمور المتعلّقة بالعبادة كلّها تعبّدية محضة ، لكن ما يرتبط بالمعاملات فقد علّقها الشارع على مصالح العباد ومفاسدهم ، و لكن تدخّل في تحديد بعض المصالح والمفاسد بالتعبّديات ، فما كان حلالا شرعاً فلابدّ أن يكون للخلق فيه مصلحة ، وما كان حراماً ففيه مفسدة ، وإن لم يدرك الناس ذلك . أمّا ما سوى ذلك ممّا لم يرد من الشرع الكريم فيه حكم بالحرمة ،

 

فهو على أصالة الحلّية شرعاً ، فيبقى شرط أن يكون فيه منفعة مقصودة للعقلاء وممّا يبذلون بإزائه مالا ، وإلاّ فأكل المال بين الناس بالطرق الملتوية ، سواء كانت بعقود مزيّفة أو عهود ظالمة ، أو بدفع ما لا قيمة له ولا مالية ، فهو منهيّ عنه شرعاً ، فتداول الثروة وإنتقالها لابدّ أن يبتني على هذه الاُسس الشرعية ، وهذا لا يتنافي أن تكون المصالح والمفاسد تتغيّر ، وتتبعها الأحكام فعندما لم يتقدّم الطبّ ، لم يكن للدم النجس أيّة منفعة متصوّرة ، وبما أنّ تناوله وشربه حرام ، فإنّ الفقهاء حرّموا بيعه ، وأمّا في العصر الحديث فبما أنّ الانتفاع به أصبح شيئاً متعارفاً بل وضرورياً للحياة أحياناً ، فبيعه حلال وليس دفع الثمن عليه بطريقة الباطل ، وإن كانت الإستفادة في الأكل منه لا تزال حراماً . وهكذا يدخل « القصد العقلائي » في شرعيّة المعاملة في الإسلام ، فأين المؤلّف من هذه الحقائق التي هي أوّلية في الفقه الإسلامي ، حتّى راح يهرّج ويناور بما ذكره من الأمثلة التي قد أنهكها فقهاء الإسلام في كتبهم المفصّلة وموسوعاتهم الفقهيّة بحثاً وتنقيباً ،

 

إلاّ أنّه تتبّع بعض المذاهب الشاذّة والأقوال النادرة وجمع منها مجموعة ضئيلة ، وراح يهرّج ويزمّر ، زاعماً أنّه قد توصّل إلى شيء جديد ، مع أنّه قد ترك الآراء السديدة ، والمناهج القيّمة في نفس هذه المسائل التي ذكرها ، وليس ذلك إلاّ قصوراً منه لتناول الفقه ، أو تعمّداً منه للتوصّل إلى غرضه في « تزييف الشريعة »! ولذلك ، فإنّنا أعرضنا عن متابعة ما جاء في القسم الثالث من كتابه والذي شحنه بمثل هذه التّرهات حول بعض المسائل الفقهيّة ، إعتماداً على ما جاء في المصادر الأساسيّة ، مع أنّ أكثر ما ذكره من الإشكالات إنّما تعتمد على آرائه التي عدّها إنتقاداً للسنّة ، وقد أفصحنا عن وجوه تناقضها ، فلا تبقى لما أورده أهميّة تحتاج إلى صرف الجهد في تفنيدها .

 

11 ـ نظام الحكم في الإسلام

يؤكّد المؤلّف على أنّ الدين الإسلامي خال من أيّ تشريع يحدّد النظام لإدارة البلاد وحكم العباد ، ويحاول أن يوحي بأنّ الحكم الذي كان في البلاد الإسلامية طيلة القرون ، إنّما هو حكم إسلامي . فهو يقول في ص14 : « لقد كان الحكم في الإسلام ـ على توالي العصور ـ يقوم على الحكم الفردي الاستبدادي المطلق ، القائم على إدارة فرد واحد هو الخليفة ، أو الإمام ، أو السلطان ، والذي لا يعلو عليه إمام ولا سلطان ، ولا تقوم إلى جانبه هيئة أو جماعة لها صفة شرعية تقاسمه الحكم أو تسدي إليه المشورة والنصح في إدارة شؤون الدولة ، ولم يعرف المسلمون الحكم الشعبي . وقد خلت الشريعة الإسلامية من أي تشريع يتعلّق بنظام الحكم في الإسلام سوى آية الشورى ، وقد تجنّب رجال الفقه الإسلامي البحث في هذه الشورى ، وفي أيّ بحث يتعلّق بنظام الحكم في الإسلام ، لما له من مساس بسلطة الخليفة المطلقة » . إنّ هذه الإشكالية تعتمد على ثلاثة اُسس : الأوّل : الخلط بين الحكم في الإسلام كدين وشريعة ، والحكم في تاريخ المسلمين كواقع . الثاني : التغاضي عن وجود معارضة مستمرّة لأنظمة الحكم التي كانت سائدة في البلاد الإسلامية ،

 

منذ وفاة الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) وحتّى عصرنا الحاضر ، على طول التاريخ . الثالث : الجهل بالتراث الإسلامي الضخم الذي خصّ بالبحث والدراسات موضوع « نظام الحكم والإدارة في الإسلام » . أمّا في الناحية الاُولى : فإنّ الاعتماد على مجريات تاريخ المسلمين ، وما حدث في القرون التالية ، وحمل كلّ ذلك على دين الإسلام وشريعته فهذا من أبشع أنواع التحريف المتعمّد في الدراسات التي تكتبها العلمانية ، ويشيعها الغرب ، بحيث تحمّل مسؤولية ما في هذه الأدوار كلّها على الإسلام ، ويحاسب بذلك المسلمون المتديّنون به . بينما التفريق بين السلطة التي تفرضها الشريعة الإسلامية ، وبين السلطة التي سيطرت باسم الدين ، أمر لا يخفى على أيّ دارس في الحضارة الإسلامية ، وعارف بالتاريخ الإسلامي ،

 

فإذا كان للدين سلطة عليا يجب على المسلمين طاعتها ، فهذا شيء ، أمّا أن تكون هذه السلطة بيد الحكّام الذين حكموا ـ فعلا ـ البلاد الإسلامية ، فهذا شيء آخر ، والتاريخ الماثل لا يقوم إلاّ على أساس ضبط ما هو الحادث من تسلّط مجموعة من الناس باسم الدين ، وأمّا السلطة التي يفرضها الدين ، وقرّرت لها الشريعة اُصولا ، وطرقاً وأحكاماً ، فلها واقع آخر غير ما حدث وكان . و يحاول العلمانيون أن يوحوا بأنّ الموجود والمقروء من التأريخ هو الذي يمثّل حقيقة سلطة الدين ، إذ بعد تفريغهم للدين من أيّ نظام صالح للإدارة والحكم ، تبقى هذه السلطة بيد المسيطرين على دفّة الحكم فهم المستفيد الوحيد من كلّ صلاحيات سلطة الدين ، والأنظمة الحاكمة هي تقلّب الاُمور إلى « دين وتشريع » و تستفيد منها ، بدعة لتفرضها فتكون حقّاً ثابتاً في الشريعة ، وحتّى لو فرض وجود سلطة للدين ، فإنّها في هذا الإطار لا يمكن تحقّقها ، بل تفقد حيويّتها ومصداقيّتها للنظام الصحيح ، عند الجماهير . وهذا الإيحاء فيه تعمّد إلى إلغاء وعي الجماهير ، وفصلها عن كلّ من الدين وفهمه ، و من السلطة والإدارة . و لكن لو كان للدين سلطة ،

 

ولو في بطون الكتب ، وواقع المعرفة الدينيّة ، وما دام وعي الجماهير كافياً للوقوف أمام كلّ سبل التأطير للدين وإستغلال سلطته ، وتوظيف اسمه وأفكاره في سبيل الأطماع السلطوية ، فهذا واقع ودليل حيّ على إمكان إحياء سلطة الدين ؟! فلماذا يحاول العلمانيّون ، أن يغمضوا أعينهم عن ذلك الأمر الواقع ، ويحاولون إنكاره وتزييفه؟! ولماذا يريدون أن يفرّغوا الجماهير من كلّ وعي ومعرفة وإدراك للإسلام ، ويفرضوا عليه حتميّات دبّرت بليل من قبل الغرب وعملائه؟! ولماذا يصطفّون اليوم إلى جانب النظم السياسيّة الراهنة ، في مواجهة المدّ الإسلامي ، والصحوة الدينيّة لدى الجماهير المنادية بتطبيق الشريعة الإسلامية؟! ووصفها بـ« الاُصولية » كاتّهام وقذف؟! مع أنّ الجماهير المقذوفة ـ من قبل العلمانية ـ بالجهل والقصور عن درك مفهوم السلطة في الإسلام ، هم يعلمون بأنّ النظم الحاكمة في بلاد الإسلام لا تعترف بأيّة خطوة اُصولية ، بل هي في محاربة مستمرّة لها بكلّ أشكال القمع والإرهاب ، بدعم من الحضارة الغربية ، ومساعدة من العلمانية وتزييفها وعبثها بالتراث واُصوله ومصادره . وأمّا الناحية الثانية : فإنّ المؤلّف أغفل المعارضة التي قامت ضدّ أنظمة الحكم في التاريخ الإسلامي منذ البداية وحتّى اليوم ، فإنّ المعارضة السياسية لكلّ حاكم أو خليفة أو سلطان أو ملك أو رئيس أو أمير ، لم تزل تشكّل جزءاً مهمّاً من تاريخ المسلمين ، ولها آراؤها ، وتراثها ، وثوراتها ،

 

وحتّى الدول التي أقاموها على أساس من نظام الحكم فيها ، فكيف يتغاضى المؤلّف عن الثورات العلوية العديدة ، ووجهات نظرها التي بسطوها في عهودهم إلى المسلمين ، والتي تُعدّ كلّ واحدة منها نظاماً جاهزاً متكاملا لأشكال الحكومة في الإسلام؟! وهل يتجاهل المؤلّف « عهد الإمام علي ( عليه السلام ) لمالك الأشتر » الذي يعدّ وثيقة غنيّة وقيّمة لهذا النوع من الإدارة؟! وهو النصّ الموجود أمام المؤلّف فوزي ، لأنّه يراجع « نهج البلاغة » في كتابه مكرّراً ، فهو من مصادره؟! إنّ حركات المعارضة التي عاصرت الحكومات الإسلامية ، أثبتت وجود نظام للإسلام في الحكم والإدارة ، غير الذي جرى ويجري على أرض الإسلام ، وقد أعلنوها ثورات دموية لم تجفّ دماؤها ، وأوضحوا أُطروحاتهم في عهودهم التي نشروها وأظهروها للمسلمين . ولئن تمكّنت السلطات من القضاء عليها ، وإخماد ثوراتهم في زمنها وخنق أصواتهم ، وإبادة تراثهم ، فإنّهم لم يتمكّنوا من محو آثارهم وذكرهم ، بل بقيت دلالات في صفحات التاريخ تدلّ على عظمة الأعمال التي قاموا بها والنظرية التي بنوا عليها جهادهم . كما إنّ العلمانية اليوم ، ورغم تناسيها وتغافلها عن كلّ تلك الجهود ، فإنّا لا تتمكّن من طمس آثارها ،

 

وتجاهلها . وأمّا موقفه من التراث ، فيكفي لإثبات ذلك كلامه السابق ، حيث نفى فيه وجود ما يدلّ على أنّ للإسلام نظاماً في الحكم والإدارة ، بينما مئات المؤلّفات والبحوث والدراسات ، قد كتبت واُلّفت حول هذا الموضوع ، وقد احتوت على عشرات الأدلّة الشرعية الخاصة به ، كما استوعبت هذه المادّة صفحات عديدة من كتب الفقه الإسلامي قديماً وحديثاً ، وقد رصد صديقنا الاُستاذ الشيخ عبدالجبّار الرفاعي قائمة لهذا الموضوع الهامّ في موسوعة « مصادر النظام الإسلامي » وقد طبع باسم : مصادر الدراسة عن الدولة والسياسة في الإسلام ، يحتوي على أكثر من 3000 عنوان بحث ودراسة وكتاب حول الموضوع . فهل يعقل جهل المؤلّف فوزي بكلّ هذا؟! مع أنّه يتظاهر بالمعرفة لأنّه دخل في معمعة بحث « تدوين السنّة » الحسّاس؟!

شاهد أيضاً

مفاجآت القرن الـ 21: ملحمة فلسطين وأسطورة إيران

ناصر قنديل يبدو القتال الأميركي الإسرائيلي والغربي عموماً لإنكار صعود العملاق الإيراني وإبهار الملحمة الفلسطينيّة ...